كتاب منظومة منطق الطير فريد الدين العطار النيسابوري كتاب منظومة منطق الطير فريد الدين العطار النيسابوري تقديم المحقق:- أعلام التصوف الفارسي ثلاثة ، هم على التوالي سنائي الغزنوي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي . وقد حاز فريد الدين العطار هذه المنزلة الكبيرة بفضل ما قدمه للمكتبة الشرقية من مؤلفات ما زالت حتى اليوم تحظى بعظيم التقدير من جميع المهتمين بالتصوف الإسلامي داخل العالم الإسلامي ، ولدى جميع المستشرقين الذين أولوا التصوف الإسلامي جل اهتمامهم وعظيم همتهم . وإذا كانت جميع كتب فريد الدين العطار تحظى - حتى اليوم - بعظيم التقدير ، فأعظمها جميعا وأوسعها شهرة منظومته الخالدة ( منطق الطير ) والتي تشهد بإبداع صاحبها في النظم ، وتعد دليلا عظيما على تفوق الفرس في نظم القصة الشعرية منذ قرون عديدة ، كما أن المنظومة فوق كل ذلك واحدة من شوامخ الفكر الصوفي الإسلامي ، ولا غنى لأي مهتم بالتصوف الإسلامي عنها . ونتيجة لما حظيت به هذه المنظومة الفريدة في فكرها وحبكة قصتها ، أقدم عدد كبير من المستشرقين على دراستها ونقلها إلى لغاتهم ، فقد ترجمت إلى اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية ، وحظيت كذلك باهتمام مفكري الشرق ، فترجمت إلى اللغتين الهندية والتركية . ونتيجة للصلات العميقة الجذور بين الأدبين العربي والفارسي ، وكذلك الصلات الوطيدة بين التصوف العربي والتصوف الفارسي ، أقدمت على ترجمة هذه المنظومة إلى اللغة العربية ، لتكون في متناول. القارئ العربي المهتم بالتصوف الإسلامي ، والذي لم تتح له الفرصة لمعرفة اللغة الفارسية ، وليدرك مثقفونا أن الأدب الفارسي مليء بالكنوز التي تستحق منهم اهتماما كبيرا لا يقل عن اهتمامهم بالفكر الأوروبي ، ولعل هذا الاهتمام يحقق ما نصبو إليه من تكامل بين الثقافات الإسلامية المختلفة ، أملا في تدعيم أواصر الأخوة بين شعوب العالم الإسلامي ، وبخاصة الشعبين العربي والإيراني. وأخيرا أقدم عظيم شكري لكل من قدموا لي يد العون لإتمام هذه الترجمة ، سواء تمثل هذا العون في مشورة أتحفوني بها ، أو في كتاب أعانني على إنجاز الترجمة والدراسة حول المنظومة ، أو أي عون ساعدني على إتمام هذا العمل الكبير الذي يسعدني أن أقدمه إلى المكتبة العربية واللّه الموفق. ، بديع جمعة   الفصل الأول التعريف بفريد الدين العطار أولا : اسمه ولقبه وكنيته وأسرته : إن الغموض يكتنف سيرة العطار ويلقي ظلالا على كل جانب من جوانب حياته ، ويمتد هذا الغموض إلى اسمه ولقبه وكنيته : اسمه باتفاق أغلب المؤرخين وكتّاب التذاكر هو « محمد » فقد ورد في ( مصيبت ‌نامه ) ما ترجمته : واسمي محمد ، وقد أتممت هذا - أيها العزيز - على غرار ما فعل محمد أما لقبه : فباتفاق أغلب المؤرخين هو : فريد الدين ، ويقول الأستاذ نفيسي إن مؤلف كشف الظنون عند الحديث عن جوهر الذات وجواب نامه ذكر أن لقبه « زين الدين » وهذا خطأ ، فمن المرجع أنها كانت فريد الدين وحصل تحريف من الكاتب أو من الطباعة. ! ؟ كما يقول الأستاذ نفيسي إنه تخلص بهذا الاسم في اثنين وثمانين غزلية من مجموع الغزليات التي وصلتنا من إنتاجه والبالغ عددها أربع وخمسون وسبعمائة غزلية . وكنيته - كما يقول عوفي - أبو حامد ، ولأنه كان معاصرا للعطار فإن قوله يرجح أقوال الآخرين الذين قالوا إن كنيته " أبو طالب "   ولكننا نجد فريد الدين كثيرا ما كان يذكر اسمه على أنه « العطار » فقد قال في منطق الطير في ختم المنظومة : لقد نثرت يا عطار نافجة المسك المليئة بالأسرار، على هذا العالم في كل آونة. وهذا الاسم الذي تخلص به العطار كثيرا ، قد لصق به منذ كان يعمل صيدليا ويملك دكانا للعطارة . أما والد العطار فاسمه إبراهيم وكنيته « أبو بكر » ، وكان يعمل عطارا هو الآخر ، وكان من مريدي الشيخ الصوفي قطب الدين حيدر في قرية " كدكن" إحدى قرى نيسابور . وعلى الأرجح فإن والده عمر كثيرا ، ربما إلى أن ألف العطار منظومته « أسرار نامه » ويحتمل أن يكون توفي عن ثمانين عاما وذلك في الفترة الواقعة بين عامي 590 هـ و 605 هـ . والدته : ويفهم من « أسرار نامه » - على حد تعبير فروزانفر - أن أمه كانت على قيد الحياة يوم وفاة والده ، كما يستفاد من « خسرو نامه » أنها توفيت أثناء تأليف هذا الكتاب ، وأنها كانت من أهل المعنى ، وقد بكاها العطار في خاتمة « خسرو وكل » ؛ فقد قال: « لم يكن لي أنس إلا بأمي ، وقد ذهبت ، كم أشدت أزري هذه الضعيفة التي كانت خليفة من مملكة الدين ، لقد كانت ضعيفة كالعنكبوت ، ولكنها كانت لي حصنا ودرعا » .   وكانت كما يقول : رابعة الثانية بل أتقى من رابعة ، بقيت تسعة وعشرين عاما تلبس حقير الثياب وخشنها ، وكانت تقوم الليل دعاء وبكاء . أجداده : أما عن أجداده فيذكر بروان جده وجد والده على أنهما « مصطفى » « وشعبان » وذلك نقلا عن كشف الظنون لحاجي خليفة . ولكن الأستاذ نفسي يعترض على هذين الاسمين ، فمصطفى لم يرد ضمن تسلسل اسم العطار في الكتب الموثوق في صحتها ، أو التي ألفت في عصره . كما أن اسم « شعبان » لم يسبق أن تسمى به أحد في إيران حتى القرنين السادس والسابع الهجريين ، وقتما كان يعيش العطار وأسرته ، فهذه الأسماء التي على غرار الشهور العربية مثل محرم وربيع ورجب وشعبان ورمضان قد راجت بعد ذلك في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع في غرب آسيا وآسيا الصغرى ومصر . ثم انتشرت هذه الأسماء بعد ذلك في أماكن عدة  .   وأنا أوافق الأستاذ نفسي على اعتراضه هذا ، فلا نجد كتابا آخر من كتب التراجم يذكر اسم جد العطار على أنه « مصطفى » أو اسم جد والد العطار على أنه « شعبان » إلا حاجي خليفة ، وهو لا يؤخذ برأيه ، لأن المعروف في أغلب كتب التراجم أن جد العطار اسمه اسحق ويكنى بأبي يعقوب . وبعد ، فإن الاسم الحقيقي للعطار هو : "فريد الدين أبو حامد محمد بن أبي بكر إبراهيم بن أبي يعقوب اسحق العطار " أولاده : أما عن أخبار من خلفهم العطار من أبناء فالشك يكتنف كل ما قيل عنهم فمن قائل إنه لم ينجب مطلقا . ومن قائل إنه أنجب ولدا واحدا . وهناك قصة يرويها أحد كتاب التراجم ، وقد أوردها « روحاني » في مقدمة ترجمته الفرنسية لإلهي نامه : " إن العطار كان له عشرة أبناء وقد وقعوا في أسر قطاع الطريق . . . - وهؤلاء اللصوص أخذوا يضربون أعناقهم الواحد تلو الآخر ، والعطار في كل مرة يرفع عينيه إلى السماء وهو يبتسم ، وما أن جاء دور ابنه العاشر والأخير حتى قال ذلك الابن : ما أقسى ذلك الأب الذي يبتسم وهو يرى أولاده يموتون تلك الميتة ، فيرد العطار قائلا : بني العزيز لا حول لنا ولا قوة أمام من يأمر بهذا - أي اللّه - ، وما أن سمع اللصوص ذلك الجواب حتى أطلقوا سراح الولد العاشر ، وألقوا بأنفسهم كتب التراجم يذكر اسم جد العطار على أنه « مصطفى » أو اسم جد والد العطار على أنه « شعبان » إلا حاجي خليفة ، وهو لا يؤخذ برأيه ، لأن المعروف في أغلب كتب التراجم أن جد العطار اسمه اسحق ويكنى بأبي يعقوب.   وبعد ، فإن الاسم الحقيقي للعطار هو : "فريد الدين أبو حامد محمد بن أبي بكر إبراهيم بن أبي يعقوب اسحق العطار أولاده ": أما عن أخبار من خلفهم العطار من أبناء فالشك يكتنف كل ما قيل عنهم فمن قائل إنه لم ينجب مطلقا . ومن قائل إنه أنجب ولدا واحدا . وهناك قصة يرويها أحد كتاب التراجم ، وقد أوردها « روحاني » في مقدمة ترجمته الفرنسية لإلهينامه  : « إن العطار كان له عشرة أبناء وقد وقعوا في أسر قطاع الطريق . . . - وهؤلاء اللصوص أخذوا يضربون أعناقهم الواحد تلو الآخر ، والعطار في كل مرة يرفع عينيه إلى السماء وهو يبتسم ، وما أن جاء دور ابنه العاشر والأخير حتى قال ذلك الابن : ما أقسى ذلك الأب الذي يبتسم وهو يرى أولاده يموتون تلك الميتة ، فيرد العطار قائلا : بني العزيز لا حول لنا ولا قوة أمام من يأمر بهذا - أي اللّه - ، وما أن سمع اللصوص ذلك الجواب حتى أطلقوا سراح الولد العاشر ، وألقوا بأنفسهم وأول كتاب أرخ له هو « لباب الألباب » المؤلف عام 617 هـ، ولكنه لم يشر على الإطلاق إلى تاريخ ولادته.   ثانيا : تاريخ ميلاده العطار ومدة حياته وكذلك « تاريخ كزيده » المؤلف عام 730 هـ لم يشر هو الآخر إلى تاريخ ولادة العطار ولا مدة حياته . ثم يأتي بعد ذلك نفحات الأنس لجامي ، وفيه يقول : « وحضرة الشيخ استشهد في 627 هـ على يد الكفار وسنه المبارك في ذلك الوقت - كما يقولون - 114 سنة . أي أن تاريخ ولادته هو عام 513 هـ . ولكن مما يجعلنا نشك في صحة هذه التواريخ أن جامي لم يسق الدليل على صحتها مكتفيا بقوله « كما يقولون » وهذه العبارة تدفع الإنسان إلى الشك أكثر من اليقين ، كما أنه لم يحدد لنا من هؤلاء الذين يقولون . هل هم العامة ؟ أو أنه أخذها عن مصدر سابق موثوق به . ثم يأتي دور « دولتشاه » فيقول : « ويمتاز العطار بأنه كان معمرا . . ، فقيل إنه بلغ المائة والأربع عشرة سنة، وقد ولد في عصر السلطان سنجر في السادس من شعبان عام 513 هـ. ونلاحظ أن دولتشاه نفسه رغم أنه يحدد تاريخ ولادة العطار بالشهر واليوم إلا أن قوله يدعو إلى الشك أيضا في صحته فقوله « قيل إنه . . . . . . . . »   لا تحسم خلافا بل تثير شكا ، وربما أنه أراد أن يثبت صحة رأيه فحدد لنا شهرا معينا ويوما محددا لهذه الولادة حتى يؤثر على القارئ فيأخذ برأيه ولو كان دولتشاه صادقا فيما يقول لأخبرنا من أين استقى هذا التاريخ . وقد نقل صاحب « خزينة الأصفياء » عن صاحب « مخبر الواصلين » عدة أبيات هذه ترجمتها : شيخ الدنيا والدين فريد الدين ، شمس فلك الصدق واليقين عمره مائة وأربع عشرة سنة ، وذلك من لطف اللّه المتعال واعتبر العقل تاريخ وفاة ذلك المسعود ، موافقا لجملة "بلبل الجنة والجنان " . وجملة : « بلبل جنة وجنان » بحساب الجمل تعني 627 هـ ، وعلى هذا فيكون مولده عام 513 هـ ومدة حياته 114 سنة . ونلاحظ أن هذا المرجع هو الآخر لم يذكر لنا المصدر الذي استقى منه المؤلف هذه التواريخ .   ويذكر أمير علي في كتابه « روح الإسلام » تاريخ ولادة العطار على أنها عام 545 هـ . ويعلق على هذا الأستاذ عزام بقوله : "وهذا غلط لا شك فيه . ومن الأدلة عليه أن الشاعر يتكلم في منظومته " إلهي نامه » عن السلطان سنجر كلامه عن الأحياء وسنجر مات سنة 552 هـ فلو ولد الشاعر سنة 545 هـ لكان كلامه هذا عن سنجر وهو دون العاشرة من عمره " . ولكن بمراجعتي لمنظومة العطار « إلهي نامه » لم أجد إلا نصوصا ثلاثة ذكر العطار فيها سنجر ولا تدل - كما قال عزام - على أنه يتحدث عن سنجر حديث الأحياء ولذا فاعتراض الأستاذ عزام مردود ، خاصة وأنه لم يذكر لنا هذه الأبيات التي يشير إليها حتى يؤكد بها كلامه هذا .   لنترك هؤلاء الكتاب السابقين ، ونناقش آراء الباحثين في العصر الحديث لعلنا نظفر منهم بما يضع الأمور في نصابها . ولكننا نجد أن التضارب يسيطر على كتاباتهم أيضا . وهذه طائفة من أقوال الباحثين في العصر الحديث . نلاحظ أن جارسان دي تأسي في مقدمة ترجمته لمنطق الطير قد اكتفى بنقل تاريخ ولادة العطار عن دولتشاه وهو عام 513 هـ دون أن يرجحه أو يفنده . أما بيزي Pizzi فقد تابع جارسان ودولتشاه كذلك وحدد تاريخ ولادته بعام 513 هـ   وأضاف قائلا : وقد عاش عمرا طويلا زاد على مائة عام وعشرة "3 " والأستاذ محمد بن عبد الوهاب القزويني يقول في مقدمة تذكرة الأولياء ، نشر إيران عام 1321 هـ ، وذلك بعد ذكره ذلك التضارب الذي وقع فيه المؤرخون قديما حديثا حول تحديد سنة ولادته ومدة عمره. "ولذا اختلف الناس في طول عمره ، فالقاضي نور اللّه ، ومحمد.   دارا شكوه في سفينة الأولياء ، وتقي كاشي ، ورضا قليخان يقولون إن العطار بلغ 114 عاما ، ولكن من المحقق أنه عاش حتى بلغ السبعين وبضع سنوات ، فهو يقول في ديوانه ما ترجمته : وإذا كان الموت قد أشرف على الوادي مائة مرة ، فإن عمرك قد جاوز الستين إلى ما بعد السبعين ببضع سنين . ثم يقول : ولا يعلم أنه عاش أكثر من هذا القدر . والقزويني يحدد عصر العطار استنادا إلى فقرة جاءت في مقدمة تذكرة الأولياء للعطار ، وهذه ترجمتها : "مثلت ذات يوم أمام مجد الدين الخوارزمي ، فرأيته باكيا ، فقلت خيرا . قال : ما أكثر العلماء الذين كانوا يشبهون الأنبياء عليهم السلام في هذه الأمة - فقد قال الرسول - علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل . . » ثم يقول القزويني : « وفاة الشيخ مجد الدين كانت عام 606 هـ أو 616 هـ ، فعلى وجه التقريب يعلم أن عصر العطار هو نفسه عصر الشيخ مجد الدين » .   وهكذا نجد أن القزويني ينهي كلامه دون أن يحدد عاما معينا لمولد العطار وإنما اكتفى بالشك في عام 513 هـ الذي ذكره دولتشاه دون أن يذكر الحجج والأسانيد التي تدعوه إلى هذا الشك. أما المستشرق الإنجليزي براون فذكر أن مولد العطار كان سابقا على 545 هـ أو 550 هـ  ولكن دون أن يذكر حججه وأسانيده التي تؤيد رأيه ويعلق الأستاذ نفيسي على أن عمر العطار قد بلغ 114 عاما فيقول : في رأيي إن هذا يكاد يكون محالا أو في حكم النادر الذي يقبله العقل ويسوق على ذلك براهين عدة أهمها . كان العطار - كما يقول هو - من تلاميذ الشيخ نجم الدين كبرى ، وقد ولد هذا الشيخ عام 540 هـ ، فإذا كان العطار قد ولد حقيقة عام 513 هـ لكان أكبر من نجم الدين بحوالي سبعة وعشرين عاما ، فهل يعقل أن يلجأ العطار إلى من يصغره سنا بسبعة وعشرين عاما ليكون له مريدا ، والعطار لم يكن ذا منزلة صغيرة . . . . فقد اطلع على أربعمائة كتاب وكان الناس يقصدونه طالبين علمه ومعرفته .   وسند آخر يسوقه نفيسي ، فيقول : إن العطار لم يذكر في شعره أنه بلغ أكثر من التسعين . . . ثم يورد أبياتا يخبرنا فيها بأنه وصل إلى حد المشيب ، وأنه تعدى السبعين بل وصل إلى حد التسعين ، فقد قال ما ترجمته : - - وهكذا وضح أمره إذ نهض ذلك الشيخ ذو التسعين عاما ، وقد عقد الزنار وهو على هذه الحال . وعلى هذا فالأستاذ نفيسي يحدد مدة عمر العطار بتسعين عاما بالإضافة إلى أنه يرجح أن وفاة العطار كانت عام 627 هـ ، أي أن عام ولادته - كما يرى - هو 537 هـ ولكن هذا البيت الذي ساقه نفيسي ليس دليلا قاطعا لأنه لا يتحدث فيه عن نفسه بل يتحدث فيه عن شيخ آخر . ويشاركني هذا الرأي الأستاذ فروزانفر والأستاذ روحاني .   والأستاذ فروزانفر يرى أن العطار ولد عام 540 هـ : وأنه عاش أكثر من السبعين ، ولكن أقل من الثمانين ، وهو يؤكد وجهة نظره بعدة قرائن، هذه أهمها. 1 - إن العطار لم يذكر في شعره أنه بلغ أكثر من السبعين إلا ببضع سنين . 2 - إن العطار ذكر بعض المشايخ ذكره للأموات وهم : ركن الدين آكاف المتوفى عام 549 هـ ، وأبو منصور مظفر بن أردشير عبادي المتوفى عام 547 هـ ، ومحيي الدين محمد بن يحيى الذي قتل في وقعة الغز . 3 - إشارة العطار إلى حادثة قحط نيسابور في بعض كتبه إشارة شخص لم يكن حاضرا إياها . وقد وقع بنيسابور أكثر من قحط عام 532 ، 543 ، 552 هـ . ولكن بعد أن ذكرنا كل هذه الآراء التي قالها جمع كبير من أصحاب التراجم والباحثين ، أي التواريخ نراه صحيحا لمولد العطار ؟ في رأيي أن أصح التواريخ لولادة العطار ما يقع بين عامي 545 هـ : 550 هـ . وذلك لعدة أدلة : أولا : الرأي القائل بأنه ولد عام 513 هـ رأي خاطىء فأول من ردد هذا التاريخ دولتشاه وهو معروف بأغلاطه وأخطائه ثم تناقله المؤرخون من بعده ، كما أن هذا التاريخ مرفوض كذلك استنادا إلى الأدلة التي ذكرتها من قبل نقلا عن الأستاذ نفيسي والأستاذ فروزانفر .   ثانيا : إن العطار لم يذكر أنه بلغ أكثر من السبعين إلا ببضع سنين ، وأقواله بطبيعة الحال خير مصدر يعتمد عليه في تأريخ حياته ، فهو يقول محدثا نفسه ما ترجمته . إن كنت قد قضيت سبعين عاما ، فليس هذا بعجيب ، ولكن العجيب أن نفسك تزداد سوءا في كل لحظة . كما قال ما ترجمته : - لقد جثم الموت أمام مدخل الوادي مائة مرة ، والآن تخطى عمرك الستين ووصل إلى ما بعد السبعين ببضع سنين . وعلى هذا فلا نستطيع أن نقول إنه عاش أكثر من السبعين إلا ببضع سنين ، وإذا كنا نفترض بأن وفاته كانت عام 627 هـ فعلى هذا الفرض يكون مولده ما بين عامي 545 ، 550 هـ. ثالثا : إن عوفي - وهو المعاصر للعطار - اعتبر العطار من الشعراء الذين عاشوا بعد عصر سنجر ، ونحن نعرف أن سنجر توفي عام 552 هـ فلو كان العطار قد ولد عام 513 هـ لكان قد عرف كشاعر قبل وفاة سنجر ، وعلى هذا فهو لا بد وأن يكون قد ولد في أواخر حكم سنجر ، بين عامي 545 ، 550 ه كما حددنا . ولكن بعد كل هذا ، هل يعد هذا التاريخ الذي حددناه لمولد العطار قاطعا ؟ بطبيعة الحال : لا ، ولكنه أكثر التواريخ قبولا في رأيي ، إلى أن يظهر الدليل القاطع بعد ذلك في أثر من آثاره المفقودة .   ثالثا : دخوله في الطريق الصوفي عرف فريد الدين النيسابوري بالعطار لأنه كان يعمل بالعطارة والطب ، ويقال إن العطار قد ورث العطارة عن أبيه الذي اكتسب منها ثروة طائلة حتى قيل إنه أصبح مالكا لجميع حوانيت العطارة في نيسابور . ولكن هل ظل شاعرنا طوال حياته عطارا وطبيبا ؟ للإجابة على هذا السؤال نجد أن الشائعات تتدخل ، وتحاول أن تنسج حول هذه القضية هالة من الأقاويل والأباطيل : يقول عبد الرحمن الجامي في كتابه نفحات الأنس : « ذات يوم كان العطار في دكان عطارته فجاءه هناك فقير ، وقال له عدة مرات : أعطني شيئا اللّه ، فلم يأبه بالفقير . فقال الفقير : أيها السيد كيف تموت ؟ فقال العطار : كما ستموت أنت . فقال الفقير : أيمكنك أن تموت مثلي ؟ فقال العطار : نعم . فوضع الفقير قدحه تحت رأسه وقال : اللّه ! وأسلم الروح . فتغير حال العطار وتخلص من متجره توا ، وجاء إلى هذا الطريق » .   ورواية دولتشاه قريبة من هذه الرواية ، وإن كانت بها بعض الإضافات البسيطة ويختمها دولتشاه بقوله : « وذهب إلى صومعة الشيخ العارف ركن الدين الاكاف ، وطلب التوبة على يد هذا الشيخ ، وشغل بعد ذلك بمجاهدة نفسه وبالرياضة الروحية ، وظل في حلقة الدراويش عدة سنين . . . .   ويفهم من روايتي جامي ودولتشاه أن تحول العطار إلى التصوف كان فجائيا ، وهذا الأمر يدعو إلى الشك والريبة ، وهناك أكثر من دليل على كذب هذه القصة.   أولا : كان العطار نفسه مولعا بالصوفية منذ صغره ، فهو يقول في مقدمة تذكرة الأولياء ما ترجمته . وباعث آخر - لتأليف الكتاب - هو أنني بلا سبب كنت أشعر منذ الطفولة بمحبة زائدة تجاه هذه الطائفة تموج في قلبي ، كما كانت أقوالهم تسعدني في كل آونة . أي أنه كان بالصوفية شغوفا منذ الصغر ، وعلى هذا فإننا نستبعد أن يكون قد تحول تحولا مفاجئا إلى الطريق الصوفي . ثانيا : يخبرنا العطار بأنه ألف « مصيبت ‌نامه » ، « وإلهي نامه » في دكانته حيث قال ما ترجمته : مصيبت ‌نامه وهي حسرة العالم ، وإلهي نامه وهي الأسرار المشهودة - بدأتهما في الصيدلية وسرعان ما فرغت من كلتيهما . وعلى هذا فالعطار كان صوفيا قبل أن يهجر دكانه ، والحقائق الصوفية في هذين الكتابين لا يمكن أن يتفوه بها مريد جديد ، بل صادرة عن شيخ خبر الطريق وعرفه معرفة تامة . ولكن ، إذا كان العطار صوفيا منذ صباه ، فلم هجر دكانه ؟ لا بد وأن حالة الوجد غلبت عليه وزاد عشقه الصوفي ، فأصبحت العطارة حجابا في طريقه ، وعلى عادة الصوفية ، تخلص من هذا الحجاب ، ومن كل العلائق الدنيوية وتوجه إلى الخانقاه ، ليكون خالصا للعبادة وليحصل أكبر قدر من المعرفة الإلهية والحكمة الذوقية . ولكن ، ما مدى صحة ما قاله دولتشاه من أن العطار بعد أن ترك دكانه توجه إلى صومعة الشيخ ركن الدين الآكاف ؟ للإجابة عن هذا السؤال يحسن بنا أن نتكلم عن شيوخ العطار .   رابعا : شيوخ العطار اختلف الباحثون فيما بينهم حول الشيوخ الذين اتصل بهم العطار أو تأثر بهم . فمن قائل إنه كان أويسيا ، وآخر يقول أنه من أتباع نجم الدين الكبرى ، وثالث يرجح أنه من مريدي الشيخ ركن الدين الآكاف ، ورابع يرى أنه من أنصار الشيخ مجد الدين البغدادي ، وخامس يستنتج من مدائح العطار للشيوخ أنه كان من أنصار الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير . . . وقبل أن نصل إلى رأي قاطع في ذلك يحسن بنا أن نذكر بعض هذه الآراء تفصيلا . يقول دولتشاه إن العطار بعد أن هجر دكانه توجه إلى صومعة ركن الدين الأكاف ، وعاش فيها فترة يتعبد وذلك ، بالمجاهدة والرياضة الروحية . . ..   معنى ذلك أن العطار من مريدي هذا الشيخ ، وإذا كنا انتهينا إلى أن العطار ولد بين عامي 545 هـ و 550 هـ فلا يمكن أن يكون من مريدي هذا الشيخ لأن ركن الدين الأكاف توفي عام 549 هـ . ويقول دولتشاه أيضا ، إن العطار قد أصاب الطريق بنظرة وقعت عليه من الشيخ قطب الدين حيدر والعطار ما زال في دور الطفولة ، ولذا فإن العطار ألف كتابه « حيدر نامه » إهداء لهذا الشيخ. ولكن هذا القول مردود كذلك ، لأن حيدر نامه من الكتب المشكوك في صحة نسبتها إلى الشيخ العطار ، كما أن فروزانفر يضيف إلى ذلك قوله : « إن هذه الرواية لا أساس لها من الصحة وقد انفرد بروايتها دولتشاه دون غيره . . . . وعلى هذا فنحن لا نستطيع أن نصدق هذا القول . ويقول جامي : إن البعض يقولون إن العطار أويسي .   والأستاذ فروزانفر يشرح لنا المقصود بالأويسية ، فيقول : وأويسي في تعبيرات الصوفية يقصد به الشخص الذي لا يأخذ بظاهر المشيخة ، وإنما من استفاد بروحانية الرسول المعظم أو أحد المشايخ ، ومن اكتسب الفيض وقد طهر باطنه وأضاء بنور المعرفة قلبه ،وتم سيره وسلوكه بتأييد من روحانية ذلك الشيخ .   ولكننا لا نعلم أن أويس القرني قد أسس مذهبا أو طريقة صوفية ، كما لم يخبرننا أحد معاصريه بأنه كان صوفيا بل كان زاهدا ، ففي وقته لم يكن للصوفية وجود ، إذ أن الصوفية بدأت في الظهور في العام الأخير من القرن الثاني وأويس كان من رجال القرن الأول الهجري . ويقول فروزانفر إن مدح العطار للشيخ أبي سعيد بن أبي الخير كمدح المريد لشيخه ، دليل آخر على أن العطار لم يكن أويسيا .   ويقول جامي كذلك : وهو - أي العطار - مريد للشيخ مجد الدين البغدادي ثم أورد ما حدث بينهما وأثبته العطار في مقدمة تذكرة الأولياء . حقيقة كانت هناك لقاءات بين العطار وغيره من متصوفة زمانه ، ومن هؤلاء الذين التقى بهم الشيخ مجد الدين البغدادي المقتول عام 606 هـ . أو 616 هـ  وهذه اللقاءات كان يحدث فيها تأثير وتأثر ، فلا أشك في أن العطار قد تأثر بهذا الشيخ ولكن ليس كل التأثر ، وأعتمد في هذا الرأي على ما جاء في كتابه تذكرة الأولياء ، لأننا لا نشك في صحة نسب هذا الكتاب إلى العطار ، ولأن الروايات التي ذكرت عن اتصال العطار بشيوخ آخرين لا تعتمد على سند قوي من مؤلفات العطار يمكن أن يقف إلى جوار هذا السند .   ويقول الأستاذ نفيسي اعتمادا على قول الشيخ سليمان بن إبراهيم صاحب كتاب ينابيع المودة - إن العطار كان من أنصار الشيخ نجم الدين كبرى . ويستدل على ذلك بما قاله العطار في كتاب مظهر الصفات ص 295 : « كنت عند شيخي وسندي الشيخ نجم الدين الكبرى قدس سره ، فحدثني هذا الحديث فغلب عليه الوجد والحال القوي فبكيت معه فحقرت الدنيا في أعيننا ، وقلعنا حب الدنيا عن قلوبنا " .   كما قال في نفس الكتاب ص : 137 " كنت ذات ليلة عند شيخي وسندي الشيخ نجم الدين الكبرى قدس سره ، فحدثني هذا الحديث فغلبت عليه الوجد والحال القوي وبكيت فحقرت الدنيا في أعيننا" . معنى هذا أن العطار كان مريدا للشيخ نجم الدين الكبرى ، ولكن إذا عرفنا أن الشيخ سليمان اعتمد في ذلك على كتاب مدسوس على العطار ولم يسنده أحد مطلقا إلى العطار قبل عام 1291 هـ  سنة تأليف ينابيع المودة - وهذا الكتاب هو مظهر الصفات ، ويرجح أنه نفس الكتاب المعروف باسم « مظهر العجايب » الذي ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه لعطار آخر . وعلى هذا فاعتبار العطار من مريدي الشيخ نجم الدين كبرى قول مردود لا يوجد ما يؤيده من الأسانيد القوية . ويقول الأستاذ فروزانفر إن العطار قد تأثر بالشيخ أبي سعيد ابن أبي الخير المتوفى عام 440 هـ . والدليل على ذلك أنه أكثر من مديحه فقد ذكره في تسع حكايات بمصيبت ‌نامه وفي خمس حكايات بإلهي نامه وفي ثلاث حكايات بمنطق الطير ، وفي حكاية واحدة بأسرار نامه . وكل هذه الحكايات تعظم أبا سعيد غاية التعظيم .   وهذا ليس بغريب لأن طبيعة الشاعر تنزع دائما إلى الشعر والشعراء فما بالك إذا كان أبو سعيد والعطار يتفقان في أكثر من صلة ، أولها صلة الشعر ،  وثانيها صلة التصوف والعرفان . كما أن العطار يشير في بعض أبياته إلى أن ما وصل إليه من علم ومعرفة مستمد من روحانيات الشيخ أبي سعيد فضل اللّه بن أبي الخير . - إنني أدرك أن كل حظ أجده في هذا الزمان من أنفاس أبي سعيد . - كما أنني أحظى في كل لحظة ، بنصيب وافر من سبل مدده .   ولكنني أضيف إلى هؤلاء كلهم شيخا آخر ما زال أثره قويا حتى الآن في تفهمنا لديننا الإسلامي ، هذا الشيخ صاحب التأثير في العطار هو أبو حامد الغزالي ؛ والأدلة على ذلك كثيرة : أولا : كان أبو حامد الغزالي شافعيا ، وقد تابعه العطار في ذلك . ثانيا : أول من أعلن الحرب على الفلسفة كان الإمام الغزالي وقد تابعه العطار في هذه الحرب ( وسأشير إلى ذلك تفصيلا فيما بعد ) . ثالثا : العطار متأثر في بعض قصصه بالغزالي وخير دليل على ذلك قصة منطق الطير نفسها فقد أخذ أصولها عن « رسالة الطير للغزالي » وسأشرح ذلك عند الحديث عن منطق الطير بين الخلق والنقل " . وكذلك أخذ العطار أصول قصة الشيخ صنعان عن الفصل العاشر من تحفة الملوك للغزالي ( وسأشير إلى ذلك أيضا عند الحديث عن قصة الشيخ صنعان ).  رابعا : لقد قام الغزالي بالتدريس فترة بنيسابور ولابد وأنه ترك آثارا عظيمة بها ، فكان لها أثرها في تفكير العطار بعد ذلك . وبناء على كل ما تقدم فإنني أميل إلى أن العطار قد تأثر بأكثر من شيخ ، وأنه لم يكن يتبع طريقة معينة من الطرق الصوفية التي كانت سائدة في عصره ، وإنما أخذ من كل طريقة ما كان يروق له منها .   خامسا : ثقافته أول ما يتطرق إلى الذهن من ثقافة العطار هو ما يتصل بتخلصه ، وأقصد بذلك فن الطب والتطبيب ، فعمله في هذا المجال في بداية حياته خير دليل على أنه كان عالما بأصول الطب المعروفة في عصره ، وهو يشير إلى ذلك في منظومته مصيبت ‌نامه فيقول ما ترجمته كان بالصيدلية كل يوم خمسمائة شخص يطلبون مني أن أجس نبضهم . ويقول بعض المؤرخين : إن أستاذه في هذا الفن هو مجد الدين البغدادي الطبيب الخاص للسلطان محمد خوارزمشاه . ولكنني أعتقد أن معلم العطار الأول لفن الطب والده فقد كان عطارا هو الآخر ، فورث العطار عنه مهنته . وبالنظر إلى مؤلفاته العديدة نستطيع أن نستنتج أنه كان على علم كبير بأصول الفقه الإسلامي ، كما كان للقرآن حافظا وللحديث مطلعا ،   ولعلم الكلام دارسا . فكثيرا ما يتحدث عن مسائل فقهية في كتاباته أو يستمد فكرة من معاني القرآن والحديث . وكان العلم النافع في عقيدته هو الفقه والتفسير والحديث وما عدا ذلك لا فائدة منه للإنسان ، ولا يصل به إلى حد النجاة . وقصص العطار الخاصة بأخبار السلاطين والملوك أمثال محمود الغزنوي وسنجر وخوارزمشاه والإسكندر توضح لنا أن العطار كان على علم كبير بالتاريخ . والعطار بجانب ذلك كان شغوفا بقراءة سير السابقين من المشايخ والأئمة ؛ وكتابه « تذكرة الأولياء » خير دليل على ذلك . وقد قرأ كتبا كثيرة حتى يجمع مادة هذا الكتاب حتى وصل مجموع ما قرأه من كتب السير والتراجم أربعمائة كتاب والعطار ، رغم إعلانه الحرب الشعواء على الفلاسفة والفلسفة ، كان على علم بالفلسفة وعلم الكلام ، وخير دليل على ذلك تناوله فكرة وحدة الوجود ووحدة الشهود في كتابه منطق الطير ، كما أنه تأثر بالفلسفة في مسألة تفاوت الجسم والروح ، وكذلك بخصوص حركة الجوهر وسير أجزاء العالم صوب الكمال المطلق والثواب والعقاب الأخروي . والعطار كأي شاعر - اطلع على الإنتاج الأدبي السابق عليه وكذلك كان على علم بالأوزان والقوافي والموسيقى ، وكل ما يساعده على الجودة وحسن الصنعة في نظمه . وقصة الشيخ صنعان تخبرنا أن العطار كان على علم تام بالديانات السماوية السابقة ، وعلى معرفة بأصولها ورسومها . أضف إلى فنون ثقافته سعة إدراكه لقوانين علم النجوم ، فبعض أقواله تتضمن حلا لبعض مظاهر الطبيعة وأسرارها ، وخير دليل على ذلك تلك الحكاية التي وردت بمنطق الطير نسخة باريس ص 144 وتحمل أرقام الأبيات من  ( 3616 ) إلى ( 3626 ) . بعد هذه النظرة إلى ثقافة العطار يمكننا أن نقول إنه كان على إلمام كبير بأغلب فنون الثقافة في عصره ، فشاعر عظيم ومفكر كبير كالعطار لم يكن يرضى أن يترك فنا من فنون الثقافة في عصره دون أن يطلع عليه ويأخذ بنصيب منه   سادسا : نظرته إلى الفلسفة والفلاسفة تابع العطار الحملة الشعواء التي بدأها أبو حامد الغزالي ضد الفلسفة فحاول الإقلال من شأنها ومن شأن المشتغلين بها ، وذلك لأن الفلسفة تتصل بالعقل والعطار ينفر من العقل ويجعله قاصرا أمام إدراك الأسرار الإلهية . ولذا فإن العطار يجعل الفلسفة هي الأخرى قاصرة أمام عالم الروحانيات ، بل إنه يفضل الكفر على الفلسفة ، فقد قال في آخر منظومته منطق الطير ، ما ترجمته : كيف تعرف عالم الروحانيين من بين حكمة اليونانيين ؟ ولن تكون رجلا في حكمة الدين إن لم تفارق هذه الحكمة . وكل من يحمل هذا الاسم ( أي فيلسوف ) في طريق العشق ، فلن يكون خبيرا في مجال الدين بالعشق . وبحق المعرفة ، كم أفضل هنا كاف الكفر على فاء الفلسفة . ولكن ، لماذا وقف العطار هذا الموقف من الفلسفة والفلاسفة يقول الأستاذ فروزانفر ، ربما أن السبب الأصلي الكامن وراء ذمه الحكمة والفلسفة يرجع إلى أن أكثر المعلمين والمتعلمين لهذا الفن في تلك الأيام ، كانوا قد أصابهم الجمود على أقوال ومصنفات أبي نصر الفارابي وأبي علي بن سينا ، وجمدوا على الآراء المنقولة عن حكماء اليونان ، وأن النظرة الحرة ، الطليقة كانت تعوزهم . بعكس الأدب والفقه ، فقد كان الأدباء والفقهاء يستندون في أقوالهم إلى القرآن الكريم والحديث وكل ما يتعلق بالدين . وبطبيعة الحال تابع العطار مفكري عصره في ذلك ودعا إلى الاعتماد على القرآن والحديث وهجر الفلسفة وحكمة اليونانيين ، فقال أيضا ما ترجمته . - ويكفي رجل الدين حكمة السيرة ( المحمدية ) ، فانثر التراب على مفرق اليونانيين من طريق الدين . وإذا كان موقف العطار هكذا من الفلسفة ، فلا بد وأن يكون له نفس الموقف من علم الكلام فهو يقول . - ولكن إن يقطع علم الجدل الطريق ، فهو هكذا كثيرا ما يقطعه على العارفين . على الرغم من أن العطار كان يحارب الفلسفة والفلاسفة ، وكذلك علم الكلام ، إلا أنه بلا شك قد تأثر بمنهجهما في الكلام ، وقد أشرت إلى ذلك من قبل . كما أن طبيعة التصوف لا تتفق مع طبيعة الفلسفة وعلم الكلام ، فالتصوف يعتمد على القلب أما الفلسفة وعلم الكلام فيعتمدان على العقل ، والعقل مذموم لدى الصوفية . وعلى هذا فليس غريبا أن يهاجم العطار الفلسفة وعلم الكلام رغم تأثره بمنهجهما في العرض والاستدلال .   سابعا : مذهب العطار اختلف الباحثون قديما وحديثا حول تحديد مذهب العطار ، فبعضهم يقول إنه من أنصار المذهب السني ، والبعض الآخر يدعي أنه شيعي متعصب ، والبعض يجمع بين الرأيين ، فيقول إنه شيعي ، ولكنه كان يظهر أنه سني حتى لا يتعرض لعنت أهل السنة وإيذائهم . ولكي نعرف الحقيقة يجب أن نعرض لجملة من الآراء ثم نعلق عليها بعد ذلك مستندين إلى أقوال العطار وظروف حياته . يقول « جارسان دي تأسي » في مقدمة ترجمته الفرنسية لمنطق الطير : كان العطار سنيا لا شيعيا وهو يناصر الخلفاء الثلاثة الأول في مقدمة منظومته - منطق الطير - وإن أفكار العطار السنية تبعد كثيرا من الفرس عن قراءة مؤلفاته. ويقول الأستاذ نفيسي : إن العطار سني شافعي . ويقول الدكتور عزام : إن العطار سني متشدد . ويقول الأستاذ فروزانفر : إن ظاهر آثار العطار توحي بأنه سني المذهب ، فهو يمدح الخلفاء الثلاثة الأول ، كما يمدح الشافعي وأبا حنيفة . هذه آواء الباحثين الذين يرون أن العطار كان سني المذهب . وعلينا أن نعرض بعدها لجملة من آراء الباحثين الذين يرون أنه كان شيعي المذهب . اعتبر القاضي نور اللّه الششتري العطار شيعيا خالصا ، وقد أوّل كل مدائحه لصحابة الرسول عليه السلام ليثبت أنه شيعي .   ويقول المستشرق الروسي « بارتلس » مما لا شك فيه أنه - أي العطار - قد قاسى كثيرا من أجل عقيدته الشيعية المتغالي فيها ، ولذلك حكم عليه بالقتل إلا أنه تعلق بأذيال الفرار ، وبذلك فقد كل ثروته حتى أصبح في شيخوخته شديد الفقر ، ومات في منفاه ، وأغلب الظن أن موته كان في مكة . لا شك أن الأغلاط تكثر بهذه العبارة ، فلم يحدثنا أحد أن موته كان بمكة ، فالكل يعترف بأنه مات في نيسابور ، وقبره بها حتى الآن ، والظاهر أن بارتلس اعتمد في ذلك على « لسان الغيب » و « مظهر العجائب » المدسوسين على العطار ، وعلى هذا فأقوال بارتلس يجانبها التوفيق تماما .   ويتابع جان ربيكا - المستشرق الألماني - أقوال بارتلس فيقول :   « بالرغم من أنه - أي العطار - تربى تربية متأثرة بالتشيع ، فإن مؤلفات معاصريه تدل على أنه كان سنيا ، ولعل ذلك منه تقية لأنه في النهاية يقر بالتشيع ، وهذا ما عرضه للاضطهاد من أهل السنة حتى أنهم نهبوا داره وهددوه بالقتل ، وإن كان هذا لا يبدو صحيحا والأرجح أن سبب حقد أهل السنة عليه يرجع إلى حملاته العنيفة على علماء السنة ، وذلك لتهالكهم على حب الدنيا وعلى ريائهم ونفاقهم ولكراهيته للترك ". ويوضح لنا بروان - المستشرق الإنجليزي - الأساس الذي بنى عليه بعض المؤرخين كلامهم عن اضطهاد العطار وفراره إلى مكة خوفا من القتل فيقول : إن العطار نسب إليه كتاب « مظهر العجايب » وهو عبارة عن منظومة في مدح علي بن أبي طالب . . . .   ويبدو أن نشر العطار لهذه المنظومة كان سببا في إذاعة روح السخط والتعصب لدى أحد الفقهاء السنيين من أهل سمرقند ، فأمر بإحراق نسختها واتهم صاحبها بالإلحاد وأنه حقيق بالموت والإعدام ، ثم أمعن في الكيد له فاتهمه بالكفر لدى براق التركماني وحرض العامة على هدم منزله والإغارة على أمتعته ، واضطر العطار بعد ذلك إلى أن يرحل ويلجأ إلى مكة . . . ويعلق الأستاذ جولبنارلي المترجم التركي لمنطق الطير - على هذه الحكاية وأمثالها فيقول : " ويؤخذ من هذا كله أنه في القرن التاسع الهجري أو بعد هذا القرن وجد عطار آخر أو كتبت كتب باسم العطار ، كتبها شيعي باطني ، وإن كتاب مظهر العجايب ولسان الغيب وشترنامه وما يشبهها قد كتبت باسم العطار لتترنم بالتشيع المغالي فيه وقد تكون هذه الكتب من تصنيف هذا العطار الآخر . وفي رأيي أن العطار كان سنيا ولم يكن شيعيا ، فكل كتبه ومنظوماته تثبت ذلك ، فما ألف منظومة إلا وأثبت فيها مدح الخلفاء الراشدين جميعا ، ولم يفضل واحدا منهم على الآخرين ، أما إذا كانت منظومة من منظوماته قد وصلتنا وقد خلت من مدح الخلفاء الثلاثة السابقين فلا شك أن بعض غلاة الشيعة قد مدوا أيديهم لهذه المنظومة ورفعوا منها مدح أبي بكر وعمر وعثمان . كما أن العطار يعلن حربا شعواء على التعصب والمتعصبين في مقدمة « منطق الطير » حتى أنه اعتبر المتعصب جاهلا فهو يقول . يا من وقعت أسير التعصب وظللت أبدا أسير البغض والحب ، إن كنت تفخر بالعقل واللب فكيف وقعت أسير التعصب ؟ . . . . فيا جاهلا لا رغبة في الخلافة إذ كيف تتأتى الرغبة لدى أبي بكر وعمر . . . . ؟ ولكن إذا سلمنا بأن العطار كان سني المذهب فأي مذهب من مذاهب السنة كان يتبع ؟ يكاد أغلب المؤرخين في العصر الحديث يجمعون على أنه كان شافعيا .  خاصة وأن الصوفية في ذلك العصر - في الغالب - كانوا يفضلون المذهب الشافعي على غيره . ولكنني أعتقد أن العطار لم يكن متعصبا في شافعيته - إن كان حقيقة شافعيا - والأدلة على ذلك كثيرة . أولا : لقد ذكر أبا حنيفة وترجم له ومدحه في كتابه تذكرة الأولياء كما ذكر الشافعي . ثانيا : إن الشيخ السبكي صاحب طبقات الشافعية الكبرى لم يذكر اسم العطار بين الشافعية الذين ذكرهم . ثالثا : إن العطار خص أحمد بن حنبل بحكاية من حكايات منطق الطير ولم يخص الشافعي بحكاية مثلها . رابعا : إن الصوفي بطبيعته يحاول أن يكون فوق المذاهب ، وإن كان في بعض المسائل الفرعية يرجح فتوى أحد هؤلاء المشايخ الأربعة على الآخرين ، ولكنه لا يتقيد بالتبعية لواحد معين . خامسا : إن ذم العطار للتعصب ينطبق على التعصب بين السنة والشيعة أو بين الفرق السنية بعضها والبعض الآخر ، خاصة وأن هذا العصر كثرت فيه المشاحنات بين الشافعية والحنفية . ثامنا : بعض النكات في حياته من المعروف عن الأدباء عامة والشعراء خاصة في القرون الوسطى أنهم كانوا يتنقلون بين قصور الملوك والأمراء مادحين من يدفع أكثر ، جاعلين ألسنتهم أبواق دعاية لهؤلاء الملوك والأمراء فلم تكن هناك صحافة ولا إذاعة فكان الشعراء هم الذين يقومون بمهمة وسائل الإعلام في عصرنا الحديث ، وبالطبع كان الشاعر يفني نفسه في ممدوحيه ، يقول ما لا يعتقد ويمدح من لا يستحق أملا في الهبات والعطايا .   فهل كان فريد الدين العطار على شاكلة هؤلاء ؟ لم يؤثر عنه أنه فعل ذلك فقد كان فريد الدين على ثراء في بداية حياته ، فذلك الشخص الذي يأتيه كل يوم خمسمائة مريض فيجري الكشف الطبي عليهم ويبيع الدواء لهم ، لا بد وأن يكون ثريا ، وليس في حاجة لأن يستجدي أي ممدوح .   كما لم يؤثر عن العطار أنه أهدى كتابا من كتبه إلى أحد أو ختم منظومة من منظوماته بمدح ملك أو أمير ، كما فعل سنائي الشاعر الصوفي ، فقد ختم « سير العباد إلى المعاد » بمدح "أبي المفاخر سيف الدين محمد بن منصور" قاضي سرخس . والدليل على أنه لم يمدح أحدا في حياته موجود في كتاب منطق الطير حيث قال ما ترجمته . شكرا للّه ، فلم ألجأ إلى قصر ، ولم أكن ذليلا لكل حقير . ولم أطعم خبز ظالم مطلقا ، ولم أختم كتابا بذكر أحدهم مطلقا . ولكن هل ظل العطار على هذه الحال من الثراء والغنى ؟ أظن أن حاله تبدلت بعد أن هجر الصيدلية ، وأنه وصل إلى حالة قريبة من الفقر ، فكان طعامه الخبز الجاف يبلله بدموع عينيه ؛ حيث قال - وعندما أقيم مائدة من خبز خشن ، فإنني أبلله بدموع عيني . كما يبدو من شعره أيضا أنه كان يحب العزلة ولا يثق في الخلق ، حتى أنه شبه نفسه في الديوان بمالك الحزين . يقولون لي : ما له قد آثر العزلة ، لا ؟ إنني أصادق اللّه في هذه العزلة . ولا صديق لي بين الخلق ، وإن كنت أفعل ذلك فهذا لأنني في الطبع كمالك الحزين . * * * وشيء آخر ردده الباحثون كثيرا ، وانقسموا في الرأي إزاءه ، هذا الأمر هو لقاء جلال الدين الرومي بالعطار ، فهل التقيا حقيقة ؟ قال براون: « . . . وسار الوالد - بهاء الدين ولد - حتى اجتاز مدينة نيسابور في سنة 608 هـ - 1212 م وزار هناك الشيخ « فريد الدين العطار » ويقال إن هذا الشيخ أخذ الطفل « جلال الدين » بين ذراعيه وبشره بمستقبل عظيم ثم باركه وأعطاه نسخة من منظومته « إلهي نامه » . . . » .   ويقول البعض إن هجرة بهاء ولد كانت عام 616 هـ أو 617 هـ ولكن جامي كان قد ذكر أن الكتاب الذي قدمه العطار لمولانا هو « أسرار نامه »  لا « إلهي نامه » كما ذكر براون .   وليس هذا بغريب ، فمن عادة الصوفية أثناء الرحيل الإسراع بلقاء كل رجل مشهور تسنح لهم الفرصة لزيارته - خاصة وإن العطار كان من الرجال المشهورين والشعراء البارزين ، ولا بد وأن بهاء ولد كان على شوق لرؤيته ، فانتهز هذه الفرصة . كما أن هذا اللقاء لا غرابة في حدوثه إذا عرفنا أن التواريخ التي ذكرت كلها لحدوث اللقاء سابقة على وفاة العطار . هذه بعض النكات التي مرت بها حياته وليست كلها ، وكتب التراجم زاخرة بمثل هذه النكات ، مما يجعلني أكتفي بهذه النبذة البسيطة دون الإفاضة في هذا الأمر أكثر من هذا الحد .   تاسعا : وفاة العطار كما اختلف الباحثون قديما وحديثا حول تحديد سنة ولادته ، فقد اختلفوا في تحديد سنة وفاته حيث تضاربت الأقوال تضاربا عجيبا ، فأول تاريخ حدد لوفاته هو عام 586 هـ وآخر تاريخ هو 727 هـ . فجامي قد حدد عام وفاته بعام 627 هـ ، ودولتشاه ذكر ثلاثة تواريخ لوفاته هي 589 هـ ، 619 هـ ، 627 هـ . وكتاب ( هفت إقليم ) أرخ لوفاة العطار برباعية حدد فيها عام وفاته بحساب الجمل وهذه ترجمتها : الشيخ العطار فريد الزمان مرشد الملوك وسلطان الفقر وقد استشهد هذا المرشد في طريق الفقر ، فصار تاريخ وفاته لذلك "راه فقر" وبحساب الجمل تكون عبارة « راه فقر » تساوي العدد : 586 والأستاذ نفيسي يعترض على ذلك قائلا : إن هذه القصيدة كتبت بعد موت العطار بما يزيد على قرنين من الزمان وطريقة حساب الجمل لم تعرف إلا في أواخر القرن الثامن الهجري . وصاحب خزينة الأصفياء نقل عن صاحب « مخبر الواصلين » أبياتا يحدد فيها عام وفاة العطار وقد حدده ، بحساب الجمل وذكر لذلك تاريخين . جملة : « قبله أهل جنت » وهي تساوي 626 وجملة : « بلبل جنت وجنان » وهي تساوي 627 أي أن تاريخ وفاته في رأي صاحب « مخبر الواصلين » يقع بين عامي  626 هـ ، 627 هـ ولكن أي تاريخ حدده شاهد قبره ؟ ذكر شاهد القبر أن وفاته كانت عام 586 هـ ، ولكنه أضاف قائلا ، إن ذلك في عهد هولاكو خان . وهذا بلا تفكير خطأ فاحش فهولاكو لم يتقدم صوب العالم الإسلامي إلا عام 651 هـ. ويذكر صاحب جوهر الذات أن العطار توفي عام 727 هـ . ولا شك أن المؤلف اختلط عليه الأمر ، إذ أنه كان يقصد 627 هـ فأخطأ في كتابتها ويتابع هؤلاء المؤلفين أغلب الباحثين في عصرنا الحديث ومنهم الأستاذ سعيد نفيسي والأستاذ ذبيح اللّه صفا والمستشرق الإنجليزي براون وغيرهم من الباحثين . ولكن بجانب هؤلاء جماعة أخرى من الباحثين يرون أنه قتل قبل عام 627 هـ بسنوات ، ما بين عامي 618 ، 619 هـ.   يقول الأستاذ فروزانفر : إن الفتح والقتل العام بنيسابور بدأ يوم السبت الخامس عشر من صفر عام 618 هـ ، وعلى هذا يكون استشهاد السيد الشيخ في النصف الثاني من صفر عام 618 هـ . والمستشرق الإيطالي بيزي يرى أن وفاة العطار تمت بين عامي 607 ، 616 هـ . ومن ذكر تاريخ وفاة العطار في حدود عام 618 ، 619 هـ يريد أن يربط بين وفاته وبين قصة قتله التي ذكرها دولتشاه ، وإذا عرفنا أن هذه القصة لا تستند إلى واقع وبالتالي فإن هذين التاريخين ، وكذلك أي تاريخ آخر غير عام 627 هـ يجب أن يقابل بالشك. وعلى هذا فإنني أتابع القائلين بأن العطار توفي عام 627 هـ وذلك للأدلة الآتية .   1 - لا شك أن إجماع أغلب المؤرخين على تحديد سنة وفاة العطار بعام 627 هـ يلزمنا بقبول هذه السنة تاريخا لوفاته ، وقد قام الأستاذ نفيسي بعمل إحصاء للتواريخ التي ذكرت على أن العطار توفي في إحداها فظفر عام 627 هـ بأكبر نصيب إذ ذكر تسعا وعشرين مرة . 2 - سبق أن ذكرت أن ولادة العطار تمت في رأيي - ما بين عامي 545 هـ و 550 هـ وأنه عاش أكثر من السبعين ببضع سنوات وعلى هذا فأقرب التواريخ لوفاته هو عام 627 هـ.   3 - قال العطار في إحدى منظوماته يتحدث عن نجم الدين كبرى ، وذلك نقلا عن الترجمة التركية لمنطق الطير والتي قام بها الأستاذ جولبنارلي . اينجين كفتست نجم الدين مارا * آنكه بوده ، در جهان از أوليا - وهذا ما قاله نجم الدين لنا ذلك الذي كان من الأولياء في الدنيا . ونلاحظ أن الفعل « بوده » في الزمن الماضي ، مما يؤكد أن العطار قال هذا البيت بعد وفاة نجم الدين كبرى ، ونحن نعرف أن وفاته كانت عام 618 هـ ، وعلى هذا فالعطار كان على قيد الحياة بعد هذا العام .   4 - يقول الأستاذ نفيسي إن العطار تحدث عن بعض معاصريه كما يتحدث الإنسان عن الأموات وهؤلاء المعاصرون هم : سعد الدين الحموي المتوفى عام 605 هـ ، ومجد الدين الخوارزمي المتوفى عام 616 ه ، وعلاء الدين تكش خوارزمشاه المتوفى عام 617 هـ ، وقطب الدين حيدر المتوفى عام 618 هـ.   5 - لقاء العطار ببهاء ولد وابنه جلال الدين الرومي عام 616 هـ أو 618 هـ وإهداؤه كتاب « أسرار نامه » لجلال الدين يثبت أن العطار كان على قيد الحياة حتى عام 618 هـ.   6 - يذكر المؤرخون أن خواجة نصير الدين الطوسي التقى العطار بنيسابور - وهذا اللقاء تم بين عامي 612 ، 618 هـ قبل أن يرحل الطوسي من نيسابور  ومعنى ذلك أيضا أن العطار كان حيا حتى عام 618 هـ.   7 - برغم أن كتب التاريخ قد ذكرت أن المغول قد خربوا كل مظاهر الحياة في نيسابور وقتلوا كل حي وأحرقوا كل عود أخضر ، إلا أن هذا - في رأيي - على سبيل المبالغة في وصف فداحة الغزو ، فلا يعقل مهما كانت ضراوة المعركة أن يصيب الموت والقتل كل ساكني نيسابور عام 618 هـ ، ولا بد من نجاة البعض ، ولم لا يكون العطار من بين الناجين ، وبخاصة أنه لم يشارك في حمل السلاح والكفاح كنجم الدين كبرى مثلا ؟ ولذا فإنني أرى أن العطار استطاع بطريقة أو أخرى أن يهرب من القتل العام سنة 618 هـ وظل على قيد الحياة حتى توفي عام 627 هـ .   8 - إن التواريخ التي ذكرت بعد عام 627 هـ كلها وجدت في كتب تم تأليفها في زمن متأخر نسبيا عن عصر العطار ، ولذا لا يعتمد عليها في تحديد عام وفاة العطار .   قصة وفاة العطار : يقول جامي : « وحضرة الشيخ استشهد في عام 627 هـ على يد الكفار . . . » ولكن دولتشاه يفصل لنا قصة قتله فيقول : " لقد أسره أحد جنود المغول وأراد قتله ، فتدخل أحد مريدي الشيخ وطلب أن يدفع مبلغ ألف درهم ليفدي بها روح العطار ، فقبل المغولي ، ولكن العطار لم يوافق على ذلك ، وقال : سيتقدم من يدفع أكثر من هذا المبلغ ، فلا تقبل .   وقال مغولي آخر مازحا : لا تقتل هذا الشيخ ، إنني أدفع ثمنا له صندوقا من التبن ، فأسرع العطار بالموافقة على هذه الصفقة الأخيرة ، وقال : إن ثمني لا يتعدى أكثر من هذا . فزاد ذلك من حنق المغولي فقتله . وهذه القصة لا تعدو أن تكون خرافة ، فعام 627 هـ لم تحدث فيه غارة على نيسابور : ويحتمل أن يكون كتاب التراجم - كما قال الأستاذ روحاني - قد كتبوا القصة بعد وفاة العطار بمدة مديدة حيث انسدل ستار النسيان على الحوادث . ولكن كانت لهم نفوس غمرها الإعجاب بروحانية العطار فظنوا أن وليا كالعطار لم يكن ليموت إلا شهيدا في جو من الخوارق والعجائب والكرامات ، ولم يخطر ببالهم أن قيمة الشاعر لا يغض منها شيء لو أنه مات ميتة طبيعية .   وهناك خرافة أخرى تتصل بقصة مقتله مؤداها : أن العطار بعد أن ضربت عنقه حمل رأسه بين يديه وعدا مدة من الزمن وهو يؤلف كتابه « بيسرنامه »  «أي كتاب المقطوع الرأس». وهذا الأمر لا يحتاج إلى أي جهد في إثبات بطلانه ، فالعقل لا يمكن الموافقة على هذه الخوارق التي لا تروج إلا لدى السذج من العامة كما أن هذا الكتاب مدسوس على العطار ، فلا يمكن عقد أي صلة بينه وبين العطار . وأخيرا لا يسعنا إلا أن نكذب كل هذه الأباطيل التي لا تعدو أن تكون من باب الخرافات التي لا تستند إلى واقع من حياة الشاعر ، وأن نعترف بأن العطار توفي وفاة طبيعية عام 627 هـ.   قبر العطار : يقول الأستاذ نفيسي نقلا عن « إمام زاده محمد مرزوق » : أما مقبرة فريد الدين العطار رحمه اللّه عليه فهي تقع غرب نيسابور وهي بقعة مسدسة تقريبا ترتفع عن الأرض مقدار ثمانية أذرع وقد كتب على أعلى المدخل جهة الجنوب « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » يا زكي الطاهرين ، من كل آفة يقدسه ، العاصي عبد العلي . وقد كتبت على النصب الحجري في أعلى القبر هذه العبارة « اللهم صلى على النبي الوصي والبتول والسبطين .   وزين العباد والباقر والصادق والكاظم والرضا والتقي والنقي والعسكري والمهدي صلوات اللّه عليهم". وهذا القبر تم بناؤه في عام 891 هـ أيام الأمير الغازي حسين بايقرا وهو أحد أفراد الأسرة التيمورية ، وكان شيعيا متعصبا لذا اهتم بكتابة أسماء الأئمة الاثني عشرية على قبر العطار حتى يوحي للجميع بأن العطار كان شيعيا . ولكن هل هذا القبر هو أول قبر بني للعطار ؟ بطبيعة الحال ، لم يكن أول قبر ، فقد بني له قبر عادي يوم وفاته ، ثم شيد القاضي يحيى بن صاعد عمارة بجواره امتثالا لأمر ابنه المتوفى وقد كان من محيي العطار ، ثم خربت هذه العمارة فأعاد الأمير نظام الحق والدين عليشير بناء عمارة أخرى لتكون مزارا للشيخ يزوره الناس للتبرك به . وما يهمني من كل ذلك هو النص الذي كتب على شاهد القبر ، وقد اطلعت على صورتين لهذا النص ، الأولى أوردها جارسان دي تأسي في مقدمة ترجمته لمنطق الطير عام 1862 م ، والثانية أوردها الأستاذ نفيسي في كتابة « جستجو . . . » الذي ألفه عام 1321 هـ . ش ونص جارسان يبلغ عشرين بيتا أما نفيسي فيزيد عليه ثلاثة أبيات ، وهذه ترجمة لذلك النص. 01 - هذه جنات عدن في الدنيا ، عطر العطار مهجة من دنا 02 - إنه قبر ذي المكانة العالية ، من كان تراب طريقه كحل الفلك الأزرق. 03 - والعطار هو شيخ العالم الفريد ، وكل الأولياء له مريدون . 04 - وما أعجبه من عطار ، فقد تعطرت الدنيا على رحبها بشذى أنفاسه . 05 - وفي دكانه حيث تعيش الملائكة، كان الفلك زجاجة مليئة بأقراص الليمون. 06 - وحتى يوم القيامة سيظل لتراب نيسابور شرف عظيم بفضل صاحب هذا المقام العالي . 07 - وقد أحال تراب نيسابور ذهبا ، فمولده بزروند ومقره بكدكان . 08 - وقد عمر اثنين وثمانين عاما في سابور ، واستقر به الحال اثنين وثلاثين عاما في شادياخ 09 - وفي عام ستة وثمانين وخمسمائة هلك بالسيف ذلك الشبيه بالشمس الوهاجة 10 - هلك في عهد هولاكوخان ، واستشهدت روحه الطاهرة 11- والعارفون باللّه حق المعرفة ، تخلوا عن أرواحهم فداء له 12 - روح اللّه تعالى روحه ، ربّ أكثر من بره وفتوحه . 13 -  وقد تمت هذه اللوحة لذلك العالي المنزلة في زمان دولة سيد الدنيا 14 - حضرة السلطان أبي الغازي حسين ، ظل الحق وظهير وملاذ الخافقين 15 - والقضاء والقدر جعلاه من الصولة ، حتى أنه يقدم لعدوه من العسل سما 16 - وما أن سمع أنو شيروان بعدله ، حتى أصاب السرور روحه 17 - وبفضل عدل ذلك الملك الشجاع استطاع الماعز أن يمشط لحيته بمخلب الأسد 18 - خلد اللّه تعالى ملكه ، وفي بحار العدل أجرى فلكه 19 - وكم أدرك التوفيق ذلك الأمير الكبير ، كما أصبح ملاذا وملجأ للأمير والفقير 20 - والأمير الجواد عليشير ، كم كان الفلك بعوضة صغيرة أمام همته 21 - وهو صاحب خيرات بلا كبر ولا رياء ، وهو مظهر الأنفاس المقدسة الطاهرة 22- وقد أبعد النفس عن الطمع والشهوة ، فهو كالحكماء فخره بفقره 23 - وهو يعيش في فلك أقوال العطار على الدوام حتى أدركت روحه مجال التحقيق    لا شك أن تأليف القصيدة بعد موت العطار بسنوات طوال تقدر بأربع وستين ومائتي سنة ، أوقع ناظمها في أخطاء أشرت إلى بعضها في ثنايا البحث وأجملها سريعا هنا : - 1 - تابع من قبله في تحديد عمر العطار بمائة وأربع عشرة سنة وهذا خطأ 2 - ذكر نيسابور على أنها « سابور » وهذا خطأ أيضا 3 - ذكر أن مولده في « زروند » ولعله يقصد « زورابذ » وهي ناحية بنيسابور . 4 - وكد كان هي كدكن التي نسب دولتشاه العطار إليها وهي قرية من قرى خراسان . 5 - حدد عام وفاته بعام 586 ه ثم أردف قائلا : إن ذلك في عهد هولاكو ، وهذا لا يحتاج إلى جهد لإثبات بطلانه ، فلم يتقدم هولاكو إلى العالم الإسلامي إلا عام 651 هـ. وبهذا ينتهي الحديث عن العطار من الناحية التاريخية ، بعد أن تحدثت عن رحلة حياته من المولد إلى الوفاة ، وما اتسمت به هذه الرحلة من أحداث ونكات وذلك في إيجاز شديد .   الفصل الثاني منظومة منطق الطير تمهيد : مؤلفات العطار يرتبط اسم فريد الدين العطار بالعديد من الكتب ، حتى أوصلها البعض إلى مائة وأربعة عشر كتابا ، أي بعدد سور القرآن الكريم . ولا شك أن هذا العدد مبالغ فيه ، إذ لم يذكر جامي من مؤلفاته إلا أسرار نامه فقط ، وذكر دولتشاه أربعة عشر كتابا ، وذكر القزويني واحدا وعشرين كتابا ، أما جولبنارلي التركي وريتر الألماني فقد أوصلا مؤلفات فريد الدين العطار إلى ثلاثين كتابا ، وأخيرا قام الأستاذ سعيد نفيسي بعمل إحصاء لجميع أسماء الكتب التي قيلت إنها من تأليف العطار ، فوصل العدد إلى ستة وستين كتابا ومع هذا فإن الكتب الصحيحة النسب إلى فريد الدين العطار ، والتي وصلت إلى أيدينا تسعة كتب فقط ، هي : 1 - تذكرة الأولياء 2 – أسرار نامه 3 – إلهي نامه 4 – پند نامه 5 – خسرو نامه 6 - الديوان 7 – مختار نامه 8 – مصيبت ‌نامه 9 - منطق الطير وجميع هذه الكتب شعرية ، عدا كتاب ( تذكرة الأولياء ) الذي تناول فيه بالشرح والدراسة أحوال عدد كبير من مشايخ التصوف ، ويقع في جزئين كبيرين وقد أشرف على طبعه وتصحيحه العلامة محمد بن عبد الوهاب القزويني .   كما أن هذه الكتب قد نشرت وترجم بعضها إلى لغات عدة ، أما عن الترجمة إلى اللغة العربية ، فلم يترجم منها إلا كتاب ( يند نامه ) أي كتاب النصيحة. وبالتالي تكون الترجمة العربية التي يتضمنها هذا الكتاب هي الترجمة الثانية لأحد أعمال العطار ، وكم آمل أن تلقى بقية كتب العطار ومنظوماته عناية دارسي اللغة الفارسية في العالم العربي فيقبلون على دراستها ونقلها إلى اللغة العربية .   نقد وتحليل منظومة منطق الطير أولا : التعريف بالمنظومة : - لا شك أن منظومة منطق الطير من أعظم ما نظم في الأدب الفارسي عامة وفي الأدب الصوفي خاصة ، فالقالب القصصي الممتع الذي ركبت فيه بجانب المعاني الروحية التي شملتها أعطتها هذه الأهمية بين كتب التصوف ولا يكاد يذكر اسم فريد الدين حتى يذكر بجانبه اسم « منطق الطير » فقد أصبح فريد الدين علما على « منطق الطير » وأصبح « منطق الطير » علما على فريد الدين العطار . ويشاركني في هذا الرأي كل الذين كتبوا عن العطار دون استثناء . فبراون المستشرق الإنجليزي يقول : « إن منطق الطير من أهم مثنويات الصوفية وأوسعها شهرة . . . » . ويقول بارتلس المستشرق الروسي : « من أحسن ما فاضت به قريحة العطار المنظومة المعروفة باسم « منطق الطير » . ومنظومة منطق الطير تعرف أحيانا باسم « مقامات الطيور » ، وإنني أعتقد أن العطار أخذ اسم المنظومة من القرآن الكريم ؛ إذ يقول اللّه تعالى : "وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين" . وجميع الطيور التي تحدث عنها العطار طيور حقيقة ، لها وجود في عالمنا الأرضي ، أما إله الطير والذي رمز له باسم « سيمرغ » فطائر وهمي لا وجود له في الكون مطلقا والعطار يقص لنا قصته في أول منطق الطير ويخبرنا بأنه ينتسب إلى بلاد الصين . - وابتداء أمر السيمرغ ، ويا للعجب ، أنها مرت بديار الصين في منتصف الليل مزدانة الإهاب . ولكن هل العطار مبدع هذا الاسم ، أم آخذه عن غيره ؟ يقول بيزي : اسم هذا الطائر الخرافي هو « سيناميرغا » في الأفستا ، و « سين مورغ » أو « مورو » في البهلوية ، ولكن معناه يدل على شيء يختلف تماما عما استعمله العطار . أما المستشرق الإيطالي « أنطونيو » فيقول : « إن هذا الاسم - أي سيمرغ - من أصل فارسي خالص وقد ذكر في الأفستا ، وفي البهلوية مرتبطا بشجرة الحياة التي تنمو في ماء بحر « فاركاش » ، وأن نصا بهلويا هو « مينوك خرد » الفصل 62 ، جاء فيه أن عش هذا الطائر على شجرة طيبة وهي تعطي بذورا كثيرة ، وأغصانها تنثر بذورا تحيل الأرض خصبة إذا ما وقعت عليها » . ويفهم من أقوال هذين المستشرقين أن طائر السيمرغ طائر ذو مكانة عند الإيرانيين قبل الإسلام ، وأنه يعيش حيث الخير والنماء والرائحة الزكية ، وقد أعاد العطار إليه الحياة بعد أن نسيه الإيرانيون مدة طويلة من الزمن ، ولكنه حرف في نطقه بعض الشيء ، حتى يتمكن من إتمام الجناس بين لفظتي « سيمرغ » « وسي مرغ » وحتى يتمكن من الوصول إلى فكرته عن « وجدة الشهود » في آخر المنظومة .   ولكن كيف أنطق العطار الطيور ؟ لا شك أن العطار أفاد في هذا الصدد من قصة سيدنا سليمان عليه السلام وحديثه مع الطير ، والقرآن الكريم تكثر به الآيات التي تفيد أن للطير لغتهم الخاصة : « حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » .   كما أنطق اللّه سبحانه وتعالى الهدهد ، فقد قال الهدهد موجها حديثه إلى سليمان عليه السلام : « فَقالَ : أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ » . إلى غير هذه الآيات التي أنطقت الطير ، وبذلك وجد العطار في القرآن الكريم مادة صالحة لمنظومته منطق الطير ، كما أن العطار أفاد كذلك من الكتب السابقة التي أنطقت الطير ككتاب « كليلة ودمنة » وغيره من الكتب . والعطار أنطق الطير بدلا من الإنسان ، وجعلها تسعى جاهدة حتى تدرك الاتصال باللّه ، وهذا ليس بغريب ، فاللّه يذكر أن الطير تسبح اللّه كما يسبحه الإنسان : "ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ » . ولكن كيف تمكن العطار من توليد الفكرة الصوفية من خصائص بلبل أو بومة مثلا ؟ يجيب المستشرق الألماني ريتّر على هذا بقوله : إن الوسيلة إلى ذلك هي الوسيلة الفنية أو الصناعة التي نعتبرها عصا السحر في الشعر الفارسي والمفتاح الذي فتح به ما استغلق من معانيه ، فعند الكائنات التي لا تنطقها الطبيعة ترتبط هذه الوسيلة الفنية بأخرى ألا وهي لغة الحال « زبان حال » فإذا بدأ الكلام جماد أو كائن ليست له لغة الإنسان ليتحدث عن نفسه أو يقول شيئا ، فلن يقول إلا تأويلا شعريا خياليا لخصائصه . وإن العطار مبرز في هذا الفن لا يشق له غبار ، وإن قدرته على استخدام هذه الطريقة تثير الدهشة في نفس القارئ . أي أن ريتر يعتقد أن العطار يسقط شعوره ومعتقداته على هذه الطيور على أن يخص كل طائر بما يوافقه من طباع وخصائص . وهذه طريقة تعليمية ناجحة أفضل بكثير من الطريقة النظرية التي يلقى فيها الشاعر أو الكاتب بكل آرائه وأفكاره في صورة كلمات جافة لا تنبض بالحياة ، ولكن عرض هذه الأفكار في صورة حوار مسرحي تجذب انتباه القارئ وتساعده على تتبع خيوط هذه المسرحية ومعرفة دور كل ممثل أو طائر يظهر على خشبة المسرح ، والحكمة من ظهوره والموعظة التي يمكن أن يخرج بها من وراء دور كل طائر .   " الفن الشعري " منظومة منطق الطير تندرج تحت فن المثنوي ، ويقصد به التزام القافية بين شطري البيت الواحد دون التزامها في آخر الأبيات كلها ، وهذا الضرب فارسي النشأة لم تعرفه الأشعار العربية ، وإن كان بعض الشعراء الذين كانوا من أصل فارسي قد استخدموه في نظم الأشعار العربية المتأخرة التي عرفت باسم « المزدوج » منذ نهاية القرن العاشر الميلادي ( الرابع الهجري ) .   أما عن الوزن الشعري للمنظومة فهو الرمل : فاعلاتن فاعلاتن فاعلن * فاعلاتن فاعلاتن فاعلن على أن المقياس الأخير فاعلن أحيانا يأتي في آخر الأبيات على صورتين أخريين هما : فاعلات ، فاعلاتن . كما أنه المقياس « فاعلاتن » الذي يأتي في حشو الأبيات قد يصبح « فعلاتن » وكلا المقياسين جميل تستريح له الاذان وتستمع بموسيقاه « 2 » وعلى هذا نرى أن هذا البحر رخو يساعد الشاعر على حرية التعبير فهو ليس بحرا جامدا يلزم شاعره بصورة واحدة ، وهذا ما دفع بيزي إلى أن يقول: « ونحن نلحظ أن البحر الذي اختاره للنظم قد أعانه على الإجادة فهو بحر رخو عذب له جرس محزون جميل ، وهو يختلف اختلافا كبيرا عن ذلك البحر العنيف الذي اختاره الفردوسي للشاهنامه » .   عدد أبيات منطق الطير : يختلف هذا العدد باختلاف النسخ فبينما نجد العدد في نسخة باريس 1857 م يصل إلى 4647 بيت ، نجده في ترجمة إسطنبول 1962 م يصل إلى 4931 بيت ، ولكن للأسف لم أطلع على النسخة التي اعتمد عليها « جولبينارلي » في ترجمته التركية . ونسخة أصفهان 1319 هـ عدد أبياتها 4703 بيت بينما نسخة أصفهان 1334 ه . ش يصل فيها العدد إلى 4717 بيت . هذا الاختلاف في العدد موجود بين النسخ والترجمات التي اطلعت عليها ولا بد أن هذا الاختلاف موجود أيضا بين النسخ الأخرى لمنطق الطير والتي لم يسعدني الحظ بالاطلاع عليها . والأستاذ نفيسي يقول إن النسخ المعتبرة هي التي يصل العدد فيها إلى 4650 بيت . وقد جاء هذا الاختلاف في العدد نتيجة لأن بعض النسخ تورد حكايات لا توجد في النسخ الأخرى فنجد مثلا أن الحكايات التي تبدأ بالأرقام التالية للأبيات في نسخة باريس لا وجود لها في نسخة أصفهان 1319 هـ ولا في نسخة أصفهان 1334 هـ وهذه الحكايات تبدأ بالأرقام التالية في نسخة باريس 1857 م . 3499 ، 3410 ، 3539 كما أن هناك حكايتين بنسخة أصفهان 1334 هـ لا وجود لهما في نسخة باريس 1857 م ، وهاتان الحكايتان موجودتان بصفحة 124 ، وصفحة 148 من نسخة أصفهان 1334 هـ إلى آخر هذه الاختلافات التي أشرت إليها خلال الترجمة العربية لمنظومة « منطق الطير » ، وكلما دعا الأمر إلى الإشارة .سنة تأليف الكتاب : تورد بعض نسخ « منطق الطير » سنة تأليف الكتاب وبعضها لا تذكر هذه السنة ، وقد جاءت سنة تأليف الكتاب تحت عنوان هو « ختم كتاب » . وقد اطلعت على هذه الخاتمة في نسخة أصفهان 1334 هـ ، ولكن لا وجود لها في نسختي باريس 1857 م وأصفهان 1319 هـ . وهذه الخاتمة تحدد عام 583 هـ تاريخا لانتهاء الشيخ فريد الدين العطار من تأليف الكتاب .   فقد قال العطار ما ترجمته : -  وقد فتح اللّه الأبواب تفضلا منه واتفق ذلك مع ختم هذه النسخة . وذلك يوم الثلاثاء وقت الظهيرة في اليوم العشرين من شهر اللّه . وفي صفاء وذوق وراحة ووقت طيب يتتالى بالرحمة وذلك بعد مرور 583 عام من هجرة الرسول ذي الجلال وقد قال العطار كلاما عن جميع الرجال ، فإذا كنت ذا شهامة ، فتذكره بالخير وبعض النسخ تذكر عام 573 هـ بدلا من عام 583 هـ ، كما أن جارسان دوتاسي ذكر أن تاريخ إتمام منطق الطير عام 1175 م أي 571 هـ .   ولكن أصح هذه التواريخ هو عام 583 هـ وهو ما يتفق عليه معظم الباحثين الآن . ولكن متى بدأ العطار نظمه لمنطق الطير ؟ لا أحد يدري لهذا السؤال جوابا ، كما أن العطار لم يشر إلى ذلك . ومما لا شك فيه أن منطق الطير يعتبر أعظم كتب العطار على الإطلاق وأوسعها شهرة وذيوعا في العالم أجمع ، ولا يشاركه في هذه الشهرة من كتبه غير تذكرة الأولياء . وهذه الشهرة جعلت الكثيرين من الباحثين في العصر الحديث يهتمون به كما اهتم به أصحاب التراجم في جميع العصور التي تلت العطار ، هذا الاهتمام جعل أكثر من باحث أجنبي يترجمه إلى لغته ، فقد ترجم إلى الأردية والتركية والفرنسية والسويدية والإنجليزية . وهذه القيمة العظيمة لمنطق الطير جعلت العطار يتيه عجبا ويقول ما ترجمته : - لقد ختم عليك منطق الطير ومقامات الطيور كما ختم على الشمس بالنور . - وهذه المقامات طريق كل حائر ، كما أنها ملاذ لكل مضطرب   وكل من لم يتنسم قولا من هذا الأسلوب ، فما أدرك قيد شعرة من طريق العشاق وإذا تيسر لك أن تقرأه كثيرا ، فبلا شك سيزداد حسنا في كل مرة لديك ولقد نثرت الدر من بحر الحقيقة ، كما ختم عليّ الكلام وهذا هو الدليل . وإن تلاشت هذه الأفلاك التسعة من الوجود ، فلن تضيع نقطة واحدة من هذه التذكرة .   لقد صدق العطار فعلى الرغم من مرور أكثر من سبعمائة عام ومنطق الطير له مكانته بين النفوس ، ولم تؤثر فيه أحداث الزمان ، فظل باقيا يشهد بعظمة صاحبه فريد الدين العطار .   ثانيا - بنية الكتاب : - * يبدأ العطار الكتاب على عادة الشعراء في زمانه بالمناجاة ، * ثم ينتقل إلى مدح الرسول محمد عليه السلام ، * ثم مدح الخلفاء الأربعة « أبي بكر وعمر وعثمان وعلي » * ثم كلمة في ذم التعصب بين السنة والشيعة * ومكالمة بين عمر بن الخطاب وأويس * ثم ماذا حدث بين علي وقاتله ، * ثم حديث للرسول ، * ثم قول في شفاعة الرسول عليه السلام . وإلى هنا تنتهي المقدمة .   ونلاحظ على هذه المقدمة أن العطار مدح فيها الخلفاء الأربعة ، ولكن بعض غلاة الشيعة يعمدون إلى كتب العطار ويحاولون حذف مدح الخلفاء الثلاثة « أبي بكر وعمر وعثمان » والإبقاء على مدح علي حتى يدعوا أن العطار كان شيعيا ولذا فإن بعض نسخ منطق الطير خالية من مدح الخفاء الثلاثة الأول لهذا السبب.   كما أن القصة التي ذكر فيها الحوار بين عمر بن الخطاب وأويس جعلت البعض يدعي أنه أويسي كما ذكرت من قبل . وإصرار العطار على ذم التعصب دليل على أنه بعيد كل البعد عن أي تعصب لأهل السنة أو للتشيع ، وأنه كان مسلما متصوفا ومترفعا عن كل تعصب مذهبي.   بعد ذلك يبدأ في سرد القصة - قصة الطير - ويقسمها إلى خمس وأربعين مقالة بيانها كالآتي : - المقالة الأولى : في جمع الطيور للبحث عن إله واحد يتوجهون إليه بالعبادة . المقالة الثانية : حديث الهدهد مع الطير في طلب السيمرغ الذي اتخذوه رمزا للإله المنشود ، ثم يخبرهم الهدهد بابتداء أمر السيمرغ . من المقالة الثالثة إلى المقالة الثانية عشرة : سرد أعذار كل طائر على حدة وهي بمثابة أعذار السالكين في الطريق إلى الحضرة العلية . المقالة الثالثة عشرة : عذر جميع الطيور . المقالة الرابعة عشرة : سؤال الطير الهدهد عن طريق السير . المقالة الخامسة عشرة : اتفاق الطير على التوجه صوب السيمرغ . المقالة السادسة عشرة : مشاورة الطير للهدهد حول الطريق وما به من عقبات وصعاب يجب اجتيازها . من المقالة السابعة عشر إلى المقالة الثامنة والثلاثين . عودة إلى أعذار الطير وبيان استفساراتهم ورد الهدهد عليهم . وفي نهاية المقالة الثامنة والثلاثين يعرض العطار للأودية السبعة .   وهنا نلاحظ أن جارسان قد دمج الوادي الأول مع المقالة الثامنة والثلاثين ولكن نسختي أصفهان تفردان للوادي الأول عنوانا مستقلا تابعا للمقالة الثامنة والثلاثين ، والوادي الأول هو " وادي الطلب " . من المقالة التاسعة والثلاثين إلى المقالة الرابعة والأربعين : بيان الأودية الستة الباقية وهي : أودية العشق ، المعرفة ، الاستغناء ، التوحيد الحيرة ، ثم الفقر والفناء . المقالة الخامسة والأربعون وهي الأخيرة : في طريق الطير صوب السيمرغ ، ثم يتبعها العطار بتصوير ذهاب الطير صوب السيمرغ ومثولها في حضرته وأخيرا خاتمة الكتاب .   وفي بعض النسخ يوجد « ختم الكتاب » يحدد فيه العطار سنة تأليفه . أي أن الكتاب ينقسم إلى مقدمة وموضوع وخاتمة ، ولكن أثناء عرضه للمقدمة أو للموضوع أو للخاتمة كان يسرد حكايات وقصصا بلغ عددها مائة وإحدى وثمانين حكاية في نسخة باريس 1857 هـ، ومائة وتسعا وسبعين حكاية في نسخة أصفهان 1319 هـ. وهذه الحكايات سيقت لتوضح أفكار القصة الرئيسية وهي حكايات تختلف طولا وقصرا حسب موضوعها، وأقصر حكاية تتكون من بيتين (ص: 132 منطق الطير نسخة باريس 1857م).   وأطول الحكايات على الإطلاق قصة الشيخ صنعان ، وسأناقش أصول هذه القصة بعد الحديث عن منطق الطير بين الخلق والنقل .   ثالثا : منطق الطير بين الخلق والنقل : يقول "بيزي Pizzi " إن الأسطورة التي هي موضوع الكتاب - منطق الطير - ليست من بنات أفكاره - أي العطار - لأنه لم يبتدعها . وإنما كانت قصة من القصص ذات الطابع الشعبي . وكانت معروفة مألوفة فنحن نعلم أن « ابن سينا » قد عرض لها بكيفية فلسفية » . ولكن بالنظر إلى « رسالة الطير » لابن سينا وجدت أن الرسالتين مختلفتان في جوهرهما . فابن سينا له وجود في الرسالة ويطير مع الطير ، أما العطار فلا وجود له في منطق الطير إلا بارائه ولا وجود لشخصه ، ثم إن رسالة الطير فيها صيادون قد أمسكوا بالطير في شباكهم ولا أثر لذلك في منطق الطير وربما أن الشباك في منطق الطير هي نفوس الطير ورغباتهم الشريرة . كما أن وديان منطق الطير سبعة ولكن جبال رسالة الطير ثمانية ، كما أن الغرض من رحلة الطير في منطق الطير هو الفناء في اللّه والاتحاد معه ، أما الغرض من الرحلة في رسالة الطير هو أن يخلصهم الملك من الشباك . ثم إن الطير في رسالة الطير قد عادت أدراجها بعد أن حظيت بمقابلة الملك ، ولكن طيور منطق الطير لم تعد من رحلتها لأنها فنت في ذات الإله فلا وجود لها ، وكيف تعود وقد أدركت بغيتها من الرحلة الشاقة . ورسالة الطير ترجمها السهروردي إلى الفارسية وقد آثرت أن أطلع عليها بالفارسية وخاصة أن الشيخ الفاضل « عمر بن سهلان الساوجي » قد شرحها بالفارسية أيضا - لأرى مدى التقارب والتباعد بين منطق الطير وبينها .   وهكذا نرى أن هناك اختلافا جوهريا بين الرسالتين يجعلنا نجزم بأن العطار لم يستفد منها . خاصة وأنه يكره الفلاسفة ولا يثق في كلامهم وهو الذي قال في منطق الطير : وكاف الكفر هنا - بحق المعرفة - لأفضل كثيرا لدى من فاء الفلسفة . وإذا كان هناك تشابه بين الرسالتين في شيء فهو تشابه بين الأسماء وبين رحلة الطير في كل منهما ولكن ما أعظم الفارق بين الرحلة الصوفية في منطق الطير والرحلة الفلسفية في .   إذا لم يكن العطار قد تأثر بابن سينا في « رسالة الطير » ، فهل تأثر بأبي العلاء في « رسالة الغفران » والتي كتبت عام 424 هـ ؟ . رسالة الغفران لأبي العلاء تحكى رحلة « ابن القارح » للعالم الآخر ومروره بالجنة والنار وسؤاله من وجدهم بالجنة « بم غفر لك ؟ » كما كان يسأل كل من يجده في النار بقوله " ألم يغفر لك قولك ؟ " .   وبعد أن لجأ إلى الرسول وطلب منه الشفاعة تشفع له الرسول ، فغبر الصراط إلى الجنة . ومر هناك بأقوام عديدين واطلع على أحوالهم ، ثم عبر الجنة إلى الجحيم ورأى أهله ، ثم عاد مرة أخرى إلى الفردوس . وكان في كل مرة يحادث من يمر بهم ولكن الملاحظ أنه قصر كلامه على الشعراء دون غيرهم . وهكذا نجد أن منطق الطير تختلف تماما عن "رسالة الغفران"  . فالسالكون في منطق الطير هم طيور أما السالك هنا فهو من بني البشر وهو ابن القارح . كما أن الغرض الرئيسي من منطق الطير هو الاتحاد مع الذات العليّة ، ولكن الغرض الرئيسي في « رسالة الغفران » هو شرح حال الجنة والنار ومن يسكنون في كل واحدة منهما . ومن حادثهم « ابن القارح » في « رسالة الغفران » هم من الشعراء دون غيرهم ونحن لا نجد أثرا لذلك في منطق الطير . الشيء الوحيد الذي فيه تشابه بين الرسالتين هو أن الشفاعة « لمحمد » وحده عليه السلام ، وهذا الاعتقاد شركة بين المسلمين فلا فضل للعطار ولا للمعري في ذلك . ويقول الأستاذ نفيسي « يقول مؤلف مجالس المؤمنين وهو يتكلم عن مؤلفات العطار . . . إنه يسير على نهج سنائي . . . وقال ذلك أيضا مؤلف روضات الجنات ، وهذا صحيح لا يحتاج إلى ترديد ، لأن زعيم جميع الشعراء الصوفية في إيران قبل القرن السادس هو سنائي ، وهو الشخص الذي أوصل الشعر الصوفي إلى أوج عظمته ، خصوصا وأن العطار قد اطلع على آثاره فمنطق الطير ما هو إلا عبارة عن سير الروح في المدارج المختلفة ووصولها إلى حد الكمال والاتحاد والوحدة مع اللّه ، وهذا ما أوضحه سنائي في مثنويته سير العباد إلى المعاد » .   لا شك أن العطار تأثر بسنائي وكان يكبره وقد مدحه كثيرا في كتبه . وربما أفاد العطار من « سير العباد » في وصف بعض مدارج السالكين ، ونزعاتهم وشرودهم ، والعقبات التي تقف في طريقهم ، ولكن رغم هذا فبنية قصة « منطق الطير » تختلف عن بنية « سير العباد إلى المعاد » في أكثر من اتجاه :   أولا : سنائي يطل علينا برأسه من خلال كتابه فهو الذي يترقى في الطريق ويمر بأوديته المختلفة أما العطار فلا وجود له في منطق الطير بل الوجود كله للطير والعطار يحركها من وراء ستار . ولعل ظهور سنائي في كتابه يشبه ظهور " ابن سيناء " في " رسالة الطير ". ثانيا : سنائي يسمى الصفات البشرية بأسمائها ، فيقول مثلا : صفة صورة الحقد  صفة صورة البخل ، صورة الطمع ، صورة التكبر . . . إلى غير ذلك مما يعرض له سنائي ، أما العطار فيرمز لها بالطيور وأعذارها وأسئلتها .   ثالثا : العطار يجعل المرشد هو الهدهد ، أما سنائي فيجعل المرشد من بني البشر الذين تطهروا من كل الأدران والعلائق الدنيوية .   رابعا : سير العباد إلى المعاد يمثل رحلة ثنائية ، أما رحلة منطق الطير فجماعية .   خامسا : سنائي يذكر في كتابه الطير والحيوان والإنسان أما العطار فيخص قصته بالطير فقط.   سادسا : العطار ينفر من المدح للتكسب أما سنائي فقد ختم منظومته بمدح أبي المفاخر سيف الدين محمد بن منصور قاضي سرخس ، أملا في عطاياه . إذا كان العطار لم يأخذ فكرة منظومة « منطق الطير » من « رسالة الطير » لابن سينا ولا من « رسالة الغفران » لأبي العلاء . ولا من « سير العباد إلى المعاد » لسنائي فممن أخذها إذن ؟ إن العطار أخذ المضمون العام لقصته من « رسالة الطير » للغزالي . ويقول ريتر في هذا الصدد : إذا ما تصدينا لقصة « منطق الطير » فمما يسعدنا أن نعرف المصدر الذي استقى منه الشاعر فكرته ، إنه « رسالة الطير » من تصنيف "محمد الغزالي" ( المتوفي عام 505 هـ - 1111 م ) بالعربية ، وتصنيف أخيه أحمد ( المتوفي عام 517 هـ : 1123 م ) بالفارسية . وإن خصائص الأسلوب في القصة العربية تجعل الترجمة وعرة ، ولعل النص الفارسي هو الأصل . أي أن ريتر Ritter يعتبر المصدر الرئيسي لقصة منطق الطير هو « رسالة الطير » للغزالي وخاصة الترجمة الفارسية التي قام بها أحمد الغزالي ، وقد بحثت عن الترجمة الفارسية فلم أجدها ، فاطلعت على الأصل العربي . وقبل أن نعطي حكما يجب علينا أن نستعرض « رسالة الطير » للغزالي أولا ، ثم ندرك مواطن الالتقاء أو الاختلاف بعد ذلك ، وهذا ملخص واف لرسالة الغزالي : بسم اللّه الرحمن الرحيم اجتمعت أصناف الطيور على مختلف أنواعها وتباين طباعها وزعمت أنه لا بد لها من ملك واتفقوا أنه لا يصلح لهذا الشأن إلا العنقاء ، وقد وجدوا الخبر عن استيطانها في مواطن الغرب . . . فجمعتهم داعية الشوق ، وهمة الطلب فصمموا العزم على النهوض إليها والاستظلال بظلها والمثول بفنائها والاستعداد لخدمتها . وإذا الأشواق الكامنة قد برزت من كمين القلوب ، وإذا هم بمنادي الغيب ينادي من وراء الحجب ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) . لازموا أماكنكم ، ولا تفارقوا مساكنكم ، فإنكم إن فارقتم أوطانكم ضاعفتم أشجانكم ، فدونكم والتعرض للبلاء والتحلل بالفناء . . . فلما سمعوا بنداء التعذر من جناب الجبروت، ما ازدادوا إلا شوقا وقلقا وأرقا . . . ثم نادى لهم الحنين ودب فيهم الجنون ، فلم يتلعثموا في الطلب اهتزازا منهم إلى بلوغ الإرب ، فقيل لهم بين أيديكم . . . الجبال الشاهقة والبحار المغرقة وأماكن القر ومساكن الحر فيوشك أن تعجزوا دون بلوغ الأمنية فتخترمكم المنية ، فالأحرى بكم مساكنة أوكار الأوكار قبل أن يستدرجكم الطمع . وإذا هم لا يصغون إلى هذا القول ولا يبالون بل رحلوا . . . وامتطى كل منهم مطية الهمة قد ألجمها بلجام الشوق وقومها بقوام فرحلوا من محجة الاختبار ، فاستدرجتهم محن الاضطرار فهلك من كان من بلاد الحر في بلاد البرد ، ومات من كان من بلاد البرد في بلاد الحر وتصرفت فيهم الصواعق ، وتحكمت عليهم العواصف ، حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك.  ونزلوا بفنائه والتمسوا من يخبر عنهم الملك . . فأخبر بهم فتقدم إلى بعض سكان الحضرة من يسألهم ما الذي حملهم على الحضور ، فقالوا حضرنا ليكون مليكنا ، فقيل لهم : أتعبتم أنفسكم فنحن الملك شئتم أو أبيتم ، جئتم أو ذهبتم ، لا حاجة بنا إليكم ، فلما أحسوا بالاستغناء والتعذر أيسوا . . . وشملتهم الحيرة وقالوا : لا سبيل إلى الرجوع فقد تخاذلت القوى وأضعفتنا الجوى فليتنا تركنا في هذه الجزيرة لنموت عن آخرنا . . . ! فلما عمهم اليأس وضاقت بهم الأنفاس تداركتهم أنفاس الإيناس وقيل لهم هيهات فلا سبيل إلى اليأس . . . فإن كان كمال الغنى يوجب التعذر والرد ، فجمال الكرم أوجب السماحة والقبول ، فبعد أن عرفتم مقداركم في العجز عن معرفة قدرنا فحقيق بنا إيواؤكم . . . فإنه يطلب المساكين الذين رحلوا من مساكنة الحسبان . . . ومن استشعر عدم استحقاقه فحقيق بالملك العنقاء أن يتخذه قرينا ، فلما استأنسوا بعد أن استيأسوا وانتعشوا بعد أن تعسوا ووثقوا بفيض الكرم . . . سألوا عن رفقائهم فقالوا : ما الخبر عن أقوام قطعت بهم المهامة والأودية . امطلول دماؤهم أم لهم دية ؟ فقيل هيهات . هيهات.. ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ). . . والذين غرقوا في لجج البحار ولم يصلوا إلى الدار بل التقمتهم لهوات التيار . قيل هيهات« وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ ». فالذي جاء بكم وأماتهم أحياهم ، والذي وكل بكم داعية الشوق حتى استقللتم الفناء والهلاك في أريحية الطلب دعاهم وحملهم وأدناهم وقربهم فهم حجب العزة وأستار القدرة . . . قالوا والذين قعد بهم اللؤم والعجز فلم يخرجوا : قيل : هيهات" وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ". . . أنتم اشتقتم أم نحن شوقناكم . نحن أقلقناكم فحملناكم وحملناهم في البر والبحر . فلما سمعوا ذلك واستأنسوا بكمال العناية وضمان الكفاية كمل أهتزازهم وتم وثوقهم ، فاطمأنوا وسكنوا واستقبلوا حقائق اليقين بدقائق التمكين . وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين . . . (إلى هنا انتهت رسالة الطير للغزالي ) وبعد أن عرضت « رسالة الطير » كما عرضت من قبل بنية « منطق الطير » وجب علينا أن نبحث عن مواضع الالتقاء بين القصتين وهي : اجتماع الطير للبحث عن ملك . . الاتفاق على أن العنقاء أو السيمرغ ملكهم – التصميم على الوصول إلى هذا الملك برغم أخطار الطريق وأهواله – هلاك الكثرة في السفر ووصول القلة إلى الحضرة – ما كان من حاجب الحضرة في كلا القصتين – الحيرة التي تملكت الطير بعد لقاء حاجب الحضرة لها انفراج أسارير الطيور بعد أن حظيت بالمثول أمام الحضرة -   ولكن العطار بخياله الخصب قد أضاف الكثير من عنده إلى ما أخذه عن الغزالي * فلم يكن مجرد ناقل بل كان مبدعا كذلك . فهو قد سمى الطيور بأسمائها - وحدد لنا مرشدا وهاديا ، هو الهدهد ، كما توسع في ذكر المخاطر التي تعرض لها الطير في الطريق ، أضف إلى ذلك أنه أنطق الطير الغاضبة لكي تعبر عن غضبها رامزا بذلك إلى القاعدين عن السلوك ، ولكن الغزالي اكتفى بالسؤال عن القاعدين بعد المثول أمام الحضرة . كما غير العطار في الهدف الرئيسي للقصة فبينما نجد هدف « رسالة الطير » هو المثول أمام الحضرة والاضطلاع بالخدمة في البلاط الإلهي . نجد أن هدف « منطق الطير » صوفي محض يتلخص في الرغبة في الترقي والوصول إلى حد الفناء في اللّه بالاتحاد معه في وحدة شهودية .   كما تعرض العطار لذكر أودية أو مقامات الصوفية وسماها بأسمائها وهذا لا نجده في رسالة الطير . كما أن العطار حدد لنا عدد الطيور التي حظيت بالقبول على خلاف الغزالي الذي قال إن شرذمة من الطير هي التي وصلت إلى الحضرة . وقد وقف العطار على العدد ( ثلاثين ) حتى يستطيع استخدام الجناس المركب بين " سيمرغ " وهو اسم الإله بالفارسية ، وبين « سي مرغ » وهو العدد الذي وصل وهو بمعنى ثلاثين طائرا . وقد استخدم هذا الجناس استخداما بارعا أعانه على الوصول إلى فكرته ، وهي فكرة « الفناء في اللّه » عن طريق وحدة الشهود . وهكذا نرى أن عالم العطار الفكري في « منطق الطير » أغنى بكثير من عالم الغزالي الفكري في « رسالة الطير » وذلك راجع إلى قصر رسالة الطير وطول « منطق الطير » لا إلى أن العطار يفوق الغزالي . فهذا ما لا يستطيع أحد أن يدعيه . وهكذا نرى أن العطار كان ناقلا خالقا لمنظومته « منطق الطير » فقد استعان أولا برسالة « الطير » للغزالي ، كما استعان ببعض أفكار سنائي في "سير العباد إلى المعاد " في وصف مدارك السالكين . وإن كان تأثره بسنائي يقل كثيرا عن تأثره بالغزالي ، وأخيرا لا شك أنه كعادة المؤلفين المسلمين تأثر بالقرآن والحديث ؛ فكثيرا ما يشير إلى معنى آية أو معنى حديث . كما أن العطار لا بد وأنه قرأ الكثير من كتب التراجم الفارسية والعربية ، حتى يستطيع أن يمدنا بهذا السيل الجارف من حكايات منطق الطير ، والتي تعرض فيها لسيرة العديد من رجالات الصوفية المشهورين . حتى يعتبر الدارسون للتصوف منطق الطير - بجانب قصته الرمزية - كتابا من كتب تراجم الصوفية .   وبجانب هذا النقل والتأثر فإن العطار أضفى على القصة الكثير من خياله الخصب وقريحته المتقدة وعلمه الواسع مما ضمن لكتابه المنزلة الكبيرة التي ما زال يتمتع بها حتى الآن في جميع أنحاء العالم .   رابعا : حكاية الشيخ صنعان لم يقتصر العطار في سرد قصة منطق الطير على المقالات الرئيسية التي تحكي قصة سلوك الطير للطريق ، ولكنه كان يذيّل هذه - المقالات بحكايات يشرح فيها فكرة المقالة أو يتحدث فيها عن شيخ من السابقين وكراماته ، وهذه الحكايات لها غرض تعليمي أفضل من الدعوة الصريحة المباشرة . وأطول هذه الحكايات على الإطلاق حكاية « الشيخ صنعان » فقد بلغ طولها أربعمائة وستة أبيات ، طبقا لنسخة باريس 1857 م ، وأربعمائة وتسعة أبيات ، طبقا لنسخة أصفهان 1334 هـ . وقد أوردها العطار بعد المقالة الرابعة عشرة ليؤكد بها قوله عن العشق وأنه أفضل من الكفر والإيمان معا . ولكن هل هذه القصة من إبداع العطار أو أنه تأثر فيها بسابقيه ؟ للإجابة عن هذا السؤال يجدر بنا أن نعرض لقصة الشيخ صنعان كما ذكرها العطار ، ثم نقارنها بالقصص القريبة الشبه منها :   كان الشيخ صنعان يقطن مكة مع أربعمائة من مريديه ، وكان على قدر كبير من الصلاح والتقوى ، ثم رأى فيما يرى النائم أنه رحل إلى بلاد الروم وسجد للصنم ، ورؤية الصالحين صادقة ، فأسرع بالذهاب إلى بلاد الروم مع مريديه ، وما أن وصلوا حتى رأوا فتاة ، تجلس على سقف بناء مرتفع ، وكانت غاية في الجمال فتعلق بها قلب الشيخ في التو والحال ، فساد الاضطراب جميع مريديه ، فبذلوا له النصح دون جدوى ، وأخيرا أصبحت خلوة الشيخ محلة الحبيب ، ولما أدركت الفتاة مقدار شغفه بها عرضت عليه شروطها وهي : السجود أمام الصنم ، وإحراق القرآن ، وشرب الخمر ، والبعد عن الإيمان . فقبل في بداية الأمر شرب الخمر دون غيرها ، وما أن شرب الخمر ، حتى حمله النصارى إلى الدير ، وبعد أن تمكنت منه الخمر ، وسيطر عليه العشق ، قبل أن يكون مسيحيا وأحرق الخرقة ، ثم عرض على الفتاة الاقتران بها ، فاشترطت أن يكون صداقها خدمة الخنازير عاما كاملا ، فقبل الشيخ . وحاول مريدوه إصلاحه دون جدوى فأسرعوا بالعودة إلى الكعبة والغم يسيطر عليهم ، والفضيحة تكتنفهم .   وكان للشيخ صنعان صديق يقطن الكعبة ولكنه لم يكن بها يوم رحيله ، فعندما عاد إلى الكعبة وجد الخلوة تخلو من شيخها فسأل مريديه ، فأخبروه بما حدث له ، فاغتم وحزن حزنا شديدا ، وعنف مريديه لمفارقتهم شيخهم ،. ثم أسرع مع المريدين بالسفر إلى بلاد الروم للحاق بالشيخ ، وواصلوا التضرع والتشفع أربعين ليلة فاستجاب اللّه لتضرعهم ، وذات ليلة رأى أحد المريدين الرسول عليه السلام فطلب منه الشفاعة للشيخ عند اللّه ، فتشفع له الرسول الكريم ، فتخلى الشيخ عن الزنار ولبس الخرقة ثم عاد الجميع إلى مكة ثانية .   وبعد رحيله رأت الفتاة في نومها أن الشمس قد سقطت بجانبها وطلبت منها الإسراع صوب شيخها ، فأسرعت خلف الشيخ حتى وصلت إليه بالحجاز ، فاضطرب الشيخ حين علم بقدومها ولكنها طلبت منه أن يعرض عليها الإسلام ، وما أن أسلمت حتى أسلمت روحها . . . "للتعرف على القصة كاملة يحسن قراءتها في هذا الكتاب ، وهي مدرجة بعد المقالة الرابعة عشرة مباشرة  " هذه قصة الشيخ صنعان كما رواها العطار ، فما أصولها إن لم يكن العطار مبدعها ؟ يقول بعض المؤرخين إن قصص الذين ذهبوا إلى الدير من المسلمين كثيرة ، وسأذكر أشهر هذه القصص مع ترجيح أهم مصدر استقى منه العطار قصته :   يذكر أحمد الأبشيهي في كتابه : المستطرف في كل فن مستظرف الجزء الأول  أن الشيخ عبد اللّه الأندلسي كان يسكن بغداد ، وكان من أصحابه الجنيد والشبلي ، وعدد مريديه إثنا عشر ألفا ، ثم ذهب إلى بلاد الروم وتعلق بفتاة الأمير هناك فتخلى عنه أصحابه وعادوا إلى بغداد ، ثم حاول أن يقترن بالفتاة فكان صداقها خدمة الخنازير . فعاد إليه أصحابه مرة أخرى ولكنه لم يأبه بنصحهم . ولكن بعد أيام ثلاثة فوجئوا بالشيخ أمامهم وقد تخلى عن كفره وعاد إلى سابق عهده . ثم عادوا جميعا إلى بغداد ، فاحتفى به الجميع وعلى رأسهم الخليفة .   ولكن الفتاة المسيحية تعلقت به وأسرعت خلفه إلى بغداد وقد ساعدها في ذلك الخضر بعد أن أخبرها بضرورة اعتناقها الإسلام ، فاعتنقته . وبعد وصولها بغداد لزمت زاوية شيخها وأكثرت من العبادة حتى هزلت فمرضت وتوفاها اللّه ، فحزن الشيخ عليها حزنا أودى بحياته .   ونحن نرى بعض التقارب بين الحكايتين في ذهاب الشيخين إلى بلاد الروم ثم كون الصداق في كلا الحالتين رعاية الخنازير ، ثم توبة الشيخين وعودتهما إلى ديارهما ، ثم لحاق الفتاة في كل منهما بشيخها واعتناقهما الإسلام .   ولكن هناك أوجه للخلاف بين الحكايتين ، فالشيخ صنعان يسكن مكة أما الشيخ عبد اللّه الأندلسي فيسكن بغداد ، كذلك الاختلاف في عدد المريدين وفي عدد من صحبوا كلا من الشيخين في رحلته إلى بلاد الروم . كما نجد أن - الخليفة له ذكر في قصة الأندلسي ولا أثره له في حكاية الشيخ صنعان . واختلاف الحكايتين كذلك في سبب وفاة المعشوقة ، فالأبشيهي ذكر أن الوفاة نتيجة للعبادة المتصلة ، أما العطار فقد جعل الوفاة نتيجة لمتاعب الطريق . كما أن الأبشيهي ذكر الخضر في قصته ، ولا أثر له في قصة العطار . وعلى هذا فر بما يرى البعض تأثر العطار بمظاهر الالتقاء بينه وبين ما ذكره الأبشيهي ولكن مظاهر الاختلاف بينهما تحد من الموافقة على تأثر العطار بما ذكره الأبشيهي . ومن بين الذين ذهبوا إلى الدير كذلك مدرك بن علي الشيباني وقد كان يعيش بالعراق ، وكان يذهب إلى الدير كثيرا ، فتعلق بحب فتى مسيحي اسمه « عمرو » فتخلى عن الإسلام واعتنق المسيحية ونظم شعرا وصف فيه حاله هذه ، كما تحدث فيه عن رسوم وآداب المسيحين . ولكننا لا نجد في هذه القصة تقاربا بينها وبين قصة الشيخ صنعان إلا ذهابهما إلى الدير ، مما يجعلنا نرفض تأثر العطار بهذه القصة . وشيخ آخر هو « ابن السقا » وكان قارئا للقرآن حسن الصوت وكان يعيش في بغداد ثم ذهب إلى بلاد الروم حاملا رسالة من الخليفة ، فوقع هناك في حب فتاة الملك فطلب الاقتران بها ، فاشترطوا عليه اعتناق النصرانية فقبل . ولكن لا يوجد دليل على أن العطار تأثر بهذه القصة ونسج قصته على منوالها ، فلا وجه للشبه بينهما إلا في الذهاب إلى الروم واعتناق المسيحية من أجل المعشوقة . ولكن إذا كان العطار لم يأخذ قصته من هذه ولا من تلك ، فمن أين أخذها ؟   يقول الأستاذ مجتبي مينوي : وقد أخذ العطار هذه الحكاية من كتاب الغزالي ، فقد ورد هذا الاسم في تحفة الملوك . . . والمقصود من الشيخ صنعان عند العطار هو ، الشيخ عبد الرازق الصنعاني الذي ذكر في تحفة الملوك ، ولقد أورد الشاعر التركي كلشهري الذي ترجم منطق الطير إلى التركية حكاية الشيخ صنعان تحت عنوان « حكاية الشيخ عبد الرزاق » . وقد اتفق الأستاذ فروزانفر مع مينوى في ذلك ، فأرجع قصة الشيخ صنعان إلى ما جاء بالباب العاشر من تحفة الملوك لأبي حامد الغزالي .   ووجب علينا أن نعرض قصة الشيخ عبد الرازق الصنعاني كما ذكرها الأستاذ فروزانفر في كتابه « شرح أحوال ونقد وتحليل آثار شيخ فريد الدين محمد عطار نيشابوري » . في حكايات مثل هذه ، كان في الحرم شيخ اسمه عبد الرازق الصنعاني وكان رجلا عظيما وصاحب كرامات ، وكان شيخا لما يقرب من ثلاثمائة مريد . وذات ليلة رأى في منامه صنما يجاوره ، فهب من نومه وتمكن الضيق منه وشغل قلبه ، فذهب إلى بلاد الروم وصحبه كل مريديه ووصلوا ذات يوم إلى مكان ما ورأوا كنيسة ، فنظر الشيخ فإذا به يرى على السقف فتاة مسيحية ، فوقع في التو في عشقها . . . وسرعان ما خلع المرقع ولبس ثياب الرهبان وعقد حول وسطه الزنار . . . فقال المريدون : ما هذه الحالة ؟ فأجاب : إن ما أصابنا بسبب القلب ، ولا يمكننا مخالفة القلب ، فشرط الأعمال صدق الظاهر والباطن . . . وبعد طول نقاش بينهما عاد المريدون من الدير وتركوه إلى القضاء والقدر ، وبدأ يعمل في خدمة الخنازير . وكان له مريد بخراسان وكان رجلا عظيما فعرف هذه الحالة فأسرع صوب مكة وقال للمريدين : أين الشيخ ؟ فأخبره المريدون بما وقع للشيخ . فقال لهم : لما لم تقيموا حيث يقيم ؟ فقالوا كنا نرغب في ذلك ولكن الشيخ رفض وانتهى الحديث بينهما إلى أن أعد الشيخ والمريدون عدتهم للسفر إلى بلاد الروم . وفي ذات أمسية رأى ذلك الشيخ الرسول عليه السلام فسأله الرسول ماذا تفعل ببلاد الروم ؟ فأجابه الشيخ سائلا : وماذا أنت فاعل ببلاد الكفر ؟ فقال الرسول عليه السلام : جئت لكي أخلص شيخا عوتب من قبل . فاستيقظ الشيخ في الحال ، ورأى شيخه يلقي عن نفسه رداء الرهبان وقطع الزنار ، ثم أحضر الماء واغتسل وجدد إسلامه وأعاد ارتداء لباس الإصلاح وحينما عرفت الفتاة هذا الحال أقبلت إليه ، وطلبت منه أن يعرض عليها الإسلام فعرضه عليها وأسلمت وعادوا جميعا إلى الكعبة ".   إذا قارنا بين قصتي الغزالي والعطار نجد أن أركان القصة فيهما واحدة . ولكن نجد بعض الاختلافات اليسيرة ، فعدد المريدين في قصة الغزالي ثلاثمائة وفي منطق الطير أربعمائة . كما نجد اختلافا في قصة إسلام الفتاة المسيحية في القصتين كما أن نهاية القصة مختلفة في الكتابين فتحفة الملوك لم تشر إلى وفاة الفتاة المسيحية بعكس منطق الطير . كما أن العطار بخيال الشاعر حاول الإفاضة في المناقشة الممتعة التي حدثت بين الشيخ ومريديه بعد أن انحرف ، وكذلك في مناجاة الشيخ لمعشوقته . وعلى هذا فيمكن الموافقة على أن العطار أخذ فكرة قصته من تحفة الملوك للغزالي وأضاف إليها الكثير من خياله الشعري ، فجاءت على هذه الصورة التي وجدناها عليها في منطق الطير .   ولكن من هو الشيخ صنعان : ذكرت من قبل أن الأستاذ مينوى يرى أنه الشيخ عبد الرازق بن همام وتابعه في هذا الرأي الأستاذ فروزانفر ، فمن هو الشيخ عبد الرازق بن همام : يخبرنا ياقوت الحموي في نهاية الحديث عن مدينة صنعاء باليمن : ومن مشايخها الشيخ عبد الرازق بن همام بن نافع أبو بكر الحميري أحد الثقات المشهورين . . وكان مولده عام 129 هـ ، وأنه التقى بأحمد بن حنبل ، ولكن في آخر حياته أصيب الشيخ بالعمى فضعفت الثقة في الأحاديث التي كان يرويها ، كما اتهمه البعض بالتشيع . وربما أن إسناد هذه القصة إليه جاء نتيجة لتشيعه ، فحاول خصومه التمادي في اتهامه حتى أوصلوا هذا الاتهام إلى حد الكفر واعتناق المسيحية .   الفصل الثالث آراء العطار في منطق الطير أولا - المرشد والمريد : بدأ العطار منظومته « منطق الطير » بعقد اجتماع للطيور حيث رحب بها واحدا واحدا . ثم اجتمعت جميع طيور العالم لتبحث عن ملك لها لأنه لا يمكن أن تعيش بلا ملك. أي أنها جاءت مريدة ، ثم اعتلى الهدهد المنبر وأخذ يشرح لهم ضرورة السير والبحث عن هذا الملك وبين لهم أين يوجد ، وبعد أن شرح لهم الطريق ، أجروا القرعة ليختاروا مرشدا لهم فأصابت القرعة الهدهد ، وأصبح الهدهد مرشدهم يأتمرون بأمره وهم مريدون للحضرة العلية وقد وصف العطار حالهم قبل إجراء القرعة وبعدها فقال ( 1565 - 1590 ) :   * وعزموا عزما أكيدا على قطع الطريق بل تعجلوا السير في الطريق . * وقال الجميع : يجب أن يكون لنا رائد في طريق البحث ، يكون له علينا العقد والحل . * ويكون مرشدنا في الطريق، لأنه لا يمكن قطع الطريق اعتمادا على الغرور. * ولابد لهذا الطريق من حاكم قوي ، لعلنا نستطيع أن نجتاز ذلك البحر العميق. * وسننفذ أوامر حاكمنا بأرواحنا ، ولن نقطع الطريق إلا بحكمه وأمره . * واقترعوا وكان اقتراعا موفقا واستقر اقتراعهم على الهدهد العاشق . * فجعله الجميع مرشدهم ، فإن أمرهم بذلوا أرواحهم . * وتعهد الجميع على أن يكون هو رئيسهم ، وأن يكون مرشدهم في الطريق وهاديهم . * والحكم حكمه والأمر أمره ولن يبخل أحدهم عليه بالروح أو بالجسد .   وفي هذه الأبيات يوضح العطار بعض معتقدات الصوفية التي تتعلق بالشيخ والمريد وهي : 1 - لابد وأن يكون السالك لديه الرغبة في المسير ، وهذا واضح من عزم الطير الأكيد على قطع الطريق . 2 - لا يمكن قطع الطريق بلا مرشد أو دليل حتى يستطيع أن يهديهم في المسير ويوضح لهم ما يعترضهم من عقبات ، وذلك لأن المريد لا يستطيع قطع الطريق معتمدا على نفسه دون هداية مرشد أو شيخ ، وذلك لأن المريد جاهل بمراحل الطريق فإذا ما سار بمفرده أخطأ المسير فالطريق جد طويل ومشكل ، وما الشيخ إلا ملاذ وملجأ للمريد في المسير ، يلجأ إليه المريد ليوضح له كل ما يصعب عليه فهمه من مراحل الطريق ، كما كانت تفعل الطير مع الهدهد . والعطار يشير إلى هذه المعاني فيقول ( 1674 : 1673 ) * ولا بد للطريق من شيخ ولا تسر بمفردك ولا تسلك هذا البحر عن طريق التخبط والعمى . * ولا بد لك من شيخنا في قطع الطريق حتى يكون ملاذا لك في كل أمر . * وإذا كنت لا تعرف الطريق من البئر مطلقا ؛ فكيف يمكنك قطع الطريق بلا دليل . * وليست لك عين بصيرة كما أن الطريق ليست قصيرة ، والشيخ في طريقك هو هادي الطريق . 3 - على المريدين طاعة جميع أوامر الشيخ طاعة عمياء حتى ولو أمرهم ببذل الروح وإفناء النفس ، وأن يكون هو الحاكم بأمره وما على المريدين إلا إطاعة حكمه وأوامره ولا حق لهم في مناقشة أحكامه ، فله الأمر وعليهم الطاعة . والولاية في رأي العطار منحة إلهية لا تتم بالمجاهدة والرياضة بل يهبها اللّه سبحانه وتعالى لمن أراد ، فالعطار يشير إلى أن الشيخ يصل إلى الولاية بنظرة تصيبه من صاحب الحضرة فترفعه هذه النظرة إلى مكانة المرشد أو الشيخ ، وقد أشار إلى ذلك في المقالة السابعة عشرة حينما رد الهدهد على ذلك الطائر الذي سأله لماذا حظى بالمكانة العالية دون سائر الطير ، فرد عليه قائلا (1632 -  1633).   فقال : أيها الطائر لقد كان سليمان يديم النظر صوبي في كل آونة . ولم أحصل على ذلك بالفضة أو الذهب ، وإنما تتأتى هذه المكانة من نظرة واحدة . والدليل على أن الولاية منحة إلهية لا تستند على المجاهدة والعبادة قصة ذلك المجرم الذي قتل ، ثم رآه صوفي في نومه ينعم بالجنة فسأله سر ذلك ، فأخبره أنه حظى بهذه المكانة رغم إجرامه بنظرة وقعت عليه وهو مقتول من حبيب العجمي . ( مقالة 17 ، حكاية 2 ) ومن صفات الشيخ - في رأي العطار أيضا - أن يكون قد وصل إلى إدراك الحقيقة كما يكون قد خبر الطريق وطاف بكل وديانه ، فقد قال على لسان الهدهد ( 668 ، 680 ، 681 ) - وجئت وقد أمدتني الحضرة بالمعرفة ، وصرت صاحب أسرار بالفطرة . - ولقد قضيت السنين في البحر والبر ، وكم أصابني الاضطراب من قطع الطريق . - ولقد جبت الوادي والجبل والبيداء ، كما طفت العالم في عهد الطوفان . هذه بعض آراء العطار عن الشيخ والمريد في « منطق الطير » وسيجد القارئ بعض الآراء الجزئية الأخرى أثناء قراءته للترجمة .   ثانيا - اللّه والعالم التصوف هو الصلة التي تحدد العلاقة بين اللّه والإنسان حتى تصل به إلى حد الفناء في اللّه والبقاء بعد الفناء ، ولذا يحسن بنا أن نوضح الصلة التي تربط اللّه بالإنسان كما يراها شاعرنا العطار في منطق الطير . ولكن قبل أن نتعرض لهذه الصلة يجب أن نعرف كيف خلق.   الإنسان كما ذكر العطار في مقدمة منطق الطير فهو يقول : إن اللّه سبحانه وتعالى أحال التراب طينا مدة أربعين يوما ، وبعد ذلك أودع في الطين الروح ، وما أن سرت الروح في الجسد وأصبح الجسد بها حيا ، منحه اللّه العقل ليكون الإنسان به مبصرا . ثم يقول : وعندما هبطت الروح إلى الجسد صار الجزء كلا ، والروح تتصف بالطهارة أما الجسد فصفته الذلة والمهانة ، وسرعان ما اجتمعت الروح الطاهرة بالجسد المهين ، وما أن اتحد السمو بالخسة حتى كان آدم أعجوبة الأسرار . أي أن الإنسان كما يرى العطار - وغيره كثيرون من المتصوفة - مكون من جسد ينزع إلى الشهوات والعودة إلى أصله الخسيس ، وروح نزاعة إلى الطهر والعودة إلى أصلها الرفيع والرقي إلى واهبها ، وكذا فادم خليط من عنصري الخير والشر ، ولذا اهتم الصوفية دائما بالروح وأهملوا الجسد . ويقول العطار على لسان اللّه سبحانه وتعالى موجها الكلام إلى داود عليه السلام ( 3094 )  . - ولما لم يكن هناك عوض لي فلا تكن بدوني ، وأنا يكفيني الروح فكن روحا ، ولا تكن جسدا .   أما عن مظاهر الصلة بين اللّه والإنسان والعالم فتتمثل في رأي العطار في أكثر من مظهر وهذه أهمها : 1 - الصلة بين اللّه والعالم هي الصلة بين البحر والقطرة وما البحر إلا اللّه وما القطرة إلا العالم . - وحضرة الحق بحر خضم عظيم ، وقطرة صغيرة منه تساوي جنات النعيم . ومن يملك البحر يملك القطرة ، وكل ما عدا البحر هوس وجنون .   2 - والصلة الثانية هي صلة الظل بالشمس ، فالعالم ما هو إلا ظل اللّه سبحانه وتعالى ، وقد أكثر العطار من الحديث عن هذه الصلة في مواضع كثيرة من منطق الطير . ففي المقالة الثالثة عشرة حينما سأل طائر الهدهد أن يوضح لهم الصلة التي تربط السيمرغ بالطير ، قال الهدهد : عندما رفع السيمرغ النقاب فإن وجهه بدا كالشمس المشرقة ، وسقطت منه مئات الألوف من الظلال على التراب ، وقد نثر ظله على العالم فأصبحت تلك الطيور ، وصورة طير العالم جميعها ما هي إلا ظل للسيمرغ . ويقول العطار مخاطبا السيمرغ : إن كل ثوب يكسو المروج ما هو إلا ظل للسيمرغ ونحن نعرف السيمرغ في هذا الظل ، لأن السيمرغ لا ينفصل عن الظل ، ولا ينبغي للإنسان أن يبقى أسير الظل ويتخبط فيه ، وإنما يجب عليه أن ينظر في ظل السيمرغ وسيرى الشمس وسط الظل ، وإذا ما فتح باب للمعرفة فسترى كيف تتلاشى الظلال في الشمس ، وتشاهد كذلك أن كل شيء هو الشمس ( 1030 - 1069 ) والعطار يريد بذلك أن يقول إن للّه وجودا في خلقه كما أن للسيمرغ وجودا في ظله ، وهو يدلل على صدق ذلك بوجود الإسكندر في رسوله الذي كان متخفيا دائما وليس لأحد عين يستطيع أن يعرفه بها ( 1103 - 1109 ) .   والعطار أورد بيتا في منظومته « أسرار نامه » يجمع بين فكرة أن الكل ظل للّه ، وفكرة الأشياء آثار قوته الخالقة .   - إن وجود كل شيء هو ظل جلالتك ، وإن كل شيء آثار قوتك الخالقة . وفي صورة أخرى أوردها العطار في منطق الطير ، حيث قال : " لقد سبق للسيمرغ أن ألقت ريشة في الصين فأثارت الاضطراب هناك واتخذ كل واحد صورة من هذه الريشة ، وكل من رأى هذه الصورة بدأ يصنع مثلها ولو لم تظهر صورة هذه الريشة لما وجد في الدنيا هذا العراك وتلك الضوضاء ، وكل آثار الخلق هذه تنبثق من عظمة السيمرغ وجميع الكائنات صورة من ريشتها .     والعطار يشير إلى فكرة الظل والشمس بوضوح تام في مقدمة منطق الطير وهو يناجي ربه فيقول ( 192 ) . - ولما كنا متلازمين دائما ، فأنت كالشمس ونحن كالظل . 3 - وصلة أخرى تربط بين اللّه والعالم ، وهي الصلة التي تربط بين الكنز والطلسم : فالعطار يقول في المقدمة : ( بيت رقم 53 ) . - العرش والعالم لا يزيدان عن مجرد طلسم ، واللّه الموجود وحده ، وليس لهذه الأشياء جميعها غير الاسم . ثم يقول : وما أكثر من خبروا سطح ذلك البحر ولكن لم يدرك أحد قط ما بقاعه فالكنز في القاع وما الدنيا إلا طلسم ، وفي نهاية الطلسم سيتحطم قيد الجسد ، وستجد الكنز عندما يفنى الطلسم أولا ، وستظهر الروح عندما يفنى الجسد أولا ، وبعد ذلك فما روحك إلا طلسم آخر ، فروحك للغيب جسد آخر ، وما الغيب إلا اللّه ( 131 - 134 ) ويعلق الدكتور عزام على ذلك بقوله : " ومن العبارات الشائعة في كلامه - أي كلام العطار - : إن العالم طلسم والكنز الذي وراءه هو اللّه فقد شاع بين الناس أن كل كنز عليه طلسم إذا حل هذا الطلسم فتح الكنز . فهذا العالم في رأي العطار. نقوش إذا قرئت وفهمت اهتدى الإنسان إلى الكنز المخفى وراءها أي عرف الحقيقة التي تدل عليها هذه النقوش وليس هذا الكنز سوى اللّه . ويقرب من هذا ما رواه الصوفية في حديث قدسي : " كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني " . وقد اجتمعت هاتان العبارتان في بيت واحد هو : - أنت معنى وما عداك مجرد اسم - أنت كنز والعالمون طلسم   4 - كما يشير العطار إلى أن الصلة بين الانسان وربه شبيهة بصلة العبد بسيده ، فالعطار يناجي اللّه فيقول ( 225 - 227 ) . أنا بالنسبة لك عبد بذول للروح ولي وسم كالحبشان منك ، وإن لم أكن عبدك فكيف أكون سعيدا ؟ وقد احترق قلبي حتى أصبحت عبدا لك ، فلا تبع عبدك الموسوم ، ولتضع حلقة العبودية في أذني عبدك .   ويقول الدكتور عزام معلقا على الصلة بين اللّه والعالم - كما يراها العطار - فيقول : " ليست آراء العطار في اللّه والعالم مبتكرة في جملتها وإن كان فيها ابتكار في التفصيل والتصوير ، فقد سبقه إليها جماعة من المسلمين وفلاسفة الأفلاطونية الحديثة من قبل فالقول بأن المحسوسات ليست ذات وجود حق ، وأن العالم ظل من اللّه أو انعكاس عنه معروف في الأفلاطونية الحديثة وبين الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين . . . »   كما أن رأيه في أن الصلة بين الإنسان وربه هي صلة العبد بسيده تعد محور الدعوة الإسلامية فلا فضل للعطار فيها .   إذا كانت الصلة بين العالم واللّه هي الصلة بين الظل والشمس أو الصلة بين القطرة وبحر الوجود فسرعان ما يتلاشى الظل في الشمس وتذوب القطرة في البحر ، وإذا كانت هذه الصلة هي الصلة بين الطلسم والكنز ، فما أسرع أن يتحطم الطلسم ليظهر الكنز ، أي أن العالم على هذه الصور الثلاث عدم لا وجود له ، ولا وجود إلا للّه الأعظم وهو صاحب الوجود وحده ، وإلى هذا المعنى يشير العطار بقوله في المقدمة : والعرش مستقر على الماء والعالم سابح في الفضاء ، واعبر الماء والفضاء فالجميع هو اللّه ، والعرش والعالم لا يزيدان عن مجرد طلسم ، واللّه وحده وليس لهذه الأشياء كلها إلا الاسم ، فامعن النظر فما هذا العالم أو ذاك إلا اللّه وحده ، إذ لا وجود إلا له ، وهو الموجود وحده ( 52- 54 ) . وما دام الوجود للّه وحده وما عداه عدم فلا يمكن أن يصدر عن العدم فعل فالفاعل هو اللّه وحده . وهذا المبدأ الصوفي يتضح لنا في قصة منطق الطير ، فبعد أن قطعت الطير الأودية ووصلت إلى السيرغ أخبرت بأن ما رأته وعرفته وقالته لم يكن هو : ويقول أحد الدارسين لمنطق الطير « يحتمل أن يكون الغرض هنا لم يكن كما ظنت من قبل ، فإن عملها لم يكن عملها في الواقع وإن كل الأودية التي عبرتها وكل الشدائد التي صادفتها ليست إلا من عمل اللّه . . .     أي أن اللّه هو الفاعل وحده وما الإنسان إلا واسطة أو وسيلة لقدرة اللّه ، وأن عمله في هذه الحالة كان عملا سلبيا ويشعر الإنسان أن اللّه هو الذي قدره على أن يفعل ما فعل ، وبذلك نجد أن جميع النشاط وأن جميع الذاتية تمضي في اللّه .     وما دام اللّه هو الفاعل وحده فلا سلطان إلا له ، وما سلطان الدنيا إلا شيء زائل لا قيمة له ، وإلى هذا المعنى يشير العطار كثيرا في كتابه " منطق الطير " : ففي نهاية القصة عندما وصلت الطير إلى الحضرة وحظيت بحاجب الحضرة وسألها عن مقصودها ، أخبرته الطيور أنها جاءت ليكون السيمرغ لهم سلطانا فيرد عليها قائلا : ( 4147 - 4148 ) .   - فقال صاحب الحضرة : أيها العجزة : يا من تلوثتم بدماء القلب كالوردة . - فإن تكونوا أو لا تكونوا في الدنيا فهو السلطان المطلق الأبدي . كما أن محمودا الغزنوي يرد على ذلك الذي حادثه في دار القرار وسأله عن حاله فيها وقد أسماه سلطانا ، فقال له : ( 907 - 909 ) . "إن سلطاني خيال وغرور ، إذ كيف تكون السلطنة لحفنة من السقط ، اللّه وحده هو السلطان مالك الدنيا وهو الحقيق بهذه السلطنة ، وما أن رأيت عجزي وحيرتي حتى شعرت بالمعرة من سلطنتي . . . "   وما دام اللّه هو السلطان وحده والخلق ظل له فهو في غنى عن الخلق ، وطاعتهم لن تنفعه بشيء كما أن معصيتهم لن تضره بشيء فكل شيء لديه متوفر وخاصة العلم والأسرار وطاعة الملائكة " . فالهدهد يرد على ذلك الطائر الذي سأله عن الهدية التي يجب أن يحملها كل طائر إلى السلطان الأعظم بقوله : ( 3143 - 3144 ) . - كل ما تحمله من هنا موجود هناك ؛ فكيف يكون حمله جميلا منك ؟ - العلم والأسرار وطاعة الملائكة متوفرة هناك . وإذا كان اللّه في غنى عن الخلق وطاعتهم أو معصيتهم ، فالخلق لا غنى لهم عن اللّه سبحانه وتعالى إذ لا عوض له بين الجميع : ( 3093 - 3094 ) . - كل شيء تجد له عوضا إلا أنا ، فلن تجد لي عوضا ولا شبيها . - ولما لم يكن لي عوض ، فلا تكن بدوني ، ويكفيني منك الروح فكن روحا ولا تكن جسدا .   وإذا كان الإنسان في حاجة إلى اللّه دائما ولا يمكن أن يكون في غنى عنه مطلقا ؛ فيجب عليه أن يكون وفيا للّه جزاء كل هذه النعم التي أنعم اللّه بها عليه ( 2660 - 2663 ) . « فاسمع لكل حرف يقال عن الإنصاف والوفاء . . . وإذا كنت وفيا فاعزم على سلوك الطريق . . . وكل من يخرج عن حيز الوفاء لا يليق بباب المروءة . كما يجب على الإنسان ألا يكون جسورا جريئا مع اللّه سبحانه وتعالى : ( 2722 ) . - ولكن كيف يتجرأ العالم بالسر الحافظ له متشبها بالجسور الوقح ، فلتخجل . ولكن أحيانا يتجرأ العبد من شدة الحب . وكل من يعرف الرب في كل شيء ولا يعرف ربّ من ربّ ، فإذا ما تجرأ فمن فرط الحب ( 2728 ) . ولكن كل من يتجرأ في حضرة السلطان الأعظم عليه بطلب المعذرة : " وكل من يتجرأ في هذه الأعتاب سيطلب المعذرة وسيعود إلى رشده ، فإذا أخطأ القول ولم يقل حقا ، فإنه يعرف كيف يعتذر بلطف"( 2770 - 2771 ) .   هذه أهم سمات الصلة بين اللّه والعالم كما عبر عنها العطار في منطق الطير ولعله أوضح بعض جوانب هذه الصلة في منظوماته الأخرى ولكننا ألزمنا أنفسنا بما جاء في منطق الطير دون غيره » .   ثالثا - العشق الإلهي لقد أطال العطار الحديث في منطق الطير عن العشق . إذ أن العشق هو القوة الخفية التي تدفع السالك على المضي قدما في الطريق رغبة في لقاء المحبوب الأزلي ؛ وهو اللّه سبحانه وتعالى . وقد اعتبر العطار وغيره من الصوفية العشق أعلى مكانة من الإيمان والكفر فهو يفوقهما معا ( 1152 ) . - كل من كانت له قدم في طريق العشق راسخة ، فقد تخطى الكفر والإسلام معا. وقد ساق العطار قصة : « شيخ صنعان » ليؤكد هذا المعنى . كما اعتبر العطار العشق أسمى مكانة من العقل ، أما العقل فقاصر أمام العشق وقد أشار العطار إلى ذلك كثيرا فمن أقواله : ( 3326 ، 3327 ،30331) .   "العشق نار أما العقل فدخان ، وما أن أقبل العشق حتى ولي العقل الفرار مسرعا ، والعقل ليس متخصصا في ميدان العشق ، كما أن العشق ليس وليد العقل وإذا نظرت إلى الأمور بعين العقل فسترى العشق بلا بداية ولا نهاية " .   والعشق يسمو بالعاشق حتى يجعله يفنى في ذات المعشوق : فالشيخ محمود الطوسي ينصح أحد المريدين بقوله : ( 3937 - 3957 ) . "عليك بإفناء نفسك في العشق تماما حتى تصبح في الضعف كالشعرة دواما ، وما أن تصبح كشعرة ضعيفة ، فأليق مكان بك حيث طرة المعشوق ، وكل من يصبح شعرة في محرابه ، فإنه يكون شعرة من شعره بلا ريب " .   ولا شك أن الحب الإلهي كحب شيء لا سبيل إلى الوصول إليه ، وهذا الحب الذي يتخذ وسيلة للبحث عن اللّه أو عن سبب الوجود الذي لن يكون شخصا هو الموضوع الأصلي لقصتي « منطق الطير » و « مصيبت نامه » .   والعشق نوعان عشق دائم ، وهو عشق المعرفة ، وعشق زائل وهو عشق الصورة الذي يزول بزوال الصورة ، وعشق المعرفة هو عشق اللّه ذلك الحبيب الأبدي الدائم ، أما عشق الصورة فهو عشق الماديات الفانية البالية ، وقد تكلم العطار كثيرا عن عشق الصورة وعدم جدواه وضرورة البحث عن حبيب لا يفنى ولا يزول ، فهو يقول في المقالة الخامسة والعشرين : - إن عشق الصورة ليس هو عشق المعرفة ، إنما هو اللعب بالشهوة يا حيواني الصفة . - وإن الجمال الذي ماله النقصان ، يكون في عشقه للرجل كل خسران . - ومن يعشق عالم الغيب ، فهذا هو العشق الحق ، إذ أنه خلى من كل عيب . كما أن الهدهد يرد في المقالة الثالثة على البلبل وهو يتباهى بعشق الوردة ، فيقول له : يا من تعلقت بالصورة ، لا تتباه أكثر من ذلك بعشق الجميل . . . فعشق شيء مآله الزوال يصيب العاقلين بالضجر والملل . . . " . كما أن العاشق الحق هو الذي يعشق شيئا ثابتا لا يتلون ولا يتغير فالهدهد في المقالة السابعة يرد على الحجلة وهي تتيه غرورا بتعلقها بالجواهر ويخبرها بأن تعلقها بالجواهر لا أساس له من الصحة لأن الجوهر ما هو إلا حجر اصطبغ بالعديد من الألوان . وإذا زالت عنه الألوان عاد حجرا عديم القيمة ، ثم يدلل على صدق قوله بقصة سيدنا سليمان وفص خاتمه ، وكيف أنه فضل الحياة الآخرة على الدنيا ونعيمها إذ كان في إمكانه إخضاع العالم لسلطانه بفص خاتمه هذا . .   وما دمنا نتحدث عن الجواهر والذهب فالعطار يرى أن عشق الذهب يصيب الإنسان بالهموم والبلايا ، وهو دليل الكفر ، وفي الآخرة تمسخ صورة عابد الذهب ، وهذا ما حدث بالنسبة لرجل كان يكنز الذهب ، وما أن مات حتى رآه ابنه في نومه وقد عاد إلى البيت على هيئة فأر يبحث عن الذهب لينثره ، ولينصح ابنه لكي لا يكون عبدا للذهب : ( 994 - 1000 ) .   كما خصص العطار المقالة ( الثالثة والعشرين ) والحكايات التي تليها بذم عشق الذهب ، وأثره السئ على الصلة بين الإنسان واللّه سبحانه وتعالى . والعاشق يفضل المعشوق على كل ما عداه من نعيم وملك وأموال .   والدليل على ذلك قصة ذلك الوقاد الذي كان محمود الغزنوي ينزل عليه ضيفا . وفي آخر زيارة قال السلطان محمود للوقاد « اطلب ما تبغي ، وأنا أحققه لك في التو والحال ، ولو طلبت أن تكون ملكا ، لما توانيت في تحقيق ما تريد . ولكن الوقاد يقول : إنني أطلبك أنت ولا حاجة بي إلى هذا أو ذاك ( 2856 ) . - أنا لا أطلب ملكا ولا سلطنة ، ولكن كل ما أطلبه منك هو أنت .   كما أن إياز ( غلام محمود ) قد رفض ذلك الملك العريض الذي عرضه عليه محمود الغزنوي لأن هذا الملك سيشغله عن رؤية محمود والتمتع بمنادمته ومجالسته . ( 3057 - 3081 ) .   وهذه رابعة تناجي اللّه وتطلبه هو راغبة عن النار والجنة ( 3182 - 3189 ) . والعاشق الحق هو الذي يتخلى عن روحه طواعية من أجل محبوبه ويتضح ذلك من قصة الفقير الذي وقع في حب حاكم مصر ، ثم خيرّه حاكم مصر بين القتل وترك البلاد جزاء جرأته على حبه فاختار المسكين الرحيل ، فما كان من الحاكم إلا أن أمر بقتله لأنه غير جاد في عشقه ، لأنه لو كان جادا لما خاف الموت ولقدم روحه بلا تردد . . . ( 1924 - 1939 ) . والعشق الإلهي يشغل العاشق عن الاهتمام بأمور الغير ، والدليل على ذلك أن رابعة سئلت عن الصحابة فكان جوابها أنها مشغولة بحب اللّه عما سواه . . . ( 561 - 570 ) . وفي حديث قدسي معناه أن عادة اللّه قتل من يحبونه ويدفع ديتهم ، والدية هي اللّه نفسه . رأى ذو النون في سفر له أربعين صوفيا موتى على الأرض فقال مخاطبا اللّه : يا إلهي كم من الرجال سوف تقتل ؟ فأجاب الصوت الإلهي ، هذا ما نعرفه وحدنا ، نحن نقتل ونقدم الدية ، فيقول ذو النون : إلام تقتل ؟ فأجاب اللّه : ما دامت الدية في خزانتي ، فإنني أقتل من يحبني ، ولكن إذا ما فنى فناء تاما وتلاشى فأنا أظهر له وجهي . وأهدى إليه خلعة جمالي  وسيصبح بعد ذلك ظلا ، يمحى تحت شمس اللّه ( 2553 - 2569 ) .   والعاشق غيور في عشقه ، ومنطق الطير به أكثر من دليل على ذلك : كان الشبلي غيورا في حبه وسبب غيرته أن محبوبه الأزلي « وهو اللّه » قد خص إبليس بتوجيه الحديث إليه رغم أن هذا الحديث كان سبابا ولعنات . فكم كان الشبلي يتمنى أن توجه له هذه اللعنات ، المهم أن يحظى بمخاطبة اللّه ، سبحانه وتعالى ( 3254 - 3268 ) . ودليل آخر هو غيرة الملك من العظمة التي ركن إليها كلبه رغم ما يعيش فيه من عز ونعيم ( 2240 - 2260 ) . والغيرة في الحب تبدو كذلك في عشق السلطان لابن وزيره ، حتى.   أنه لم يكن يسمح لأبويه برؤيته ولا يسمح للفتى بمغادرة مجلسه ، وإذا قدر وابتعد الغلام عن مجلس السلطان ، فإنه يقطع رأسه من الغيرة ( 4263 - 4423 ) . ومن الخير للعاشق أن يتحمل أذى المعشوق من أن يحوز الرضا من غيره ( 3265 ) . - إذا رماك المعشوق الثمل بحجر . . فهذا أفضل من أن تنال جوهرة من الغير . وحتى لو كان المعشوق يؤذي العاشق فيجب على العاشق ألا يغمض له جفن . فآلام العشق يجب أن تؤرقه دائما . فلقد مر معشوق بعاشقه فوجده نائما فكتب له وريقة فيها بعض الكلمات منها : « لتخجل إن كنت عاشقا ، فأي شأن للنوم بعين العاشق ، وإذا نام العاشق فلا يكون ذلك إلا في الكفن . . . وإذا كنت بالعشق جاهلا ، فلتهنأ بالنوم لأنك لست للعشق أهلا . . . ( 3505 - 3508 - 3509 ) . والنوم ما هو إلا تخلي العاشق عن العشق ، والعاشق الذي يتخلى عن معشوقه طواعية يستحق البلاء والمتاعب ، والدليل على ذلك قصة التاجر الذي باع جاريته الجميلة ثم حاول أن يستردها بدفع ألف دينار زيادة على ثمنها ، ولكن دون جدوى ، فكان فريسة للهم والحزن على سوء تصرفه وتخليه عن معشوقته . ( 2228 - 2239 ) . والعاشق سرعان ما يشعر بالندم والحسرة إذا أصاب المعشوق أي ضرر ، وهذا هو حال الملك الذي وقع في حب فتى وزيره ثم أمر بقتله من الغيرة ، ولكن ما أن ثاب إلى رشده حتى تملكه الهم والحزن وظل أربعين ليلة في حيرة واضطراب لا يقر له قرار . . . ( 4263 - 4423 ) .   وجزاء من لا يحسن العشق الإلهي أن يطرده اللّه سبحانه وتعالى من عشقه فاللّه سبحانه وتعالى يطرد من عشقه من يشغل بأي أمر من الأمور عن عبادته ، والدليل على ذلك قصة العابد الذي عبد اللّه أربعمائة سنة ثم شغل فترة بتغريد طائر فوق شجرة في بستان يتوسط داره ، فكان جزاؤه أن تخلى اللّه عن عشقه . ( 2016 - 2119 ) .   هذه أهم السمات التي تحدد معالم العشق والتي تحدد الصلة بين العاشق والمعشوق ، ولكثرة ما أحاط الصوفية العشق بهالة من السمو والرفعة نجد العطار يعلى من مكانة العاشق حتى يجعل من مقدوره الإتيان ببعض الخوارق : ( 2729 ) . - إنه شبيه بالمجنون من شدة العشق ، كما أنه يسير على سطح الماء من قوة العشق . ومن آثار العشق في رأي العباسة ، أن العشق إذا وقعت ذرة منه على رجل سالك فإنها تولد منه امرأة ، وإذا سقطت ذرة عشق على امرأة سالكة فإنها تولد منها رجلا ، والدليل على ذلك أن آدم بذرة عشق أنجبت حواء ، كما أن مريم بذرة عشق أنجبت عيسى ( 3539 - 3550 ) .   ولكن ما السر في أن العطار والصوفية جميعهم قد أطالوا الحديث في العشق ؟ إن السر كامن في أن العشق يمد السالك بذخيرة تساعده على سلوك الطريق حتى ولو كان غاية في الضعف الجسماني ، فهو يمد الروح بطاقة دافعة لها على المضي في طريق المعرفة حتى تصل إلى إدراك الفناء ( 1741 ) .   - ومن كان في الضعف أكثر عجزا من النملة ، فإن العشق سيمده في كل لحظة بقوة هائلة . كما أن اهتمامهم بالعشق راجع - كما يقول الدكتور عزام - إلى أنه.   القوة الخفية التي تحت الإنسان على الطلب والعمل والإقدام ، والتي تهيب بالإنسان إلى العظائم ، وترفعه عن الدنايا وتساعده على أن يعرف نفسه ومبدأه ومنتهاه ، وخالقه ، وهلم جرا . . فهي الوجدان أو ملكة قريبة منه متصلة به . كما أن العشق هو مفتاح التصوف . . . .   ولذا كان نصيب العشق في كلام الصوفية وافرا ، وحظه من أقوال العطار عظيما .   رابعا - الطريق الصوفي غايته الإدراك و"الاتحاد" الفناء في الله الطريق الصوفي ليس طريقا بالمعنى المفهوم ، لدى عامة الناس ، بل هو طريقة للمجاهدة ووسيلة لضبط النفس ، ولكنه يشبه الطريق الأرضي في كونه يتكون من مراحل تختلف بين السهولة والوعورة ، وهو شبيه بطريق بين جبلين تكثر به النتوءات والصعوبات لا يسلكه المسافر إلا بشق الأنفس ، وليس في مقدور كل مسافر أن يسلكه فالبعض يخشى مخاوف الطريق فيكفّ عن السفر ، والبعض يقطع بعض أوديته ولكن سرعان ما يهلك في الطريق . والقلة هم الذين يستطيعون الخوض في هذا الطريق والوصول إلى غايته . وغاية الطريق الصوفي هي إدراك اللّه سبحانه وتعالى ، ولكن ما وسيلتهم إلى هذا الإدراك ، هل يدركونه بالعقل ؟ هيهات هيهات للعقل أن يقوى على إدراك اللّه سبحانه وتعالى ، فالعقل عاجز عن إدراك سر المخلوقات فكيف به يجرؤ على معرفة سر الخالق ؟ ولقد أفاض العطار في بيان عجز العقل عن إدراك الحقائق الكونية ، وعن إدراك اللّه سبحانه وتعالى ، بل جعله قاصرا أمام العشق الإلهي ، ومن أقوال العطار في قصور العقل هذه الأقوال : يناجي العطار اللّه سبحانه وتعالى في مقدمة « منطق الطير » فيقول : - وليس للعقل والروح طريق للطواف حولك ، ولا يمكن لشخص قط إدراك كنه صفتك . . ( 62 ) . - وإذا قدر للعقل أن يدرك أثرا من آثار وجودك . فلن يستطيع أن يسلك الطريق إلى إدراك كنهك . ( 65 ) . كما يوضح العطار أن الطريق إلى اللّه نابع منه لا من العقل : - اعرف نفسك باللّه ولكن لن تعرفه بنفسك ، فالطريق إليه نابع منه لا من العقل ( 91 ) . بل إن العطار يدعو السالك لكي يحرق العقل لأنه يقف عقبة في طريق السالك : - أي عمل هذا الذي تفعله ؟ كالرجال تقدم ، واحرق العقل وكالمجنون تقدم ( 4085 ) . ويجعل العطار العقل عاجزا أمام إدراك سر الفناء ، فهو يقول في وصف وادي الفقر والفناء ( مقالة 44 ) ( 3934 - 3936 ) . - ولكن إذا ما مضى رجل طاهر في البحر ، فإنه يفنى فناء حقيقيا ولن يبقى له أثر . - وتصبح حركته هي حركة البحر ، وما أن يفنى حتى يصل إلى مجال الحسن . - ويصبح غير موجود وهو موجود، وعندما يتم هذا ، فإن هذا خارج عن نطاق تصور العقل. وليت العطار اعتبر العقل قاصرا . أمام ادراك اللّه وحده ، بل إنه تعدى ذلك وجعله قاصرا أمام العشق الإلهي : - العشق نار هناك أما العقل فدخان ، وما أن يقبل العشق حتى يولي العقل الفرار مسرعا . - والعقل ليس متخصصا في ميدان العشق ، وليس العشق وليد العقل . ولكن لماذا لا يثق العطار بالعقل هكذا ؟ إن هذا ناتج من اعتقاده بأن العقل قرين الشيطان : - لقد تسلطت نفسك على روحك ، كما سيطر الشيطان على عقلك ( 2878 ) .   فإذا كان العطار يلغي أثر العقل هكذا في إدراك كنه اللّه ، فما وسيلة السالك إذا لهذا الإدراك ؟ إنه العشق ، فالعشق هو الذي يمد العاشق بذخيرة تساعده على سلوك الطريق .  ومن كان في الضعف أكثر عجزا من النملة فإن العشق يمده كل لحظة بقوة هائلة. (1741). والفرق بين العقل والعشق أن الأول مخالط للطبيعة ، والثاني من الذات الإلهية فهو مدرك لها دائما . وعلى هذا فلا بد للعاشق من ذخيرة للسالك حتى يستطيع مواصلة السير في الطريق الصوفي . ولقد قلت من قبل إن الطريق ما هو إلا مجاهدة النفس البشرية حتى تتخلص من كل العلائق وتتطهر وتسلك الطريق لا تفكر في شيء سوى الغاية التي تسعى إليها . وهذا الطريق يختلف بين حال ومقام . وقد أكثر الصوفية من التكلم عن المقامات والأحوال وتكفي هذه الإشارة الموجزة لتوضيح الفرق بين الحال والمقام .   يقول أبو نصر السراج : . . المقام معناه مقام العبد بين يدي اللّه عز وجل ، فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى اللّه عز وجل . ويقول أيضا في تعريف الحال : ..أما معنى الأحوال فهو ما يحل بالقلوب أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار. وقد حكي عن الجنيد رحمه اللّه أنه قال : الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم . وليست الحال من طريق المجاهدات والعبادات والرياضات كالمقامات . . . . ويختلف الصوفية فيما بينهم في عدد المقامات والأحوال كما يختلفون في أسمائها ويمتد اختلافهم إلى ترتيبها ، وسأذكر المقامات والأحوال كما ذكرها اثنان من كبار الصوفية لنرى مدى الاختلاف ، وبعد ذلك أتكلم عن تقسيم العطار لطريقه ، وهو يختلف تماما عن تقسيم هذين العالمين وأعني بهما السراج الطوسي ، والكلابادي صاحب التعرف .   المقامات عند السراج الطوسي : التوبة - الورع - الزهد - الفقر - الصبر - الرضا - التوكل . أما الأحوال عنده فهي : المراقبة - القرب - المحبة - الخوف - الرجاء - الشوق - الأنس - الطمأنينة - المشاهدة - اليقين .   أما المقامات والأحوال عند صاحب التعرف فقد ذكرها دون أن يفرق بين ما هو مقام منها وما هو حال ، واكتفى بقوله « نريد أن نخبر الآن ببعض المقامات . . . » وهذه هي المقامات في رأيه : التوبة - الزهد - الصبر - الفقر - التواضع - الخوف - التقوى - الإخلاص - الشكر - التوكل - الرضا - اليقين - الذكر - الأنس - القرب - الاتصال - المحبة . وهكذا نجد اختلافا في العدد وفي الترتيب بل وفي الأسماء . ولا غرابة في هذا الاختلاف فالطريق إلى اللّه بعدد أنفس الخلائق ، ورغم ذلك فالاختلاف ليس كبيرا . أما إذا نظرنا إلى تقسيم العطار للطريق في منطق الطير فسنجد أن الاختلاف بينه وبينهما عظيم فهو يقسم الطريق إلى سبعة أودية فقط وهي : وادي الطلب - وادي العشق - وادي المعرفة - وادي الاستغناء - وادي التوحيد - وادي الحيرة - وادي الفقر والفناء .   وهذا هو وصف العطار للطريق بمراحله السبع بإيجاز . أولا : وادي الطلب : واد مليء بالتعب ، ولا بد فيه من الجد والجهد عدة سنوات ، كما يجب التخلي فيه عن المال والملك وعن الكل ، كما يجب التطهر من كل العلائق ، وعلى السالك ألا يأبه في هذا الوادي بمخاوف الطريق ، على أن يتساوى لديه الكفر والإيمان ، كما يجب ألا يكف لحظة عن الطلب ، فإن تواني لحظة عن الطلب فهو مرتد ، وعليه أن يقدم روحه نثارا في هذا الوادي ، كما يجب أن يتحلى بالصبر حتى لا ييأس في أول مراحل الطريق . . .   ثانيا : وادي العشق : كل من سار فيه فهو في نار وحرقة ، لا يعرف الكفر من الإيمان ، كما يتساوى أمامه الخير والشر ، والعقل غير جدير بهذا الوادي فهو عاجز عن إدراك أسرار العشق . والعشق يوجب على السالك أن يقوم بأي عمل مهما صعب من أجل المعشوق ، والسالك في ذلك الوادي يجب أن يتخلى عن كل ما يملك ، فالعشق والإفلاس قرينان ، والعاشق يقدم روحه طواعية تلبية لأمر المعشوق ، ولكن يكره أن - تكون هناك واسطة بينه وبين معشوقه ، كما حدث في قصة سيدنا إبراهيم مع عزرائيل حينما حان موعد وفاته ( 3443 : 3455 ) .   ثالثا : وادي المعرفة : في هذا الوادي يختلف سالك الروح عن سالك الجسد ، وتتفاوت المعرفة بين السالكين كل حسب مقدرته ، فبعضهم يدرك المحراب والبعض يدرك الصنم ، وكلما واصل السالك المسير كلما زادت معرفته بالأسرار ، ولا بد للسالك من أن يتصف بالكمال حتى يستطيع مواصلة السير ، كما يجب على السالك ألا يقنع بما يحصله من معرفة بل عليه أن يقول دائما « هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ؟ » حتى يصل إلى ذي العرش المجيد ، وهذا الوادي طريق طويل لا تبدو له بداية ولا نهاية ، وعلى السالك أن يبعد النوم عن عينيه وأن يكون في سهاد وأرق دائمين . . .   رابعا : وادي الاستغناء : وفيه يجب على السالك أن يتخلىّ عن كل شيء في الدنيا ، فكل ما فيها تافه لا قيمة له ، فما هذه البحار الشاسعة إلا بركة صغيرة ، وما الأفلاك والأنجم إلا كورقة شجرة ، كما يجب على السالك ألا يطمع في شيء مطلقا ؟ فما العالمان إلا كذرة رمل تافهة . وإذا ما أضاء برق الاستغناء فإن لهيبه يحرق مائة عالم في لحظة واحدة ، وعلى السالك أن يتخلى عن روحه في هذا الوادي ، وأن يقطع كل صلة له بقلبه لأن من يسلك هذا الوادي بالروح والقلب يكون أكثر شركا من المشركين أنفسهم .   خامسا : وادي التوحيد : وهو منزل التجريد والتفريد ، وفيه يرى السالك الكثرة قلة حتى يصل الكل إلى أن يكون واحدا ، ولا أهمية للأزل ولا للأبد في هذا الوادي ، ومن لم يفن من السالكين في الوحدة والاتحاد فهو غير جدير بالإنسانية ، وعندما يصل السالك إلى مجال التوحيد ، فإنه لا يشعر بالمكان ولا بنفسه ، ويصبح الجزء كلا ، بل ويتلاشى الكل والجزء وتتلاشى فيه الأعضاء والروح ويصبح العقل عديم القيمة في هذا الوادي ، وفي هذا الوادي تختلط الصورة بالصفة . وما أن يصل السالك إلى حد التوحيد والتفريد ، فإنه يصل إلى حد الاضطراب وعدم القدرة على أن يفرق بين نفسه وبين ربه لأن هذا الوادي فيه تتلاشى الثنائية ولا بقاء إلا للوحدانية .   سادسا : وادي الحيرة وفيه يصاب السالك بالألم والحسرة وينخرط في عمل متواصل ويكون عرضة للأحزان دواما ، وتنهال عليه المصائب في كل لحظة فتكثر آهاته ، وكل ما حصلت روحه من التوحيد يضيع منه في هذا الوادي دفعة واحدة ، ولا يعرف السالك أهو موجود أم غير موجود !  أهو ظاهر أم خفي ! فالسالك في هذا الوادي لا يعرف كنهه ، ويكون قلبه مفعما بالعشق ولكن لا يعرف من المعشوق ، ويكون حائرا بين الكفر والإسلام ، وقد ساق العطار قصة الشيخ « نصر آباد » دليلا على ذلك ، إذ حج أربعين مرة ثم ترك ذلك كله وطاف حول معبد النار من شدة اضطرابه وحيرته دون أن يشعر بما يفعل ( 3899 : 3912 ).   سابعا : وادي الفقر والفناء : أهم ما يميز هذا الوادي هو النسيان ، ولا سبيل أمام القلب في هذا البحر الخضم إلا الفناء ، ونهاية المطاف في هذا الوادي تختلف من سالك إلى آخر كل حسب طهره وعزيمته ، فمرتكبو الخطايا يسيرون إلى القاع أذلاء ولكن من تتطهر نفوسهم يفنون فناء حقيقيا وتصبح حركة كل واحد منهم هي حركة البحر . وهكذا يتم الاتحاد وما الاتحاد إلا فناء السالك عن ذاته وفنائه في اللّه ، وإذا ما مضى السالك عن الجميع فهذا هو الفناء ، وإذا ما فنى عن الفناء فهذا هو البقاء بعد الفناء وهذا بدوره يؤدي بنا إلى الحديث عن الفناء في منطق الطير.   خامسا - الفناء وصوره في منطق الطير الفناء الصوفي هو الحال التي تتوارى فيها آثار الإرادة والشخصية والشعور بالذات وكل ما سوى الحق . فيصبح الصوفي وهو لا يرى في الوجود غير الحق ولا يشعر بشيء في الوجود سوى الحق وفعله وإرادته .   ولا تشير كلمة « الفناء » إلى ناحية واحدة من التجربة الصوفية هي الناحية السلبية ، ولكن لها ناحية إيجابية هي التي عبر عنها الصوفية بكلمة « البقاء » لأن الفناء عن شيء يقتضي البقاء بشيء آخر . فالفناء عن المعاصي يقتضي البقاء بالطاعات ، والفناء عن الصفات البشرية يقتضي البقاء بصفات الألوهية ، والفناء عما سوى اللّه يقتضي البقاء باللّه وهكذا .     وليس المقصود بالفناء ذلك المعنى الشائع ، وهو الفناء بالموت بل المقصود أن يفنى الصوفي عن الأخلاق الذميمة ويبقى بالأخلاق الحميدة ، ويفنى عن صفاته من علم وقدرة وإرادة ويبقى بصفات اللّه الذي له وحده العلم والقدرة والإرادة ، وأخيرا يفنى عن نفسه وعن العالم حوله ويبقى باللّه ، بمعنى أنه لا يشهد في الوجود إلا اللّه .   وبهذا ينبغي أن يفسر ما يقول الصوفية في الفناء : إنه ليس بموت لأن الذي يعدونه فانيا يعيش على هذه الأرض ، وليس هو حلول اللّه في.   الإنسان كما في بعض النحل وإلى هذا يشير صاحب الرسالة القشيرية : " . . وإذا قيل فنى عن نفسه وعن الخلق فنفسه موجودة والخلق موجودون ، ولكن لا علم له بهم ولا به ولا إحساس ولا خبر ، فتكون نفسه موجودة والخلق موجودين ، ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق أجمعين غير محس بنفسه ولا بالخلق » . وكلمة الفناء تدور حول ( الأنا ) ، لذا فمن واجب الصوفي ألا يشعر بذاتيته ، لأن شعوره بالأنا أو بالذاتية فيه شعور بالإثنينية والشعور بالإثنينية شرك ، ولذا فالنتيجة المطلوبة من الفناء هي رفع الإثنينية .   ويسوق العطار قصة عن معشوق الطوسي وفيها لا يشعر بأنيته : زار شاب معشوق الطوسي وهو مريض وبدأ في قراءة الفاتحة حتى شعر المريض بأنفاسه فقال الطوسي : إذا كنت تقرأ الفاتحة فلتصب اللّه بأنفاسك. إن هذه الأنفاس لا تليق بهذا المسكين ، فينبغي أن ينال هو كل شيء لا أنا . وهذا الفناء في اللّه أو الاتحاد مع اللّه يتخذ مظهرا ينقسم إلى عدة صور ولا يبدو عند كل صوفي كما يبدو عند الآخر ولا يكون له نفس الصورة في كل الحالات ، وإن تعبيرات الصوفية تصف هذا في ألوان متباينة .   وإذا ما تعرضنا لأقوال العطار عن الفناء وصوره في منطق الطير لوجدنا أنه يعبر عن الفناء بأكثر من صورة : 1 - فناء السالك في اللّه كفناء القطرة في البحر ، وقد وضح العطار هذه الصورة في نهاية الحديث عن وادي الفقر والفناء فهو يقول : إذا هاج وماج البحر الكلي ، فهل تبقى نقوش على صفحة البحر ؟ إن كلا العالمين نقش ذلك البحر . . وكل من أصابه الفناء في بحر الكل فهو دائما فان بال ؛ والقلب في هذا البحر الغاص بالفناء لا يجد شيئا إلا الفناء . . . وإذا فنى نجس في بحر الكل ، صار إلى القاع ذليلا بصفاته ، ولكن إذا مضى فيه رجل طاهر فسيفنى فناء حقيقيا ولن يبقى له أثر ، فتصبح حركته هي حركة البحر . . . » .   2 - يشبه العطار فناء السالك في اللّه بفناء الظل في الشمس : فالعطار يقول في نهاية القصة وذلك بعد أن وصلت الطير إلى السيمرغ ، وتم اللقاء بينها وبين السيمرغ ثم تم لها الفناء . - لقد انمحوا فيه في النهاية على الدوام ، كما يفنى الظل في الشمس والسلام . كما يشرح العطار هذه الفكرة في كتاب آخر له ، هو « مختار نامه » فيقول : " إن النبي يقول للسالك : إذا أردت أن تخرج عن نفسك ، وأن تفنى ؛ فلا بد وأن تصبح لا شيء في ذات اللّه ، كن ظلا يضيع في الشمس ، كن لا شيء واللّه عالم بكل شيء " .   ويتحدث كذلك عن هذه العلاقة في إجابة اللّه سبحانه وتعالى على سؤال لذي النون يسأله فيه عمن يقتلهم اللّه ، فكان جواب اللّه إني أقتلهم ، وإذا ما فنى السالك تماما فأنا أسيّر له شمس وجهي ، وألبسه ثوبا من جمالي ، وأجعله ظلا في طريقي ، وأجعل شمس نفسي تشرق ، وإذا ما أشرقت شمس وجهي ، فكيف يستطيع الظل أن يبقى في طريقي ؟ وإذا تلاشى الظل في الشمس فإنه يصبح لا شيء واللّه يعلم كل شيء . (2553 -2569).   3 - الصورة الثالثة من صور الفناء هي صورة التحول إلى نور ، وهذه الصورة واضحة في حكاية الفراشات الثلاث ومحاولة إدراكها لنور الشمعة فطارت فراشة وما أن رأت الشمعة وسط ردهات القصر حتى أسرعت بالعودة وأخذت تصف الشمعة ، ولكن ناقدهم سفه رأيها ، فطارت أخرى وطافت حول الشمعة ثم عادت وقصت على الجمع ما رأت ، ولكن ناقدهم لم يقنع بكلامها وسفّه رأيها كذلك ، فطارت فراشة ثالثة وألقت بنفسها في نار الشمعة فاحترقت كلها في النار وأفنت نفسها كلية وهي غاية في السرور ، وما أن شملتها النار عن آخرها حتى احمرت أعضاؤها كلون النار ، لذا ما أن رآها ناقدهم حتى قال لقد أصابت هذه . أي أن الفراشة الثالثة هي التي أدركت الفناء الحقيقي وذلك لخروجها عن طبيعة تكوينها وتحولها إلى نور ، وهكذا كان التحول إلى نور صورة من صور الفناء.   4 - الملاحظ أن الصور الثلاث السابقة يتخذ فيها الفناء صورة التلاشي التام ، ولكن في الصورة الرابعة يبدو الفناء على أنه ظهور وجود خاص في مادة عامة للكون ، وهذا الفناء يبدو في صورة تحول المحب إلى شعرة لامكان لها إلا في ذؤابة الحبيب ، وتبدو هذه الصورة في حديث الشيخ محمود الطوسي لأحد مريديه إذ يقول له : "امض إلى الفناء دائما ، حتى تفنى نفسك في العشق تماما ، وعندما تصبح كالشعرة في الضعف . . . فأليق مكان بك طرة المعشوق ، وكل من يصبح كالشعرة في محرابه فإنه يكون شعرة من شعره بلا شك . . " ( 3937 - 3940 ) . والملاحظ أن العطار يشرح فكرة فناء المحب في محبوبه ، وارتقائه إليه حتى يصبح هو ذاته ؛ بقصص دنيوية ، والمثال الكلاسيكي المألوف دائما هو المجنون وليلاه ، ولكن العطار أضاف إلى هذين العاشقين القديمين عاشقين أحدث عهدا هما « محمود » و « إياز » وإن كان يذكر المجنون في بعض حكاياته .   يقول العطار : " وإذا ما تلاشى أحد من بين الجمع فهذا هو الفناء ، وإذا ما فنى عن الفناء فهذا هو البقاء " ( 3942 ) .   ويقول أيضا : " اغمض عينك ثم افتحها وتلاش ثم تلاش ثم تلاش في تلك الحال الثانية ، ثم امض قدما ، فقد تأتّى لك أن تصل إلى عالم التلاشي " .   والملاحظ أن العطار يصف الوصول إلى الفناء ، غير أنه لا يوضح طريق البقاء . فنحن نلاحظ في نهاية القصة أن الطيور بعد أن أصابها الفناء أدركت البقاء دون أن يوضح لنا العطار كيف أدركته ، لأن توضيح ذلك خارج عن نطاق الشرح والتفسير ، فقد قال : عندما انقضت أكثر من مائة ألف من القرون ، وكانت قرونا بلا زمان إذ لا بداية ولا نهاية ، أسلمت الطير أنفسها إلى الفناء الكلي بكل سرور ، وما أن غاب الجميع عن رشدهم حتى ثابوا إلى رشدهم ، وتقدموا إلى البقاء بعد الفناء ، ولكن ليس لأحد قط سواء من المحدثين أو القدماء أن يتحدث عن ذلك الفناء وذلك البقاء . . . إذ أن شرح ذلك بعيد عن الوصف والخبر ، ولكن في طريق مثل طريق أصحابنا ، أيمكن شرح البقاء بعد الفناء ؟ وأنىّ يمكن إتمام ذلك . . . (4241 - 4247) . ويربط العطار بين الفناء والذلة وبين البقاء والسمو والشرف ، فهو يقول « وان لم يصبك النقصان في الفناء ، فلن ترى السلامة مطلقا في البقاء ، وفي الطريق تلقى إليك الذلة في البداية ثم ترتقي فجأة بالعزة ، فصر إلى العدم حتى تدرك الحياة في أثر ذلك ، فما دمت موجودا فكيف تصل الحياة إليك ، وإن لم تمح في الذلة والفناء فكيف يصلك من العز إثبات البقاء " ( 4259 - 4262 ) .   وقد قص العطار قصة طويلة تؤيد هذه الفكرة وهي تدور حول ذلك الملك الذي يأمر وزيره بقتل ولده الحبيب ، غير أن حصافة الوزير تقنع الملك بوخامة عاقبة تلك النوبة من الغضب التي تسيطر عليه .   ويقول ريتر ( Ritter ) إننا لا نعرف من هذه القصة شيئا عن حالة البقاء الصوفي وما يميزه ، والقصة تصف في براعة حالة الشقاء الظاهري للنفس ، والفناء الخلقي لدى إنسان كان يحب شيئا يكمن فيه جمال الحياة والشباب ، وقد حطمه غير أن الحظ أعاده اليه .   ويكمل ريتر تعليقه على هذه القصة ( من البيت رقم 4263 إلى رقم 4423 - طبعة باريس ) – فيقول : « إذا شئنا استنادا إلى هذه القصة أن نشرح فكرة الفناء والبقاء فإن ذلك لا يكون بالمعنى العادي.   الاصطلاحي لهاتين الكلمتين ، فإن الفناء هنا بواسطة الشعور بالذنب مما يعقد الموازنة بينها وبين حال الطير التي تملكها الخجل حينما وجدت أن سجل ذنوبها موجود في بلاط السيمرغ ، وإن هذه الحال عرفت عند الشاعر بالفناء . . . أما البقاء فهو حال سعيدة لم يستطع الشاعر أن يصفها ولم يشأ أيضا أن يقوم بوصفها ، وإنما أراد العطار أن يثير في قارئه حب الاستطلاع بقصة معبرة رائعة . . .   ونحن لا نخطىء إذا ما سلمنا بأن الشاعر لم يقصد بالسفر إلى اللّه والبقاء بعد الفناء أن يقول شيئا ملموسا متميزا ، كما أن الصوفية لا يعرفون إلا القليل الذي يذكرونه عن هذا البقاء ، وإن الروعة الحقيقية لتتركز في الفناء » .   أي أن ريتر يرى أن الغاية التي يسعى إليها الصوفي والهدف الأسمى الذي يتطلع إليه هو الفناء في اللّه ، وما هذا السفر إلا وسيلة لإدراك هذا الهدف ، وما هذا البقاء بعد الفناء إلا بقاء بصفات اللّه بعد الفناء عن صفاته ، وهو بقاء بالأخلاق الحميدة بعد الفناء عن الصفات الذميمة ، وما أن يدرك السالك هذا الهدف الأسمى وهو الفناء ، فسرعان ما ينعم اللّه عليه بالبقاء .   بعد أن تعرضنا لشرح معنى الفناء عند العطار وبعد أن عرجنا كذلك على فكرة البقاء بعد الفناء ، نجد سؤالا يدور في الذهن يبحث عن إجابة ، هذا السؤال هو : هل يجيز الفناء في اللّه عند العطار أن يكون الصوفي إلها ؟   إن الطيور في نهاية المطاف قد أدركت أنها هي السيمرغ وأن السيمرغ هو هي : هل يريد العطار بذلك أن الطير أصبحت اللّه ؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب ، فهل معنى ذلك أن العطار يتفق في ذلك مع الحلاج في قوله « أنا اللّه » أو مع بايزيد وهو يقول « سبحاني ما أعظم شأني » ؟   قبل الإجابة عن هذه الأسئلة جميعا يجدر بنا أن نعرّف وحدة الوجود ووحدة الشهود تعريفا موجزا للغاية دون التعرض للتفريعات العديدة : يرى ابن العربي أن الوجود حقيقة واحدة ذات وجهين الوجه الأول الباطن وهو الحق ، والثاني الظاهر وهو الخلق ، وهو يرى أن التعدد والكثرة أمر قضى به العقل القاصر والحواس الظاهرة القاصرة ، ولا فرق عند ابن عربي بين الواحد والكثير أو الحق والخلق إلا بالاعتبار والنظر العقلي القاصر ، فالعين واحدة كما يقول : جمع وفرق فإن العين واحدة  ....  وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر     ويعلق المستشرق الإنجليزي نيكلسون على هذا القول بقوله : ويعرف أهل هذه الفرقة بأصحاب وحدة الوجود " ويقول ريتر Ritter : " . . . وعند صوفي وحدة الوجود يكون اللّه هو الصوفي نفسه . . . » . وواضح أن الاعتراف بوحدة الوجود في صورتها المجردة قضاء تام على كل معالم الدين المنزل ومحو لهذه المعالم محوا كاملا ، ولهذا نجد أوائل المؤلفين في التصوف يرددون الإنذار والتحذير من الوقوع في وحدة الوجود ، ويكررون بأن اللّه تعالى مخالف للحوادث مخالفة تامة ، وأن أي اتصال به يوصف بأنه اتحاد بذاته ، كفر وضلال .   أما وحدة الشهود فمعناها الفناء عن شهود التكثر والتعدد لا نفي هذا التكثر والتعدد في ذاته ذلك الذي يؤكده مذهب وحدة الوجود ، فالمؤمن بوحدة الشهود لا يشهد في الوجود إلا الله ، أما المؤمن بوحدة الوجود فهو يسقط التكثر والتعدد في الوجود العيني ، ولا شك أن هناك فارقا بين الغيبة عن شيء ( التكثر ) وبين نفي هذا الشيء . وهذا هو الفارق بين مذهب وحدة الوجود ووحدة الشهود . ووحدة الشهود حال أو تجربة يعانيها الصوفي لا عقيدة ولا علم ولا دعوى فلسفية يحاول برهنتها أو يطالب الغير بتصديقها .   بعد هذه المقدمة الموجزة لبيان الفرق بين وحدة الوجود ووحدة الشهود يمكننا أن نجيب عن الأسئلة التي أثيرت من قبل : نحن نعرف أن الطيور بعد أن حظيت بحضرة السيمرغ وبعد أن أضاءت بجوارهم شمس القرب .  وجدت الطيور أنهم في مقابل ثلاثين طائرا ، أي أنهم في مقابل أنفسهم وقد أجاد العطار في ذلك الموقف استعمال الجناس بين كلمتي « سي مرغ » بمعنى « ثلاثين طائرا » و « سيمرغ » إله الطير ، فقد رأت الطير أنفسها السيمرغ بالتمام ، كما رأت أن السيمرغ هو أنفسها بالتمام فلم تعد ترى فارقا بينها وبين السيمرغ . . . فما كان منها إلا أن طلبت من السيمرغ شرح هذا الحال ،.   فأجاب السيمرغ بأن الحضرة مرآة ساطعة كالشمس فكل من يقبل صوبها يرى نفسه فيها . . . " ( 4193 - 4232 ) . أي أن العطار بناء على هذه الأقوال - من الداعين إلى وحدة الشهود ، فصورة الفناء كما عرضها في آخر القصة هو فناء عن شهود التكثر والتعدد .   ولكننا نجد العطار يقول بعد ذلك : ( 4230 ) . "وقد فنت الطير في النهاية على الدوام كما يفنى الظل في الشمس والسلام » أي أنه بناء على هذا القول - وأقوال أخرى يشبه فيها الاتحاد باتحاد القطرة مع البحر - من المؤمنين بوحدة الوجود ، فما سبب هذا التضارب ؟   يقول المستشرق الألماني ريتر Ritter : من الأفكار المنسوبة خطأ إلى العطار القول بوحدة الوجود ، ولكن الحقيقة أن العطار يبتعد عن تأليه الصوفي ويبتعد كذلك عن الحلول والاتحاد ، وهو يضيف إلى هاتين الكلمتين كلمة أخرى وهي في رأيه « وحدة الاستغراق في اللّه » . وريتر يستند في رأيه هذا على قول العطار على لسان الهدهد وهو يرد على الطير وهي تسأله عن الصلة التي تربطها بالسيمرغ في المقالة الثالثة عشرة : " . . . وصور طير العالم جميعها ما هي إلا ظلها ؛ فاعلم هذا أيها الجاهل ، فإذا عرفت أولا فستصل اتصالا وثيقا بتلك الحضرة ، فإذا عرفت فتبين الحقيقة وكن حذرا ، وإذا عرفت فلا تكن مفشيا سرا ، وكل من صار هكذا فإنه يكون مستغرقا ، فحاش اللّه أن تقول أنا الحق ، وإذا لم تصر مثلما قلت فأنت لست اللّه ، ولكنك مستغرق في الحق دائما ، وكيف يكون المستغرق حلوليا ، وكيف يكون هذا الكلام من شأن الفضولي ؟ . . . "  ( 1056 - 1061 ) . أي أن ريتر يعتبر العطار مؤمنا بمبدأ « وحدة الاستغراق في اللّه » وليس حلوليا ولا من القائلين بعبارة « أنا اللّه » كما قالها الحلاج .   يقول الدكتور أبو العلا عفيفي :  « لم تظهر فكرة وحدة الوجود في صورة نظرية كاملة منسقة قبل محيي الدين بن عربي المتوفي عام 638 هـ . . . ولم يكن ابن العربي أول من أرسى دعائم مذهب كامل في وحدة الوجود وحسب ، بل ظل حتى اليوم الممثل الأكبر لهذا المذهب ، ولم يأت بعده ممن تكلموا في وحدة الوجود نثرا أو شعرا إلا كان متأثرا به أو ناقلا عنه أو مرددا لمعانيه بعبارات جديدة . . . » . ونحن نعرف أن العطار كان معاصرا لمحيى الدين بن العربي ، ولكن لم أجد فيما قرأت من كتب إشارة إلى أن العطار اتصل بابن العربي أو تأثر به في مذهبه " وحدة الوجود " .   وعلى هذا فإنني أستطيع أن أقول بلا تردد أن العطار من أنصار وحدة الشهود ، ولكنه كشاعر لا يعرف لنفسه ضابطا فسرعان ما نجده يورد عبارات كثيرة لا تتفق مع مبدئه ، فهو مشتت الفكر متشعبه ، وليس مفكرا دقيقا في تفكيره ، وليس منظما واضحا ، فهو في بعض الحالات التي يسيطر فيها الوجد عليه وتغلب عليه ملكة الشعر يسترسل في الإنشاد دون قصد ، فيطلق عبارات يفهم منها الاعتقاد بوحدة الوجود ، أما قول ريتر من أن العطار ينادي « بوحدة الاستغراق في اللّه » فهذا - في رأيي - مبدأ وسط بين وحدة الوجود ووحدة الشهود أراد به ريتر أن يخرج من ذلك التضارب البادي في كلام العطار ولكن كل ما يهمني من كلام العطار هو ما جاء بطبيعة الحال في منطق الطير ، ونهاية القصة دليل واضح على أن العطار من أنصار وحدة الشهود وأن الأقوال التي قالها ويشتم منها الاعتقاد بوحدة الوجود قد جاءت عن غير قصد نتيجة لحالة الوجد الشديدة التي كانت تسيطر عليه ، ونتيجة لأنه شاعر ثرثار أحيانا لا يعرف كيف يجعل لكلامه حدودا يقف عندها . وإذا كان العطار مؤمنا بوحدة الشهود وليس من أنصار وحدة الوجود فهو ليس حلوليا ولا من أنصار دعوتي « أنا اللّه » للحلاج أو «سبحاني ما أعظم شأني» لبا يزيد ، ويكفي لإثبات صحة هذا القول ذكر هذين البيتين (1159،1061) . - وكل من أصبح مستغرقا هكذا ، حاش للّه أن يقول " أنا الحق " . - فمتى كان الرجل المستغرق حلوليا ؟ ومتى كان هذا القول من شأن الفضولي ؟ وهكذا نرى أن العطار لا يجعل التصوف وسيلة يترقى بها السالك ليكون إلها ، بل يجعله طريقا للاتصال باللّه والفناء عن الصفات الذميمة للبقاء معه بالصفات الحسنة .   سادسا - العطار والملامتية يقول المستشرق الإيطالي انتونيو بيزاني في كتابه القيم "قصة الأدب الفارسي" . " إن عنصرا ملامتيا يبدو متخللا كل الشعر الغنائي التقليدي الفارسي وكأنه مدح للكفر وللبدعة وللخمر فهو يذكر دائما مع مدح هذه الأشياء ، وان الأمثلة القديمة لهذا العنصر تجدها في الشعر الغنائي خاصة التي ترمز إلى المسيحية . . . وإن هذا العنصر يتحول ويتغير بنفسه إلى صورة صوفية وأروع مثال لها هو قصة الشيخ صنعان ، وقد قص قصته فريد الدين العطار في منطق الطير . . ".   حقا إن العطار قد تحدث عن الكفر والإيمان وعن الخمر في هذه القصة ، بل جعل الشيخ صنعان يفضل جانب الكفر على الإيمان في بداية الأمر من أجل محبوبته وهذا كفر واضح في نظر العامة ، ولكن في نظر الخاصة لا يعتبرونه هكذا ، فهم يرفعون من مكانة العشق حتى يجعلوه يفوق الكفر والإيمان ، وهذا ما قاله العطار في قصته ، ولكن كل ما يهمني الآن من هذه النبذة هو : هل كان العطار ملاميتا أم لا ، مع علمنا بأن الملامتية أول ما نشأت نشأت في نيسابور  بلد العطار ؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعرّف الملامتية أولا : يقول الدكتور أبو العلا عفيفي : " ما المراد بالملامة التي ينتسب إليها الملامتية ؟ أهي لوم الملامتي نفسه ؟ أم لوم الناس إياه ؟ أم لوم الملامتي الدنيا وأهلها ؟ أما لوم الدنيا فليس من نظام اللامتي في شيء لأن في تعاليمهم الصريحة النهي عن ذم الدنيا ، أما المعنيان الآخران فيدخلان في جوهر الفكرة الملامتية ، وإليهما تشير كثير من تعريفاتهم . . . » .   وبعد هذا التعريف الموجز نسأل : هل تتفق آراء العطار وهذه المبادئ الخاصة بالملامتية ؟ إن العطار يتفق معها في بعض الأفكار ويختلف معها في البعض ، فهو يتفق معها شأنه في ذلك شأن الصوفية جميعا - في ذم النفس البشرية وإثبات عجزها دائما ، ولكنه لا يتفق معهم في شأن ذم الناس للصوفي فهو يرفع من مكانته ، كما أنه يختلف معهم في موقفهم من الدنيا ، فهو كثيرا ما يذمها ويكيل لها السباب ويشبهها أحيانا بموقد حمام أو بيت العنكبوت ، ويصفها بأنها دار فناء وبلاء وطمع ، كما أنها دار شدة ومحنة .   وبجانب ذلك نجد أن مبادئ العطار تخالف في كثير منها مبادئ الملامتية فمن أصول الملامتية ترك الكلام في دقائق العلوم والإشارات، وقلة الخوض فيها...   ولكننا نجد العطار يتحدث بالرمز كثيرا ويشير إلى إشارات الصوفية ، كما أنه يتحدث في دقائق العلوم الإلهية ، فهو يتحدث عن الفناء والبقاء بعد الفناء وهما من الإشارات التي يصعب على أغلب العامة فهمها . كما أن غاية الطريق لدى الملامتية - كما يذكر السهروردي - الإخلاص في الأعمال وتحريرها من كل معنى من معاني الرياء ، وهذا يقتضي مراقبة دقيقة للنفس وعدم الفناء فيها . ونحن نعرف من سرد قصة منطق الطير أن الغاية التي يريد العطار الوصول إليها هي الفناء التام ورؤية الخلق بعين الزوال . هذه بعض الأفكار التي تحدد بوضوح أن العطار ليس ملامتيا ، وليست هذه كل الحجج والأسانيد بطبيعة الحال . بعد ذلك يجدر بنا أن نوضح موقف العطار من النفس البشرية ومن الدنيا .   ( أ ) العطار والنفس البشرية : العطار يذم النفس دائما ويشبهها في بعض الأحايين بالكلب الذي لا يطيع أمرا مطلقا ، فالنفس بمثابة العدو الأول له ، وبمثابة اللص الذي يسرق منه أسرار الطريق ؛ فهو يقول : « إن نفسي لي عدو ، فكيف أقطع الطريق إذا كان رفيقي لصا ، فالنفس كالكلب لم تطع لي أمرا مطلقا ، ولا أعلم كيف أحرر الروح من ربقتها. ( 1940 - 1941 )   وإذا كانت نفس العطار عدوه الأول فلا سبيل إلى الكمال إلا بإفناء النفس : وإن تفن نفسك ذات يوم فستصبح في إشراقة حتى ولو كانت الليالي كلها حالكة . كما يشبه العطار النفس البشرية في جبروتها بفرعون ، ويربط بينها وبين الشيطان في ارتكاب الآثام والمعاصي : "وما دامت لك نفس وشيطان ، ففي داخلك فرعون وهامان » ( 2951 ) . كما أنه يشبهها كذلك بالثعبان والعقرب فيقول : « فطهر نفسك من الصفات الدنية ، ولتصر بعد ذلك إلى العدم وأنّى لك أن تعلم ما بجسدك من أدران وأوساخ فالثعبان والعقرب خفيان تحت حجبك ، وقد ناما وأخفيا نفسيهما " ( 3702 - 3704 ) .   وإذا كانت النفس البشرية يصورها العطار هذا التصوير البشع ويصفها بأنها كالكلب أحيانا وكالثعبان والعقرب أحيانا أخرى ، كما يقرنها بالشيطان ويصفها بأنها كفرعون في ظلمه وجبروته ، إذا كان العطار يصورها هكذا ، فلابد وأنه سيحاول التخلص من ربقتها والتخلي عن سلطانها وهو يدعو اللّه أن يخلصه منها ، لأن السالك إن لم يتخلص منها فلا خلاص له من الهموم والبلايا .   وهكذا نجد العطار يذم النفس البشرية ويصفها بصفات الخسة والدناءة ، شأنه في ذلك شأن الزهاد والصوفية ، فهو لا يعد في هذا المضمار مبرزا بل إنه تأثر في ذلك بالقرآن الكريم وأقوال الفقهاء والشيوخ الذين سبقوه .   ب - العطار وذم الدنيا : - الدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء ، ولذا يسعى الصوفية دواما إلى الفناء حتى يحظوا بالبقاء بعد الفناء ، أي أنهم يسعون إلى التخلص من الدنيا وآثامها وشرورها حتى ينعم اللّه عليهم بالمكانة العظيمة في الآخرة فيحظون بالبقاء الأبدي بعد أن أفنوا أنفسهم وقطعوا كل صلة لهم بالدنيا الغرور .   والعطار كعامة الصوفية - دون الملامتية - يذم الدنيا وينفر منها ، ويدعو إلى التخلص منها في كثير من أبياته في منطق الطير ، وهو يشبهها في مواضع كثيرة بموقد مشتعل إذ لا يستقر فيها إنسان في هدوء وسكينة ،   فالعطار يقول على لسان الهدهد : يا من أقل همة من المخنث ، إنك كلب فوق موقد نار فماذا تصنع ؟ وما الدنيا الدون إلا هذا الموقد ، وما قصرك إلا حفنة من تراب هذا الموقد . . . " ( 2126 - 2127 ).   كما أن العطار يصفها كذلك بأنها شبيهة ببيت العنكبوت وما الساكن فيها إلا كذبابة تتردى في هذا البيت حتى يصيبها الفناء والبلاء بعد أن يمتص العنكبوت دمها : - إن الدنيا ومن يرتزق فيها أشبه بذبابة داخل بيت العنكبوت ( 2158 ) .   كما يحذر العطار السالكين من الدنيا ويعتبرها نارا محرقة يجب التحرز منها : - وما نارك إلا الدنيا فابتعد عنها ، وافعل كما فعل الأبطال ، وكن حذرا من هذه النار . ( 2179 )   وإذا كانت الدنيا على هذه الصورة في نظر العطار فلا يمكن أن تكون محببة إلى قلبه بلى على العكس من ذلك نجده يدعو إلى التخلي عنها ، ويعتبر أن الخطوة الأولى في الطريق يجب أن تقترن بالتخلي عن الدنيا : « فإن تتخل عن الدنيا في كل لحظة ، فستكون لك الخطوة الأولى عندما تمعن النظر " ( 3601 ) .   وهكذا نجد العطار في منطق الطير قد ذم النفس البشرية ووصفها بأنها كالكلب شأنه في ذلك شأن جميع الصوفية وشأن الملامتية أيضا ،.   ثم نجده يذم الدنيا وينفر منها وهو يتفق في ذلك مع الصوفية ، ولكنه يخالف الملامتية في هذا الصدد ، فهم يأمرون مريديهم بألا يتعرضوا للدنيا بالذم ، فقد روي عن أبي حفص أنه رأى أحد أصحابه وهو يذم الدنيا وأهلها ، فقال : أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه ، لا تجالسنا بعد هذه ولا تصاحبنا . بعد هذا نستطيع أن نحكم بلا تردد بأن العطار كان صوفيا مؤمنا بالفناء ، ولم يكن على الإطلاق ملامتيا ، كما لم يؤثر عنه أنه كان من أنصار فرقة صوفية من الفرق التي سادت عصره ، فلم نجد بين المراجع الموثوق في صحة أخبارها أية إشارة إلى فرقة العطار ولذا سنكتفي بأن نقول أنه كان صوفيا بعيدا عن التعصب والتحزب ، فما أكثر ما ذم التعصب والمتعصبين في مقدمة منطق الطير ، وفي كتبه ومنظوماته الأخرى .   سابعا : رأي العطار في الشيطان لا شك أن العطار يتفق مع الروح الإسلامية في موقفها من الشيطان في النفور منه ، وأنه يلقى بمن يتبعون أوامره ووسوسته إلى التهلكة وأطلق عليه كما ذكر في القرآن لقب « الملعون » فقد قص قصة إبائه السجود كما أمره اللّه في مقدمة منطق الطير إذ قال ( 121 : 124 ) .   ومن أبى السجود - لآدم - فقد مسخ ولم يدرك هذا السر ، وما أن اسود وجهه حتى قال : يا غني لا تتركني ضائعا وأصلح من أمري ! فقال. الحق تعالى : أيها الملعون في الطريق إن آدم ما هو إلا خليفة وسلطان ، فكن اليوم عينا لوجهه ، وفي الغد أحرق له البخور " . كما أشار العطار إلى أن إبليس قد أصيب بالعديد - من البلايا لأنه حاول التفاخر على آدم وقال : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ »     والعطار يشير إلى ذلك بقوله : ولا تقل: « أنا »، فكلمة أنا تجلب العديد من البلايا حتى لا تبتلي بشرور إبليس. ( 1912 ). ولكن كل ما يهمني من حديث العطار عن الشيطان هو تلك الأفكار التي حاول فيها شاعرنا إعلاء شأن الشيطان ومحاولة تبريره لعدم سجوده كما أمره اللّه سبحانه وتعالى.   فنحن نجد العطار قد رفع من مكانة إبليس وجعله في مرتبة المعلم فقد قص العطار قصة سيدنا موسى وهو يطلب سرا من اللّه فما كان من اللّه إلا أن أحاله إلى إبليس ليتعلم منه هذا السر ، فبحث سيدنا موسى عن إبليس كثيرا وسأله عن هذا السر فما كان من إبليس إلا أن قال له : " تذكر دائما هذه العبارة : ( لا تقل أنا ) حتى لا تصبح على شاكلتي " ( 2915 ) .   والأمر الثاني الذي يلفت النظر أن بعض الصوفية كالشبلي مثلا يحترقون غيرة من إبليس لأن اللّه سبحانه وتعالى قد خصه بالكثير من اللعنات وأنه جادله كثيرا ، وكم يتمنى الواحد منهم أن يكلمه اللّه سبحانه وتعالى ولو باللعنات : "وروحي التي أغلقت عينها عن كلام العالمين قد احترقت غيرة من إبليس في هذا الزمان ، فما أكثر ما وقع عليه خطاب اللعنات ، وإن هذه الزيادة لتصيبني بالحسرات . ( 2259 - 3260 ) .   والموقف الثالث الذي يستحق النظر بدهشة هو تبرير العطار لرفض الشيطان السجود لآدم كما أمره اللّه سبحانه وتعالى ، ويعلل العطار ذلك بأن اللّه قد أمر الملائكة بالسجود حتى لا يروا ذلك السر الذي يخفيه عنهم ويريد أن يعطيه لآدم عليه السلام فرفض إبليس السجود حتى يدرك هذا السر وهو سر الروح الحية –   كما يقول ريتر - وفعلا استطاع إبليس برفضه السجود أن يدرك هذا السر ، فاستحق غضب اللّه ، وأراد اللّه أن يرديه قتيلا ، ولكن إبليس طلب منه أن يمهله إلى يوم القيامة ، فيمهل اللّه الشيطان بناء على طلبه ، إلا أنه يلعنه .   وفي هذا يقول العطار : ( 3237 ، 3239 ، 3244 ، 3247 ) . ولما لم يضع إبليس رأسه على الأرض رأى السر الذي كان خفيا ، وقال له الحق تعالى : يا جاسوس الطريق لقد سلبت هذه المكانة بالسر ، وبما أنك رأيت ذلك الكنز الذي أخفيته فسأقتلك حتى لا تفشي سره في الدنيا . . . فقال يا ربي : لتمهل هذا العبد والتمس الحيلة لمن سقط في الأمر ،  فقال الحق تعالى : لقد أعطيتك مهلة ولكنني طوقت رقبتك بطوق اللعنة ، وسأطلق عليك اسم الكذاب حتى تظل مجرما آثما إلى يوم القيامة ، وبعد ذلك قال إبليس : إذا ظهر أمامي الكنز الطاهر فأي خوف لي من اللعنة . . . .   ويلاحظ أن العطار خوفا من اعتراض البعض عليه لهذا السبب الغريب ، قد نسب هذا القول إلى عمر بن عثمان المكي أستاذ الحلاج والمتوفي عام 296 هـ ، وقد ورد في تذكرة الأولياء ( ص 246 ) أن له كتابا اسمه كنج نامه ، كما أشار إليه العطار في هذه الحكاية . ولكن هذا الكتاب لا وجود له الآن وذكر العطار لهذا التبرير دليل على إيمانه به ، ولذا فقد ذكرته على أنه من معتقدات العطار الخاصة . وبعد فليست هذه الآراء كل آراء العطار بل إنها بعض معتقداته وآرائه في منطق الطير وحده دون باقي منظوماته العديدة   ثامنا مكانة العطار :- بعد أن انتهينا من دراسة شخصية العطار ودراسة كتابه منطق الطير ، يجب أن نعرف مكانة ذلك الشاعر بين شعراء قومه . يجمع المؤرخون على أن عمد التصوف الفارسي ثلاثة : سنائي والعطار وجلال الدين الروحي . فعلام استحق العطار هذا التكريم ، وهذه المنزلة الرفيعة ؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعرف آراء أصحاب التراجم قديما وحديثا في شعر العطار وشخصه . يقول جامي : إن ذلك القدر من أسرار التوحيد وحقائق الأذواق والمواجيد التي بالمثنويات والغزليات الخاصة بالعطار لم ترد في كلام أي واحد من الطائفة فجزاه اللّه سبحانه وتعالى عن الطالبين المشتاقين خير جزاء   .   أما دولتشاه في تذكرة الشعراء فيقول : إنه - أي العطار - يعد من كبار المتصوفة ويعد شمعة عصره ولا شبيه له في علمه ، وكان يستلهم شعره من الغيب . . . " وذكر جامي ودولتشاه أن مولانا جلال الدين الرومي التقي في صغره بالعطار ، ولذا لا نجد غرابة في تكريم الرومي له دواما ، فقد قال الرومي ما ترجمته : - لقد طاف العطار بمدن العشق السبع ، وما زلنا نحن في منعطف جادة واحدة العطار روح وسنائي عيناه ، ونحن خلفنا سنائي والعطار ولم يكتف جلال الدين بذلك بل إنه اعتبر كل ما وصل إليه من تفوق في مضمار التصوف مدين به للعطار ، حتى إن أخطاءه ، استمدها أيضا من العطار . . حتى الأخطاء التي تفوهت بها يا عزيزي ، نتيجة ما سمعته عن العطار أيضا .   وإذا عرفنا أن جلال الدين الرومي هو مؤسس الطريقة المولوية ؛ فلابد وأنه غرس حب العطار في قلوب أصحابه ، ولذا نرى شعراء المولوية - كما يقول جولبنارلي مترجم منطق الطير للتركية - يحيطون اسم العطار بهالات من الحرمة والقدسية ، فالشاعر « محمد أفندي » - وهو من شعراء القرن الثالث عشر الميلادي - يقول في إحدى غزلياته :    - إن مصباح طبعي يشتعل عن قاسم الأنوار ، ويتنسم أنفه عطر الفناء من العطار . وحاول بعض المؤلفين منذ زمن بعيد عقد مقارنة بين العطار والرومي ، فقد ذكر مؤلف « هفت إقليم » أن صوفيا كبيرا سئل عنهما ، فقال : إن الرومي بلغ قمة الكمال كالنسر في طرفة عين ، والثاني بلغ القمة نفسها ولكن كالنملة بعد سير طويل ودأب لا يفتر .   ويقول بيزي المؤلف الإيطالي معلقا على هذه المقارنة : إن هذا الحكم صحيح وفي موضعه ، فلا وجود لشاعر صوفي في السابقين ولا اللاحقين وصل إلى ما وصل إليه الرومي فتجاوز غيره بمراحل كالعطار ، ومع أن العطار كان شيخا للرومي ، فإن العطار يصف سفر النفس خلال الحياة كضرورة لازمة ولا سيما في منطق الطير ، ويجعل هذا السفر سفرا مرهقا متعبا ، غير أن الرومي لثقافته الرفيعة يبدو أكثر رقة وإنسانية » . وعلى الرغم من اتفاق المؤرخين على تفوق الرومي على العطار ، فإن الرومي قد اقتبس من العطار كثيرا من أفكاره ، ففي المثنوي خمس وثلاثون حكاية هناك احتمال قوي بأنها مأخوذة من منظومات العطار . كما أن الرومي أورد في كتابه « فيه ما فيه » حديثا مفصلا في سر الحديث « يا ليت رب محمد لم يخلق محمدا » وهذا بعينه وحرفه مقتبس من مصيبت نامه للعطار . . .   ولم يقف تعظيم العطار على الرومي ومن تبعوه بل شاركهم في ذلك الشعراء والصوفية والباحثون حتى عصرنا الحاضر .   يقول كاتبي النيسابوري : - إنني كالعطار من روضة نيسابور ، ولكنني شوك في صحراء نيسابور وهو وردها . أما الحاج ميرزا عبد المجيد ملك الكلام مجدي كردستاني المتوفي عام 1305 هـ فقد كتب بخط يده بيتين من الشعر على نسخة من ديوان العطار هذه ترجمتها :   - إن العطار كاشف أسرار الوجود ، وإنه كسنائي من فيض الإله - فأقرا كلامه دائما كما تقرأ القرآن ، فإنه يحيل أهل الشكوك أهل شهود . هذه آراء مواطنيه ، ولكن هل اقتصر تكريمه وتعظيمه على مواطنيه وحدهم ؟ بالطبع لا فقد شاركهم في ذلك كل من أرخوا للعطار في العالم كله . وهذه آراء نخبة من غير الإيرانيين . قال بيزي في كتابه : قصة الشعر الفارسي الجزء الأول . "والعطار وإن عدم العبقرية الشعرية اللامعة التي يتميز بها النبغاء من الشعراء ، فإنه لا يعدم بحال من الأحوال الشعور النبيل والشعور الإنساني ، وهو يقود الإنسان بعنف إلى الكمال في أبعد مدى ويريد أن يصل به إلا ما لا سبيل إلى الوصول إليه . غير أنه مع ذلك لا ينسى من يتألمون في الأرض ، كما أنه يجدّ في البحث ، ويجد عزاء وسلوى في عبارة لينة معسولة يوجهها إلى كل البائسين من العظماء والأذلاء " . ربما بنى بيزي رأيه في محاولة العطار قيادة الإنسان بعنف إلى الكمال على ما وجده في منطق الطير من وصف للطريق وما به من صعوبات كثيرة ومقدار ما تحمله الطير خلال الرحلة الشاقة .   وبجانب هذه الآراء توجد كثرة أخرى من المؤلفين في كل بلاد العالم تعلي من شأن العطار وتعظمه وتكبر منزلته الأدبية والصوفية ، والعطار لم يحظ بهذه المرتبة العالية إلا بتفوقه الحقيقي على غيره ولم يشاركه هذا التفوق إلا جلال الدين الرومي فقط . ولكن إذا كانت هذه آراء الغير في العطار ، فما رأيه هو في نفسه ؟   رأي العطار في نفسه : على الرغم من أن الصوفية لا يتكلمون عن أنفسهم ، إلا أن طبيعة الشاعر لدى العطار غلبت على طبيعة الصوفي في هذا الأمر ، ولذا كثيرا ما نجد العطار يتكلم عن نفسه ، ويوضح مكانته ، وعلو شأنه ويكفي لإثبات صحة ذلك ذكر ما جاء في خاتمة « منطق الطير » ومنها هذه الأبيات : - وأهل الصورة غرقى بحار كلامي ، وأهل المعنى رجال أسراري . - ونظمي يتسم بخاصية عجيبة ، فهو يولد معنى جديدا في كل آونة . - وإذا تيسر لك أن تقرأه كثيرا ، فسيزداد بلا شك حسنا في كل مرة لديك .   - وحتى يوم القيامة لن يكتب شخص قط كلاما مثلي أنا الولهان . - ومن بحر الحقيقة نثرت الدر ، كما ختم الكلام عليّ ، وهذا هو البرهان . وأخيرا لا يسعنا إلا أن نقف إجلالا لذلك الشاعر العظيم والصوفي الكبير الذي ما زال الناس ينغنون بجمال شعره ، وبعظم أفكاره ، وبرغم. مرور سبعة قرون ونصف قرن على وفاته فلم تنجب إيران ما يفوقه في هذا المضمار إلا شاعرا واحدا فقط هو جلال الدين الرومي ، الذي كان يعترف للعطار بالسبق والفضل .   تمهيد قبل البدء في سرد منظومة منطق الطير : تعد منظومة منطق الطير أشهر منظومات العطار ، وشهرتها هذه جعلت الكثيرين يخطونها بأيديهم قبل عصر الطباعة ، وأدى هذا الاهتمام إلى كثرة مخطوطاتها كثرة لا تكاد تحظى بها إلا قلة من كتب الأدب الفارسي . .   وفي العصر الحديث طبعت هذه المنظومة طبعات كثيرة سواء في إيران أو خارجها وقد أتيحت لي أثناء ترجمة المنظومة ، الفرصة للاطلاع على ثلاث طبعات ، هي : 1 - طبعة باريس بإشراف جارسان دي تأسي عام 1857 م . 2 - طبعة إصفهان بإشراف ميرزا محمد حسينخان عام 1319 ه . 3 - طبعة إصفهان بإشراف ميرزا محمد حسينخان كذلك عام 1334 هجرية قمرية . والملاحظ أن الطبعة الأولى في إصفهان كانت على الحجر أما الطبعتان الأخريان فبالطباعة الحديثة . وقد فضلت نسخة باريس لتكون الأساس في ترجمتي لعدة أسباب : 1 - ذكر جارسان دي تأسي في مقدمة ترجمته الفرنسية لمنطق الطير المخطوطات التي أعانته في طبع المنظومة ، أما حسين خان فلم يشر إلى المخطوطات التي يحتمل أنه رجع إليها ، مما يجعلنا نظن أنه اعتمد على مخطوطة واحدة قام بطبعها دون تحقيق ، مما يجعل طبعة باريس أكثر دقة .   2 - قام جارسان بتصحيح أخطاء طبعته في مقدمة الترجمة الفرنسية المنشورة عام 1862 م ، أما حسين خان فلم يشر إلى أي أخطاء مطبعية لا في طبعته الأولى ولا في الثانية . 3 - رقّم جارسان أبيات نسخته ، مما يجعلها سهلة التناول ، وكذلك سهولة الرجوع إلى أبياتها في حالة البحث والدراسة . 4 - أجمع الباحثون على أن طبعة جارسان أفضل الطبعات ، وكان هذا باعتراف الإيرانيين أنفسهم كذلك . وليس معنى هذا أنني لم أفد من نسختي إصفهان ، بل صححت بعض أبيات نسخة باريس طبقا لما جاء بنسختي إصفهان حتى يستقيم المعنى . .   وفي أثناء مراجعتي الأخيرة للترجمة وردت من إيران طبعة جديدة لمنطق الطير ، أشرف عليها الدكتور محمد جواد مشكور ، وتم طبعها بطهران عام 1347 هـ ، فأفدت منها في تصحيح بعض المعاني التي وردت مختلطة في الطبعات الثلاث السابقة ، كما أفادتني أيضا في التعليقات التي كتبت في آخرها ، سواء أكانت تعليقات الناشر ، أو تعليقات الأستاذ حسن قاضي طباطبائي والتي أوردها الناشر في نهاية طبعته . وكما حظيت منظومة منطق الطير بالعديد من المخطوطات والكثير من الطبعات ، فقد حظيت بترجمات عديدة إلى كثرة من اللغات منها : الهندية والتركية والفرنسية والإنجليزية ، وربما إلى لغات أخرى لا علم لي بها .   وقد أفدت في ترجمتي العربية من الترجمة الفرنسية لجارسان 1862 م ، والترجمة التركية لجولبنارلي عام 1962 م . واللّه أسأل أن أكون بجهدي المتواضع قد وفقت في تقديم العطار لقراء اللغة العربية من خلال منظومته منطق الطير ، كما أرجو اللّه أن يوفقني ويوفق غيري من المهتمين بالأدب الفارسي لترجمة جميع منظومات العطار للمكتبة العربية . واللّه ولي التوفيق . . . خطبة العطار والمدخل لمنظومة منطق الطير بسم الله الرحمن الرحيم حمداً لله الطهور خالق الروح واهب حفنة التراب الإيمان والروح ، هو الذي شيد عرشه فوق سطح الماء ونثر أعمار الخلق في مهب الرياح وهو من رفع السماء إلى أعلى عليين وأنزل الأرض إلى أسفل سافلين ، وأعطى إحداهما الحركة الدائبة وجعل الثانية على الدوام هادئة وهو من رفع السماء كالخيمة ولكن بلا عمد ثم أحاطها بالأرض وفي ستة أيام خلق سبعة أنجم كما خلق تسع سموات بحرفي الأمر كن وخلق النجوم وكأنها خرز من الحق الذهبي ليكون في مقدور الفلك اللعب بها في كل ليلة وجعل لقفص الجسد أحوالاً مختلفة كما خلق لطائر الروح أجنحة وريشاً من طين وأذاب البحر تسليماً له بالأمر كما دك صرح الجبل رهبة منه وأحال البحر صادي الشفة ظمأ وصير الحجر ياقوتاً والدم مسكاً ومنح الجبل قمة وسفحاً فرفع الرأس له معظماً كما خلق الورد ناري اللون أحياناً وجعل منه قنطرة تعلو سطح الماء أحياناً .   وأمر بعوضة حقيرة بأن تقف على رأس عدو الله فاستقرت على رأسه طوال أربعمائة عام ، وبحكمته وهب العنكبوت شباكاً فكانت فيها سلامة الرسول ، وعقد للنملة وسطاً دقيقاً كالشعرة ثم كان لها حوار مع سليمان وخلع عليها خلعة الخلافة السوداء كما وهبها سورة طس بلا عناء ، وعندما رأى إبرة مع عيسى اعترض طريق صعوده .   وأنبت اللعل القاني على قمم الجبال كما نفث الدخان على بستان النيلوفر وبالدم صبغ ذرات التراب حتى أمكن استخراج العقيق واللعل منه ، وأحنت الشمس والقمر جبهتيهما على تراب الطريق ليل نهار وذلك في سجود له ، فأصبحت لهما هذه السيما من السجود وأنى يكون لهذه السيما وجود من غير سجود ؟  ومن بسطه بدا النهار ناصع البياض ومن قبضه أفعم الليل في السواد . ومنح الببغاء طوقاً ذهبياً كما جعل الهدهد للطريق هادياً ، وفي طريقه يحلق طائر الفلك ، ثم يعقد رأسه كالحلقة على بابه ، وأدار الفلك في دورة تتقلب بين ليل ونهار فما أن ينطوي الليل حتى ينتشر الضياء ويقبل النهار ، وعندما ينفخ في الطين يكون خلق آدم ، وهكذا كان خلق الجميع من فقاقيع وبخار ، وأحياناً يكشف الطريق لكلب فيصبح مرشداً وأحياناً يجعل القط للطريق كاشفاً فإذا ما صادق إنسان كلباً أصبح عظيم الرجال ينسب إلى كلب ، وأحياناً يهب السليمانية للجن كما يهب النملة القدرة على الكلام ، وأحياناً يخلق من العصا ثعباناً ويخلق من التنور طوفاناً ، وحينما يحيل الفلك حصاناً نافراً يجعل النار تتطاير من سنابكه وأخرج إلى الوجود ناقة من الصخر كما منح الثور الذهبي المقدرة على الخوار .   وفي الشتاء ينثر الفضة ، أما في الخريف فينثر الذهب من الخمائل ، وإن يخف أحد النصل الملطخ بالدم فسرعان ما يظهر النصل ملطخاً بدم البراعم ، ويمنح الياسمين خوزات أربع ، كما يهب اللعل قلنسوة قانية كالدم ، وأحياناً يعقد على مفرق النرجس تاجاً ذهبياً ، وأحياناً يحيل قطرات الندى دراً يعلو هذا التاج الذهبي .   وأمامه فقد العقل توازنه كما فقد سلطانه على الروح ، وحارت السماء في دورتها كما استسلمت الأرض عجزاً في رقدتها ، وجميع الكائنات سواء من قطن قاع البحر أو من حلق في أوج السماء ، ذرات شاهدة على ذاته وانبساط الأرض وارتفاع السماء بحسبهما شاهدين على عظمته ، وقد خلق الريح والنار والتراب والماء ولكن سره خارج عنها جمعاء ، وأحال التراب طيناً طوال أربعين يوماً وبعد ذلك أودع فيه الروح ، فما أن سرت الروح في الجسد ودبت فيه الحياة حتى أنعم عليه بالعقل ليكون به بصيراً حيث منح العقل قوة الإبصار كالعين ثم وهبه العلم ليحصل المعرفة وما أن صار عارفاً حتى أقر بالعجز وغرق في بحار الحيرة وأسلم الجسد للهم فلتكن عدواً إن شئت أو محباً فالجميع تحت إمرته ،  أما حكمته فقد عمت الجميع ولا عجب في ذلك فهو المهيمن على الجميع ، وفي البداية خلق الجبال كركائز ثم أمر الأرض أن تطفو بعد ذلك فوق سطح البحر ، وما أن استقرت الأرض على ظهر ثور حتى وقف الثور على ظهر سمكة واستقرت السمكة في الفضاء ، وعلى أي شيء استقر الفضاء ؟  لم يستقر على شيء مطلقاً فلا شيء إلا العدم وما كل هذه الأشياء إلا عدم مطلق فأمعن التفكير في صنع الله إذ كيف يحفظ هذه الأشياء مستندة إلى العدم وإذا كانت كلها في عالم الوحدانية عدماً فهذه كلها عدم ولا ريب ، والعرش مستقر على الماء والعالم سابح في الفضاء فتجاوز الماء والفضاء فالجميع هو الله والعرش والعالم لا يزيدان عن مجرد طلسم والوجود لله وحده وليس لهذه الأشياء جميعها إلا الاسم ،  ولتمعن النظر فما هذا العالم أو ذاك إلا الله وحده ولا وجود إلا له وإن كان هناك موجود فهو الموجود وحده ..   واأسفاه فقد عدم الجميع الضياء حيث عميت الأبصار مع أن الدنيا غاصة بنور الشمس وإذا منحت قوة الإبصار فستفقد عقلك وسترى الجميع ولكن ستفقد نفسك ، ويا للعجب سيسارع الجميع بالهرب ويسوقون الأعذار قائلين : ما هذا الشيء العجب ! .. فيا من لا وجود لسواك في طلعتك أنت العالم أجمع ولا وجود لأحد غيرك ، الروح خفية في الجسد أما أنت ففي الروح اختفيت ، فيا خفياً فيما هو خفي ، ويا روح الروح ، ويا من أعظم من الجميع ومقدم على الكل ، إنها جميعاً ترى من خلالك كما ترى أنت من خلال الجميع ، محرابك غاص بالحراس والجند ،  فكيف يتمكن إنسان قط أن يسلك الطريق صوبك وليس للعقل والروح طريق للطواف حولك كما لن يستطيع شخص قط أن يدرك كنه صفاتك ، وإن كان هناك كنز خفي في الروح فهو أنت وما وضح في صورة الجسم والروح هو أنت أيضاً ،  وما أصابت جميع الأرواح شيئاً من ذاتك وقد نثر الأنبياء أرواحهم على تراب طريقك وإذا قدر للعقل أن يدرك أثراً من آثار وجودك فلن يستطيع مواصلة الطريق لإدراك كنهك ، ولما كنت الخالد الأوحد في الوجود فالفناء نصيب الجميع على الدوام .   فيا خفياً في الروح وأنت خارجها ، إن كل ما أقوله ليس أنت وهو أنت أيضاً ، ويا من وقف العقل مشدوهاً أمام أعتابك لقد أفقدته الاتزان في المسير صوبك ، بك أرى العالم عياناً بالتمام ولكن لا أرى أي علامة منك في هذا العالم ، لقد استمد كل شخص منك علامة ولكنني يا عالم الأسرار لم أجد لنفسي منك أي علامة ،  ومهما أمعن الفلك النظر بعيونه العديدة فما رأى ذرة تراب واحدة في طريقك وما رأت الأرض قط ذرة من ترابك مهما بعثرت من تراب على رأسها لهفة عليك ، أما الشمس فطار عقلها شوقاً إليك كما أخذت تمسح التراب بأذنيها كل ليلة شوقاً إليك والبدر يتناقص من جراء محبتك حتى أسلم الروح مرة كل شهر نثاراً في طريقك ، أما البحر فقد سعى مشتاقاً إليك ، فعاد صادي الشفة بعد أن كان بالماء زاخراً ،  ووقفت مئات العقبات في طريق الجبل حيث غاصت أقدامه في الوحل حتى الوسط ، واضطرمت النار شوقاً إليك وزاد لهيبها وحرقتها وكأنها فرس جامح ، وأقبلت الريح فاقدة اتزانها بسببك ، كما أقبل التراب معلقاً على أكف الرياح ونضب ماء النهر بعد أن فاض شوقاً إليك ، ووقف التراب على باب محلتك وذل الغبار يجلل مفرقه .. وما أكثر قولي ما دمت لا تخضع لصفة ، وماذا أصنع ما دمت لا أستطيع المعرفة ؟.. إذا كنت أيها القلب طالباً فكن للطريق سالكاً ، وتذود بالحذر ولتمعن النظر أمامك وخلفك ، وراقب من وصلوا إلى الأعتاب العلية من السالكين فجميعهم سلكوا الطريق متعاقبين ، وفي كل ذرة في الطريق عقبة وخلف كل ذرة طريق جديد إليه ، فكيف يمكنك معرفة أي طريق ستسلك ؟ وأي طريق إلى تلك الأعتاب يوصلك ؟  فقد أصبح خفياً ذلك الزمان الذي تبحث عنه عياناً كما أصبح عياناً ذاك الزمان الذي تبحث عنه خفياً ، هكذا تبحث عن عيان فيتحول إلى خفاء وتبحث عن خفاء فيتحول إلى عيان ، وإن تبحث في كليهما فلن تجد له نظيراً حيث يكون خارجاً عن نطاق هذا وذاك فلتكف عن البحث فما فقدت شيئاً وكف عن الحديث فكل ما تقوله ليس إلا ثرثرة ..   إن كل ما تقوله وما تعرفه نابع منك فلتعرف نفسك فقط لأن هذا الأمر أكبر مائة مرة منك ولتعرف الله بالله لا بنفسك فالطريق إليه منه لا بعقلك ، كما أن وصفه لا يليق بالوصافين ، حيث لا يليق هذا الأمر بالفضلاء ولا بالسفلة فالعجز هنا مساو للمعرفة فما أحاط به شرح كما تنزه عن أي صفة ، ولا نصيب للخلق منه أكثر من الخيال ومعرفة أي خبر عنه ليس أكثر من محال ، وما قيل حسناً كان أم سيئاً قد صدر من نبع الخيال دائماً ،  فهو يسمو على العلم ويخرج عن العيان لأنه في قدسيته بلا علامة مميزة وما أدرك إنسان أي علامة له غير أنه بلا نظير وما أدرك أي شخص حيلة غير نثر الروح وليس لشخص قط في الصحو أو السكر أن يدرك منه نصيباً " إلا الذي " ،  فكل ما في العالم وأنت من بينها يمكنك إدراكه وفهمه إلا الله وحده ، وإذا لم يكن يوجد حيث يوجد الإنسان فأنى تستطيع روح آدمية أن تصل إلى إدراكه ؟ إنه أسمى منزلة من الروح آلاف المرات ، لذا فهو يسمو عن كل ما أنطق به .   سيظل العقل حائراً في محبته ، كما تعض الروح الأنامل مما بها من عجز ، فما الروح إلا هائمة في إدراكه ، كما انفطر القلب فغص بالدماء ، فيا من عرفت الحق لا تقم مثل هذا القياس فلا أمر دون كيفية في القياس ، كما أن العقل والروح عجزا أمام جلاله ، حيث شل العقل وبهتت الروح ، وما أدرك نبي أو رسول أي جزئية من الكل فقد أقبلوا جميعاً عاجزين ساجدين على الثرى ، جاءوا قائلين : " ما عرفناك " فمن أكون أنا حتى أتفاخر بمعرفته ؟ فما عرفه إلا من أنعم عليه بالمعرفة ..   إذا لم يكن لسواه في كلا العالمين وجوده ، فبمن غيره يليق حبك وهواك ؟  لقد زخر البحر بالجواهر ، أما أنت فلن تعرف من هذا شيئاً مهما ضربت أخماساً في أسداس ، وكل من لم يحظ بجواهر ذلك البحر صار عدماً وما وجد من العدم إلا العدم ،  فلا تقل ذلك ما لم تأتك إشارة بذلك ، ولا تتحدث عن شيء ما لم يأتك به بيان أما هو فلا تليق به الإشارة ولا البيان وليس لإنسان قط علم به ولا عرفان ،  فتخل عن نفسك فهذا أصل الكمال وكفى وافن نفسك فهذا عين الوصال وكفى فلتفن نفسك فيه حيث في الفناء الخلود ، وكل ما عدا ذلك ضرب من الفضول ولتمض في طريق الوحدانية متجنباً الثنائية وليكن لك قلب واحد وقبلة واحدة وطريق واحد .. فيا ابن الخليفة يا من عدمت المعرفة عليك بالاتصاف كأبيك بالمعرفة ، إن كل ما خلقه الحق من عدم إلى وجود قد خرت كلها أمامه في سجود ، وما أن وصل خلقه إلى آدم في النهاية حتى ارتفعت مئات الحجب إعزازاً له ، وقال له الحق : لتكن يا آدم بحر جود وسيقبل أمامك هؤلاء جميعاً في سجود ، أما من أبى السجود فقد مسخ ولعن ،  وما أدرك هذا السر وما أن اسود وجهه حتى قال : أيها المتعال لا تتركني في ضياعي ولتصلح من أمري ، فأجابه الحق تعالى : أيها الملعون في كل طريق ، ما آدم إلا خليفة وسلطان فلتكن اليوم له طوع البنان ولتحرق في الغد البخور حيثما كان ..   لقد هبطت الروح إلى الجسد فصار الجزء كلاً ، وليس للإنسان من هذه العجائب غير الطلسم ، إن الروح بالعزة موصوفة ، أما الجسد فبالمهانة موسوم ، ثم اجتمعت الروح الطاهرة بالجسد الخسيس ، وما إن اتحد الطهر بالخسة حتى كان آدم أعجوبة الأسرار ، ولكن ما وقف شخص قط على أسراره وليس أمر كل مسكين هو أمره ، وما أدركنا وما علمنا في أي زمان أنعم علينا بالقلب . .   ما أكثر ما قلت ، ولكن الطريق صمت مطبق ، فليس لإنسان قط قدرة لإطلاق زفرة ، وما أكثر من خبروا سطح ذلك البحر ، ولكن ما أدرك أحد قط ما بقاعه الكنز في القاع والبحر طلسم فلتحطم في النهاية هذا الطلسم وقيد الجسد ،  فعندما يفنى الطلسم ستجد الكنز وعندما يفنى الجسد تظهر الروح ، ثم تصبح الروح بعد ذلك طلسماً حيث تصبح روحك جسماً جديداً للغيب ، فاسلك الطريق هكذا وعن النهاية لا تسل وتقبل الألم وعن الدواء لا تسل ..   وما أكثر الغرقى في هذا البحر الواسع وقد عدمنا أي خبر عن أحد منهم ، ففي مثل هذا البحر الأعظم ، يكون العالم ذرة فيه والذرة منه كعالم ، ولتعلم أن هذا العالم فقاعة في ذلك البحر ، ولتعلم كذلك أن الذرة فقاعة هي الأخرى ، فإن يتلاش ذلك العالم وتلك الذرة فما نقص من هذا البحر إلا فقاعتان فقط ، وهل يعلم الإنسان ماذا يجد في هذا البحر العميق ؟ أيجد حجارة عديمة القيمة أم يجد العقيق ؟   لقد قامرنا بالعقل والروح والدين والقلب حتى توصلنا إلى معرفة كمال ذرة واحدة ، فأغلق شفتيك ، وعن العرش أو الكرسي لا تسل حتى وإن كنت تسأل كل ذرة فلا تسل فإذا كان في كشف سر شعرة واحدة احترق قلبك فيجب أن تكف عن السؤال شفتك ، ولن يعلم شخص قط تمام كنه ذرة واحدة ، فما أكثر ما تقول وما أكثر ما تسأل والسلام ، وفي طريقه يظل الفلك متقلباً غير مستقر إذ لا يستقر دائماً على أي مستقر ، وفي سلوكه يتملكه الاضطراب إذ أن طريقه حجاب في حجاب ، وسيظل الفلك أسير الحيرة في دورانه وأنى له أن يدرك ما بداخل الحجاب ، وهكذا قضى سنوات طوالاً في اضطراب قضاها دائراً بلا إدراك حول هذا الحجاب ، وإذا كان الفلك لا يدرك ما بداخل الحجاب من سر، فكيف يرفع هذا الحجاب أمام أمثالك ؟. أمر العالم خليط من الحيرة والحسرة بل إنه حيرة في حيرة في حيرة وكل أمر فيه لا بداية له ولا نهاية مما أصاب السالكين بالعجز والحيرة ، والسابقون الذين جدوا في سلوك الطريق وفي تعقب هذا الأمر في كل وقت أصيبت أرواحهم بالحسرة وسيطر عليهم العجز والحيرة فانظر أولاً ماذا حدث لآدم وكيف قضى عمره قرين الهم والحزن ،  ثم انظر إلى نوح وما كان من أمر الطوفان لتدرك مقدار ما تحمله ألف سنة من الكفار ،  ثم انظر إلى إبراهيم ذي العزيمة القوية وقد جعلوا منزله المنجنيق والغار ،  ثم انظر إلى إسماعيل المبتلى وقد جعل روحه قرباناً في محراب الحبيب ،  ثم انظر إلى يعقوب الولهان وكيف ابيضت عيناه حزناً على ابنه ، وانظر إلى يوسف في محاكمته وكيف تحمل العبودية والبئر والسجن ، وانظر إلى أيوب الصابر وكيف عايش الديدان والذئاب ،  ثم انظر إلى يونس الهائم على وجهه وقد ظل في بطن الحوت فترة ، وانظر كذلك إلى موسى وقد كان فرعون في بداية الأمر له ظئراً والتابوت له مهداً ، وانظر إلى داود صانع الدروع وقد أحالت نار آلامه الحديد شمعاً طيعاً ، وانظر إلى سليمان صاحب السلطان وقد ضم ملكه الريح كما شمل الشيطان ،  ثم انظر إلى زكريا المفعم بالحرقة قلبه وقد التزم الصمت فما نطق حتى ولو نشروا رأسه ،  ثم انظر إلى يحيي وقد أهين أمام الجمع وقطعت رأسه ووضعت في الطست وكأنها قطعة شمع ،  ثم انظر إلى عيسى أسفل المقصلة وكيف هرب من اليهود مرات ومرات ،  ثم انظر إلى سيد الرسل محمد وأي جفاء وآلام لاقاها من كل ملحد ..   فإن تنظر إليهم جميعاً تدرك أن التخلي عن الروح أمر يسير وما أكثر ما أقول حيث تلاشى ما سبق أن قلته ولم تتبق وردة واحدة من الغصن الذي غرسته ، وهكذا أصبحت قتيل الحيرة دفعة واحدة ولم يعد لي من حيلة غير العجز والمسكنة ، فيا من أصبح العقل في طريقه طفلاً رضيعاً لقد ضاع عقل الشيخ في البحث عنك ، وبالنسبة لي أنا المجنون متى أصل ؟  وإن أصل فإلى إدراك الله متى أصل ؟ فلست مدركاً بالعلم ولا بالعيان كما لن يصيبك النفع أو الضر بالفائدة أو الخسران ، فما أصابك نفع من موسى مطلقاً كما لم يصبك سوء من فرعون مطلقاً ، ويا إلهي من الأبدي غيرك ؟  ومن لا حد له ولا نهاية غيرك ؟  وإذا كان كل شيء له نهاية فكيف يكون أبدياً من لا يستمر إلى النهاية ؟ يا خالقي لقد وقعت في الحيرة والاضطراب أما أنت فظللت في سترك خلف النقاب ، فلترفع النقاب ولا تحرق روحي ولا تعذبني أكثر مما أنا فيه فقد غرقت فجأة في أمواج بحرك فلتنقذني من كل هذا الاضطراب وتلك الحيرة ،  فكم بقيت وسط لجة بحر الفلك ولكنني ظللت خارج تلك الحجب ، فمن هذا البحر المتلاطم أنقذني لقد ألقيتني فيه فمنه خلصني لقد سيطرت نفسي على كلي فإن لم تأخذ بيدي فالويل لي ، كما لوث العبث روحي ولم تعد لي طاقة لتحمل أي عبث فإما أن تخلصني من هذا الفساد وإلا فلتنه حياتي ولتوارني التراب ..   الخلق يخشونك وأنا أخشى نفسي فما رأيت منك إلا كل خير وما رأيت من نفسي إلا كل شر ، لقد مت وأنا ما زلت على وجه الأرض فرد علي روحي يا واهب الروح الطاهرة ، المؤمن والكافر كلاهما مخضب بالدماء حيث وقع البعض في الحيرة ووقع الآخرون في الهوى فإن تدعهم فتلك هي الحيرة وإن تطردهم فهذا هو الضلال والهوى ..   ويا إلهي لقد تخضب قلبي بالدم ، وأصبحت في حيرة كالفلك ، فوجهت أقوالي إليك ليل نهار فلا تتخل لحظة واحدة عن تحقيق طلبي وأنا في جوارك دواماً فأنت كالشمس وأنا كالطفل ، فيا واهب المحتاجين ماذا يكون الأمر ؟  لو أنك حفظت حق الجوار فبقلب مفعم بالأسى وبروح غاصة بالألم تنهمر دموعي كالمطر اشتياقاً إليك ، وإن كنت أعبر لك عن أسفي فلن أكف حتى أدركك ولو مرة واحدة ، فلتكن مرشدي إذا ما ضللت الطريق ولتعني إذا ما جئت في غير موعدي ، فكل من حاز البقاء في حضرتك أصبح سعيداً بعد أن فنى فيك وأصبح بنفسه غير مكترث ، فلست مستيئساً وقد قر قراري بجوار من يعين واحداً من كل مائة ألف . علق أحد الرجال وهو مكبل بالقيد والأصفاد في يديه ، وعندما حانت ساعة ضرب عنقه تعطفت عليه زوجة الجلاد بكسرة خبز ، وما إن أقبل الجلاد ممسكاً سيفه حتى رأى المسكين وكسرة الخبز في يده ، فقال له : من أعطاك أيها الحقير هذا الخبز ؟  قال : أعطتني إياه زوجتك ، فما أن سمع الرجل جوابه حتى قال : أصبح قتلك محرماً علينا لأن كل من قضم خبزنا لا يمكن رفع اليد بالسيف نحوه ولا يمكن أن تكره أرواحنا من أكل خبزنا فكيف يحل لي سفك دمك بسيفنا ؟   إلهي لقد سرت في طريقك وأكلت من خبزك على خوانك ، وعندما يقضم شخص خبز آخر يكون له الكثير من الحقوق لدى صاحب الخبز ، ولما كنت أنت بحر الجود المالك لكل شيء وقد أكلت الكثير من خبزك فلتصفح عني ، ويا إله العالمين لقد أصبحت من العاجزين وعلى اليبس قدت سفينتي فخذ بيدي وكن ناصري فما أكثر ما وضعت يدي عجزاً على رأسي وكأني بعوضة ، فيا غافر الذنب ويا عالماً بعذري لقد احترقت مائة مرة فكيف تريد إحراقي ؟  وكم أشعر بالاضطراب حياء منك حيث ارتكبت كثيراً مما يتجافى مع المروءة فاصفح عني ..   لقد أكثرت من الذنوب وأنا في غفلة ولكنك عوضتني بمئات الأفانين من الرحمة ، فيا إلهي نظرة منك إلي أنا المسكين فإن تر مني شراً يصبح خيراً إن تشملني بنظرة ، لقد أخطأت لأني جهول فاغفر لي ، ولترحم قلبي المهموم وروحي الثكلى ، إن كانت عيناي لا تبكيان في العيان فدموع روحي تنهمر شوقاً إليك في الكتمان ،  ويا خالقي إن كنت قد ارتكبت الخير أو الشر فكل ذلك كان نتاج جسدي فاعف عن سقطتي وامح عني معصيتي ، لقد فنيت بسببك كما حرت من أجلك ، فإن كنت سيئاً أو خيراً فما لحقني كان بسببك وأنا بدونك نقصان في نقصان ولكنني أصبح كلا إن تشملني بعطفك ، فنظرة واحدة منك صوب قلبي المكلوم تخرجني من كل هذه الهموم ، وإذا ما تركتني دنيا فلن أكون شيا ، ولكن من أكون حتى أكون جديراً بك ؟  وكم يكفيني أن أكون عدماً بالنسبة لك وكم يرضيني القول بأني عبدك بل عبد لتراب كلب محلتك ، وأنا لك عبد بذول للروح كما لي وسم كالحبشان منك ،  وكيف استشعر السعادة إن لم أكن عبداً لك ؟ وقد احترق قلبي حتى حظيت بالعبودية لك ، فلا تتخل عن عبدك الموسوم ولتضع حلقة العبودية في أذني عبدك .   يا من لا ييأس أحد من فضلك سأظل دائماً موسوماً بحلقة عبوديتك وكل من لا يستعذب قلبه آلامك لا تجعله سعيداً أبداً لأنه ليس جديراً بك ، فزدني إيلاماً يا دوائي فبدون آلامك تموت روحي ، الكفر للكافر والدين للمتدين أما قلب العطار فله آفانين آلامك .   إلهي أنت مدرك لتوسلاتي ومطلع أيضاً على ليالي المتشحة بالسواد لقد جاوزت أحزاني كل حد فهبني محفلاً للمسرة واشملني بنور يضيء ظلمتي وكن معيني ومعزيني في ذلك المأتم ولا معين لي غيرك فخذ بيدي وامنحني نعمة نور الإسلام وافن نفسي الكثيرة الآثام .   إنني ذرة ضاعت وسط الظلال ، فما عاد لي من نصيب في هذا الوجود ، أنا ظل ولكني بفضلك شمس مضيئة حيث شملتني بشعاع أنوارك الوضاءة ولعلني ذرة دوارة أقفز وأسبح في ذلك الشعاع ولكن كيف أخرج من الكوة وأمضي في تلك العوالم الوضاءة ؟ وما العمل حتى لا تفارقني روحي وقد اتسم قلبي بالضعف ؟ فإن تفارقني روحي فلا معين لي سواك فلتكن رفيقي حتى دار القرار ، أما إذا خلا المكان مني دون أن تكون رفيقي فالويل لي ، كلي أمل أن تكون رفيقي وأن تكون في عوني على الدوام .   في نعت سيد المرسلين  الأبيات من ( 244 - 387) المصطفى سيد الدنيا والدين كنز الوفاء وصدر العالمين وبدرهما ، وهو شمس الشرع وبحر اليقين ونور العالم والرحمة للعالمين ، أرواح الطاهرين تراب لروحه الطاهرة وترابه محرر للأرواح من كل قيد إنه سيد الكونين وسلطان الجميع والشمس الهادية للأرواح وموصل الإيمان للجميع ، صاحب المعراج وصدر الكائنات ظل الحق وسيد شمس الذات ، كلا العالمين يمضيان في ركابه وترابه قبلة العرش والكرسي ، إنه سيد هذين العالمين وصاحب القدوة في الخفاء والعيان وهو أعظم الأنبياء وأفضلهم ومرشد الأصفياء والأولياء إنه المهدي إلى الإسلام الهادي السبل كما أنه مفتي الغيب وإمام الجزء والكل. هو السيد الذي يفوق كل ما أقول والسباق في كل شيء على الكل وقد قال سيد الكونين عن نفسه : " إنما أنا رحمة مهداة " . ""إشارة إلى الحديث النبوي وأول ما خلق الله نوری ، فـ العطار يعتقد أن أول ما صدر عن الوجود هو النور المحمدي . ثم تم خلق جميع الموجودات من هذا النور المحمدي ."" استمد العالمان اسميهما من وجوده ووجد العرش راحته من اسمه وتم خلق كل شيء كقطرات ندى من بحر جوده كما ظهر العالمان إلى الوجود من طفيله . نوره مقصد جميع المخلوقات وهو أصل الموجودات والمعدومات ، وما أن خلق الحق نوره المطلق حتى خلق من نوره مائة بحر من نور . ومن أجله خلق الروح الطاهرة ومن أجله خلق الدنيا ، ولم يكن لخلقه من مقصود سواه ولا وجود لمن هو أطهر ذيلاً منه ، وأول ما بدا في عالم الغيب كان نوره الطاهر بلا أدنى ريب ، وبعد ذلك أصبح نوره خير علم فبدا من بعده العرش والكرسي واللوح والقلم ، فالعالم ما هو إلا علم من نوره الطاهر.  وآدم وذريته ما هم إلا علم آخر منه ، ولكن ما إن بدا نور الله الأعظم حتى خر ساجداً أمام الخالق وقضى القرون ساجداً ووقف سنوات وأعماراً راكعاً ، فكان مشغولاً طوال سنوات بالقيام حيث قضى عمره كله في الصلاة والتشهد بالتمام ، ومن الصلاة وضح نور تلك البحار الزاخرة بالأسرار فكان فرض الصلاة على جميع البشر .. هذا النور جعله الحق بمثابة الشمس والقمر ، بل جعله بلا قرين إلى الأبد ، وفجأة فتح أمام بحر الحقيقة طريقاً ظاهراً إلى ذلك النور فما أن رأى بحر الأسرار ذلك النور حتى هاج تيهاً ودلالاً ومن شدة الطلب دار حول نفسه سبع دورات ، فظهرت الأفلاك السبعة الدوارة ، وتحولت كل نظرة صوبت إليه من الحق إلى كوكب بدا في الأفق ساطعاً ،  بعد ذلك استقر ذلك النور الطاهر ، حيث أصبح العرش العالي ، واتخذ اسم الكرسي ، ثم طلب العرش والكرسي أن يكونا صورة لذاته ثم ظهرت جميع الملائكة من صفاته ..   ومن أنفاسه ظهرت الأنوار كما وضحت الأسرار في قلبه المفعم بالأفكار ، وسر الروح من عالم فكره وكفى . ""فيها إشارة إلى قوله تعالى : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) سورة السجدة "" إذ نفخ الله تعالى فيه نفخة من روحه ، وعندما اجتمعت تلك الأنفاس بتلك الأسرار انبثقت كثرة هائلة من الأنوار ، وما أن وصل طفيل نوره إلى جميع الأمم حتى صار مبعوثاً إلى الجميع ولا جرم . وصار المبعوث حتى يوم الميزان إلى جميع الخلق في كل عصر وزمان وما أن وجه الدعوة إلى الشيطان حتى أسلم لهذا السبب الشيطان ، ووجه دعوته إلى الجن بإذن من الخالق فبدت لذلك ليلة الجن . وجعل مقام الأبرار من مقام الرسل حيث دعاهم جميعاً في ليلة واحدة ، ودعوته كانت واضحة حتى للحيوان والعجل والضب على ذلك شاهدان . ووجه دعوته إلى أصنام العالم فخرت أمامه هاوية ولا جرم . وذلك الطاهر كان داعياً للذرات لذا سبحت في كفه الحصيات ، فمن من الأنبياء أدرك هذه المرتبة وهذا التكريم ؟ ومن منهم وجه دعوته إلى كل الأمم ؟   ولما كان نوره أصل كل الموجودات ولما كانت ذاته مانحة كل ذات ، وجب أن تكون دعوته لكل العالمين ولكل المخلوقات في الخفاء والعيان فأقبل عليه الجميع كما أقبلت عليه أمته فكانوا جميعاً قاطفي ثمار همته ، ويوم الحشر يقول من أجل حفنة بلا عمل صالح هذه أمتي فترد بعد هذا شفاعته ، فيرسل الحق الفداء لهذه الأمة إكراماً لروح النبي نور الهدى ، وهو الحاذق في مزاولة أي عمل وعمله يكون على أجمل صورة يتم بها العمل ، وما دام لا يتعلق بشيء مطلقاً فهو لا يحزن على فقدان أي شيء مطلقاً ..   في كنفه يوجد كل موجود ومن رضائه يتحقق كل مقصود ، إنه سر العالم في مخلوق ، وهو المرهم الشافي لكل قلب مكلوم ، وخاص به فقط كل ما يتصف به ، وأنى لشخص أن يرى مثل هذا ولو في الحلم ، لقد رآه الكل كما رأى هو الكل وهو كما يرى من قبل يرى من بعد ، وبه ختم الحق النبوة كما ختم عليه إعجاز الخلق والفتوة ..   وجاءت دعوته من أجل الخاص والعام وأتم الله به نعمته على التمام ، ثم أعطى مهلة للكافرين في مجازاتهم بالعقاب حيث كف في عهده عن إرسال العذاب ، الدين والدنيا في كف همته كما وهب حياته من أجل أمته ، وسار في معراجه بالليل فوضح أمامه سر الكل ، وأصبح ذا القبلتين لسمو رفعته وشأنه وظلاً بلا ظل يعلو الخافقين ، وتلقى من الحق أعظم كتاب ، فوجد الاحترام والتقدير من الجميع .. زوجاته أمهات المؤمنين ومعراجه تعظيم للمرسلين ، ومن خلفه سار الأنبياء إذ هو رائدهم وعلماء أمته كالأنبياء في مرتبتهم ، وتبجيلاً له ذكر الحق في التوراة والإنجيل اسمه . ""فيها إشارة إلى قوله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) سورة الأعراف "" واستمد الحجر منه المنزلة والرفعة ، فأطلق عليه اسم يمين الله . ولما له من حرمة أصبح ترابه قبلة ، وما أصاب أمته مسخ ونسخ ، وبعثه قضى على الأصنام وأمته هي خير الأنام.  والقطرة من ريقه أحالت البئر الجاف يفيض بالماء الزلال في عام القحط والجفاف ، وفلق القمر بأصبعه كما توقفت الشمس عن الإشراق تلبية لأمره ، وله بين كتفيه خاتم النبوة واضح وضوح الشمس .  وسلك الطريق قاصداً خير البلاد ، فهو خير الخلق في خير القرون .   واستمدت الكعبة منه التشريف فأصبحت بيت الله وكل من دخلها أصبح آمناً ، وتسلم جبريل الخرقة من يده فبدا مرتدياً الرداء والجبة ، وعظم شأن الأرض في عهده ، حيث حظيت بالمساجد وجعلت كلها طهوراً ..   ومع أنه أدرك أسرار كل شيء إلا أنه كان أمياً حيث لم يقرأ في أي كتاب ، ولما كان كلامه نابعاً من أقوال الحق فإن عهده أصبح أعظم عهد وكفى ، ويوم الحشر سيفنى الجميع عداه وستخرس كل الألسنة إلا لسانه ، وكم يتشوق حتى اليوم الآخر حيث يتبدل الحال أن يتلقى من الله أي سؤال ، وإذا غاص قلبه في بحر الأسرار انخرط في الصلاة والأذكار ، فكان يقول : أرحنا يا بلال حتى نخرج من ضيق هذا الخيال ، وإذا ما سيطر الاضطراب عليه مرة أخرى كان يقول : كلميني يا حميراء . ""يقصد السيدة عائشة ""   إذا نظر العقل إلى كل ما بدا منه ، فلا أعلم أكان يحمل روحاً واحدة أو مائة ، وليس للعقل طريق في خلوته ، كما أن العلم لا يعرف وقت حدوثها ، فإذا ما جمعته خلوة أنس بالخليل ، فمهما أجهد جبريل نفسه فلن يسمح له بالمثول ، وعندما بدت سيمرغ روحه ، أصبح موسى من الدهشة شبيهاً بالفاختة ..   حينما تقدم موسى صوب بساط الجناب الأعلى ، جاء أمر الحق بأن اخلع نعليك ، وما أن اقترب وأصبح بعيداً عن نعليه حتى أصبح غارقاً في النور بالوادي المقدس . ""فيها إشارة إلى قوله تعالى : فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) سورة طه "" أما في المعراج فكان الرسول سمع ذي الجلال يسمع صوت نعلي بلال ، وعلى الرغم من أن موسى ملك وسلطان فما سلك الطريق هناك وفي قدميه النعلان. فانظر أي عناية حظى به تابعه في بلاط الحق وذلك إكراماً له حيث جعل تابعه خليقاً بمحرابه وسمح له بسلوك الطريق إليه مرتدياً نعليه . فما أن رأى موسى العمراني تلك المنزلة وما لتابعه من قربة حتى قال : إلهي لتجعلني من أمته واجعلني تابعاً لهمته . ومع أن موسى أراد ذلك على الدوام فقد أدرك عيسى سمو هذا المقام ، فلا جرم أنه عندما يترك الخلوة.  سيدعو الخلق لاتباع دينه ويهبط من السماء الرابعة إلى الأرض واضعاً جبهته على ترابه وروحه تحت أمره وهكذا أصبح المسيح تابعه لذا أسماه الحق باسم المبشر . وإن كان لإنسان أن يتكلم فهو أنت وإن تقل كيف رحلت عن هذه الدنيا وكيف عدت ، لحللت مشكلاتنا واحدة واحدة ، وما بقي في قلوبنا أدنى ريبة ، فما رجع شخص قط من البادين والخافين سوى محمد عليه السلام في كلا العالمين ، وما توصل هو إلى إدراكه هناك بالاطلاع والرؤية ، متى سمح لإنسان أن يدركه ؟  فهو السلطان والكل أتباعه وهو على الدوام الملك والكل خيله وحشمه وحينما جاء القسم " لعمرك " تاجاً يعلو مفرقه سارع الخلق بالمثول أمام بابه ، وما أن امتلأت الدنيا برائحة شعره المسكية ، حتى أصبح البحر من العطش صادي الشفة ، ومن الذي لا يتعطش لرؤيته وقد شغفت به الحجارة والخشب ؟ وما أن صعدت روح بحر النور حتى ترددت أنات الحنانة بعيداً بعيداً . ""اسم عمود في المسجد النبوي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتكز عليه عندما كان يخطب في مسجده "" وغصت السماء المرفوعة بلا عمد بالنور وغرق هذا العمود في الحزن لفراق الرسول ..   كيف يتأتى لمثلي أن يصفه وجبيني يتصبب عرقاً كالدماء من شدة خجلي ؟ إنه فصيح العالم وأنا أبكمه فكيف أستطيع شرح حاله ؟ ومتى كان وصفه يليق بشخص مهين ؟ فوصفه وقف على خالق العالم وحده ..   يا من الدنيا بما لها من منزلة تراب لك ومائة روح دنيوية تراب لروحك الطاهرة قد تحير الأنبياء في وصفك كما تملكت الحيرة العلماء والعارفين في كنهك ، ويا من بسمتك شمس وضاءة ، وبكاؤك أمر للسحاب بالإمطار ، كلا العالمين غبار حول تراب قدمك ، ولقد تدثرت بدثار يا رفيع المكانة فارفع رأسك أيها الكريم من تحت الدثار ثم امدد قدميك على قدر هذا الدثار ..   لقد تلاشت كل الشرائع أمام شريعتك وضاعت أصولها جميعاً أمام مذهبك ، وما دام شرعك وحكمك في الوجود فاسمك مقترن باسم الله صاحب الجود ، وكل نبي أو رسول سارع بالدخول في دينك من كل سبيل . فإذا لم يكن قد أتى من هو أفضل منك من قبل فلن يأتي من بعدك أحد ولا ريب ، أنت الآخر والأول في هذا العالم وأنت السابق واللاحق معاً ، ولن يصل شخص قط إلى ترابك كما لن يصل أي شخص لمثل هذا العز كذلك ..   إن سيادة العالمين إلى الأبد وقف على المرسل أحمد ، أما أنا يا رسول الله فما أكثر عجزي إنني صفر اليدين وقد علا التراب مفرقي ، أنت المعين للضعفاء في كل لحظة ولا معين لي في كلا العالمين سواك ، فلتشملني بنظرة أنا المهموم ولتصرف أموري أنا المغموم.  وإذا كنت قد أضعت عمري في المعصية فإنني الآن قد تبت فاسأل الحق لي المعذرة ، وإن كان لي أن أخاف من " لا تأمن " فلي السلوى في قوله : " لا تيأسوا " . إنني أقضي ليلي نهاري في أحزان وهموم حتى تكون شفيعي ولو للحظة واحدة ، فإذا جاءت من قبلك الشفاعة دمغت المعصية بخاتم الطاعة . فيا شفيع التعساء لتتلطف بنا ولتشعل شمع شفاعتك حتى أتقدم كالفراشة بين أمتك خافق الجناحين أمام شمعك ، فكل من يرى نور شمعك ساطعاً يهب كالفراشة روحه طائعاً .   كفى عين الروح لقاؤك وكفى كلا العالمين رضاؤك . حبك دواء لآلام قلبي وشمس طلعتك نور روحي وعلى بابك أبذل روحي وأنثر جواهر كلامي. وكل الجواهر التي تناثرت من لساني نثرتها إكراماً لك من صميم روحي وإن كنت أنثر الجواهر من صميم روحي . فلأن روحي تستمد منك صفاتها ، فقد ظلت روحي بلا سمة حتى وجدت سمتها منك وهكذا أصبحت صفاتي مستمدة منك ..   يا صاحب القدر الرفيع هذه حاجتي فهلا تفضلت علي بنظرة فإن ظللنا لا نحظى بهذه النظرة فسنظل دواماً في حيرة ، فلتنقذني يا طاهر الذات من هذا التفكير والشرك والترهات . ولا تجعل السواد من الذنوب يجلل وجهي وبحق المشاركة في الاسم أسألك أن تكون في عوني. إنني حدث في طريقك وقد غرقت فيه وأحاطت بي المياه العكرة ، وكلي أمل أن تأخذ بيدي من تلك الحمأة ، وتهدني سواء السبيل ثانية ..   حكاية عطف الأمومة الأبيات من (388 - 405)    سقط أحد الأبناء في اليم فتملك الاضطراب روح الأم ، وأخذ الطفل يضرب بيديه ورجليه في حيرة حتى حمله الماء صوب التيار ، فواصل الماء اندفاعه والطفل يتدحرج فوق سطحه . وما أن رأته الأم على هذه الحال حتى تمنت أن تكون وسط التيار ، ثم ألقت بنفسها وجذبته وفي نفس اللحظة ضمته وسارعت بإرضاعه واحتضنته ..   يا من جعل عطف الأمومة دليل الشفقة لتدرك قارباً يهوي إلى القاع في تلك اللجة ، فما أن سقطت في دوامة الحيرة حتى وقعت في لجة الحسرة . فبقيت مضطرباً كذاك الطفل في الماء أضرب بيدي ورجلي من الاضطراب ..   أيها المشفق على فتيان الطريق لتترفق بنا ولتحفظنا بكرمك من دوامة أنفسنا المتردية ، ولترحم قلوبنا المفعمة بالحرقة ، وأعنا على رؤية ما نحن فيه من دوامة ، ولترضعنا من در كرمك ولا ترفع من أمامنا خوان جودك .. يا من يسمو فوق الوصف والإدراك ويامن أطهر من وصف الوصافين ، ما أدركت أي يد أهدابك فلا جرم أن نكون أتباعك.  أما أتباعك فهم أحباؤك الأطهار ، وأهل العالم أتباع أتباعك ومن لا يصبح لأحبائك تابعاً فإنه عدو لأصحابك .  أولهم أبو بكر وآخرهم المرتضى . وهم الأركان الأربعة لكعبة الصدق والصفا ، أحدهم مضرب المثل في الصدق ، والآخر في العدل شمس مشرقة ، وأحدهم بحر في الورع والحياء ، والآخر سلطان أهل العلم والسخاء ..     في مناقب أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه الأبيات من ( 406 - 418)   السيد الأول هو صاحب الرسول " وثاني اثنين إذ هما في الغار " ، إنه صدر الدين والصديق الأكبر وقطب الحق وله في كل شيء على الجميع السبق ، وكل ما ألقى به الحق من الحضرة العلية في صدر المصطفى ألقى به أيضاً في صدر الصديق فلا جرم أن ألقى الله في قلبه التصديق ، وحينما خلق الله الدنيا والآخرة بلفظة واحدة ، التزم أبو بكر الصمت وأحكم إغلاق فمه ، وكان يقضي ليله حتى الصباح في سجود دائم ، كما كان يتنهد آناء الليل مما به من حرقة ، وسرت أنفاسه معطرة حتى بلاد الصين ، فعطرت دماء غزال التتار ، لذا قال الرسول شمع الشرع والدين " اطلبوا العلم ولو بالصين " .   ومكانته نابعة من حكمته ، وما كان لسانه ينطق إلا بكلمة هو ، فحكمته لم ترد على أي لسان وغير اسم الله لم ينطق لسانه . لابد للإنسان من اعتبار حتى يكون ذا وقار إذ كيف تتأتى جلائل الأعمال من عديم الوقار ، فما أن رأى عمر مقدار شعرة من قدره حتى قال : ليتني كنت تلك الشعرة على صدره فإن قبلت أنت ثاني الإثنين فإنه ثاني الإثنين بعد الرسول .   في مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه الأبيات من (419 - 430)   سيد الشرع وشمس المتدينين ظل الحق الفاروق الأعظم شمع الدين ، من ختم به الحق العدل والإنصاف ، وكان له في الفراسة قصب السبق على الجميع ، وأول من يسمح له بعبور الصراط هو عمر كما قال الرسول ، وهو أول من يتسلم خلعة من دار السلام فما أعظمه من صاحب مقام سام ، وما أن وضع الرسول يده في يده في البداية حتى حمله معه إلى حيث يوجد في النهاية .   بعدله وصل أمر الدين إلى منتهاه ، كما وجد النيل المضطرب راحته إنه شمع الجنة ولا وجود في أي جمع ظل لأي شخص أمام هذا الشمع ، وعندما تتلاشى الظلال أمام نور الشمعة تسارع الشياطين بالهرب بعيداً عنها ، وإذا تكلم فالحقيقة على لسانه وتخرج سافرة من قلبه ، وعندما رآه النبي يحترق في ضراعة قال : كم هو جدير بأن يسمى سراج الجنة ، فأحياناً كانت روحه تحترق من ألم العشق كما كان لسانه يحترق من نطقه بالحق . في مناقب أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه الأبيات من (431 - 443) سيد السنة والنور المطلق بل من استحق لقب سيد النورين ، ذلك الذي غرق في بحار العرفان إنه صدر الدين عثمان بن عفان وتلك الرفعة التي أحرزتها راية الإيمان قد استمدتها من أمير المؤمنين عثمان ، وذلك الرونق الذي حصلته عرصة الكونين قد استمدته من القلب الوضاء لذي النورين ، إنه يوسف الثاني كما قال المصطفى وهو بحر التقوى والحياء وكنز الوفا ، كان شديد الاهتمام بأمور الأهل حتى جعل روحه فداء لهم ، لذا ما أن تولى الأمر حتى قطعوا رأسه على الرغم من شدة اهتمامه بوصل الرحم .   على عهده زاد في الدنيا الفضل والهداية ، وبعدله انتشر الإيمان وفي حكمه ساد القرآن ، قال سيد السادات : إن الفلك يظل دائماً خجلاً من عثمان الملك كما قال الرسول كاشفاً للحجاب إن الحق تعالى لن يجري مع عثمان أي حساب .   وفي يوم البيعة لم يكن موجوداً لذا وضع الرسول يده بدلاً من يده ، فقال أحد الحاضرين كم كنت أود أن أكون غائباً مثل ذي النورين لأحوز هذا التكريم ، فقال له الرسول شمس الدنيا والدين : إن له أن يفعل بعد هذا كل شيء دون خوف ..   في مناقب أمير المؤمنين علي المرتضى رضي الله تعالى عنه الأبيات من (444 - 456) سيد الحق وزعيم الصادقين منبع الحلم وبحر العلم وقطب الدين ، ساقي الكوثر والإمام الهادي ابن عم المصطفى وأسد الباري ، إنه المرتضى المجتبى قرين البتول السيد المعصوم صهر الرسول ، وفي بيان كشف الطريق يكون صاحب سر " سلوني " ، وكم يستحق زعامة الدين إذ هو المفتي الحق بكل يقين .   إن علياً فريد في اطلاعه على أسرار الحق وليس للعقل أمام علمه أدنى شك ، وقد قال الرسول " أقضاكم علي " ، كما أن علياً مشغول في ذات الله وإذا كان أحد الأشخاص قد استرد الحياة بنفخة من عيسى فإن علياً قد أعاد اليد المقطوعة بنفخة منه ، كما أصبح صاحب القبول محطم الأصنام بالكعبة وهو معتمد على كتفي الرسول ، في ضميره تكمن مكنونات الغيب ومن بينها سر خروج اليد البيضاء من الجيب ، وإن لم تتضح له اليد البيضاء فكيف كان يستقر ذو الفقار ؟ وأحياناً كانت الثورة تتملكه لما آل إليه حاله ، كما كان يقول سره أحياناً للبئر ، وما وجد له قرين في جميع الآفاق فقد جال في الخلود وما وجد له صفياً بين الخلق .   في تعصب أهل السنة والشيعة الأبيات من (457 – 502) يا من وقعت أسير التعصب وظللت أبداً أسير البغض والحب إذا كنت تفاخر بالعقل واللب فكيف تنطق بعد ذلك بالتعصب ؟  أيها الجاهل لا رغبة في الخلافة إذ كيف تتأتى لدى أبي بكر وعمر مثل هذه الرغبة ؟!  لو كانت لديهما الرغبة وهما صاحبا قدوة لأعطى كل منهما لإبنه من بعده الولاية ، ولو كانا قد سلبا الحق من المستحقين لكان منعهما واجباً على الآخرين ، ولكن ما قام هؤلاء بمنعهما بل تركوا القيام بهذا الواجب لمن انتخب ، وإذا كان أحد لم يتقدم لمنع الصديق فلك أن تكذب الجميع وتلزم جانب التصديق ، أما أن تكذب صحابة الرسول فإنك بذلك تنكر أحاديث الرسول ، فقد قال : أصحابي نجوم زاهرة ، وأفضل القرون قرني ، وأفضل الخلق صحابتي وأقربائي ومن حظوا بصداقتي ، وإذا كان الأفضل لديك أسوأ فكيف يمكن أن يقال إنك صاحب نظر ؟ وكيف تجيز لصحابة الرسول أن يتقبلوا بقلوبهم رجلاً غير صاحب قبول أو أن يجلسوه مكان الرسول فمثل هذا الباطل لا يجوز من صحابة الرسول ، وإذا كان اختيارهم خاطئاً فاختيار جمع القرآن يكون كذلك خاطئاً ، إن كل ما يفعله صحابة الرسول هو الحق ولا يفعلون إلا ما يليق بالحق ، فإن كنت تنكر على أحدهم تولي الأمر فإنك تكذب بذلك ثلاثة وثلاثين ألفاً ..   كل من لا يعمل إلا متوكلاً على الله هو من يعقل بعيره ويتوكل ، وكيف يليق بمن يتبع هذا المنطق أن يسلب المستحقين أي حق فتخل عن هذا التفكير وإذا جاز أن تكون الرغبة لدى الصديق لما قال أقيلوني على الإطلاق ، ولو قدر أن لدى عمر قدراً ضئيلاً من الرغبة لما قتل ابنه ضرباً بالدرة .   كان الصديق رجل طريق دائماً ومتخلياً عن الكل وللأعتاب كان ملازماً ، وكم نثر المال والعافية والروح ، فالزم الحياء فمثل هذا الرجل لا يستمريء الظلم ، وقد تطهر من قشور الرواية لأنه كان في لب الدراية ، فمن يتعدى على منبر الدين ليس للرسول أن يجلسه مكانه وإن يدرك شخص هذا كله فكيف يستطيع القول إنه لا حق له في الخلافة ؟   وعمر الفاروق المتسم بالعدل ، كان يخلط الآجر أحياناً ويقتلع الشوك أحياناً كما كان يحمل كومة الحطب على الكتف ويمضي بها وسط المدينة ، أما يومه فيقضيه في رياضة حبس النفس وطعامه لا يتعدى سبع لقيمات وما كان على خوانه غير الملح مع الخل وما كان خبزه من بيت المال وإذا نام فالحصى فراشه والدرة وسادة رأسه وآناء الليل كان يحمل القربة كالسقا ليوصل الماء إلى العجوز كما كان يقضي الليل يقظاً قلبه لتفقد جنده ..   ذات مرة قال لحذيفة : يا صاحب النظر ألم تر مطلقاً نفاقاً في عمر ؟ فمن يبصرني بعيبي في مواجهتي إنما يتحفني بهدية ، فإن كان قد تولى الخلافة خطأ فلم كان نصيبه أسمال الدراويش ؟ وكم افترش مرقعاً من مئات القطع حيث عدم الرداء والكليم ، ومن حكم بهذه القدرة لا يتهم مطلقاً بالتحيز والعصبية ، ومن كان يحمل الدرة أحياناً والطين أحياناً لا يمكن أن يتحمل هذه الشدائد جزافاً ولو قدر وساس الخلافة وفق الهوى لأجلس نفسه في مرتبة السلطنة ، وعلى أيامه خلت مدن المنكرين من الكفر خوفاً منه فإن كنت تتعصب من أجل هذا فلست منصفاً ، ولتمت بهذا القهر لقد مات بالسم أما أنت فستموت بقهره وإن لم تذق سمه ..   أيها الجاهل الجاحد للحق لا تجعل من نفسك مقيماً للخلافة ، فإن كانت نفسك قد سيطرت عليك فستسبب آلاف الآلام والأحزان لك ، وإذا أحد غيرهم قد تولى الخلافة لسيطرت على عهده الآفات والأزمات ، وما دامت الروح تسري في الجسد فليست عهدة الخلق في الأعناق أمراً هيناً ..   حكاية أويس مع الخليفة عمر الأبيات من (503 - 511) جاء عمر مضطرباً أمام أويس وقال : لقد ألقيت الخلافة على كاهلي ، فإن يوجد لهذه الخلافة مشتر أبعه إياها ولو بدينار . وعندما سمع أويس من عمر هذا القول ، قال : صه ، وتخل عن هذا الهزل ، واطرح عنك هذا ، فكل من يريد قطع الطريق ، وجب عليه أن يجد فيه .   عندما علم الناس برغبة أمير المؤمنين في التخلي عن الخلافة صاح الجميع في نفس الآونة ، وقالوا : أيها القائد نستحلفك بالله ألا تجعل الخلق حيارى ، لقد أوكل الصديق الخلافة إليك عهدة وقد تم هذا عن تحقيق لا عن عدم بصيرة ، فإن تعص أمره فكم تتألم روحه بهذا التصرف . ما أن سمع عمر هذه الحجج المحكمة حتى أصبح التخلي أمراً صعباً بالنسبة له ..    قول في شهادة المرتضى علي رضي الله عنه وكرم وجهه الأبيات من (512 - 522) ما أن فاجأ سيء الحظ الجاهل المرتضى بطعنة ، حتى سارع الجمع بتقديم جرعة ماء للمرتضى ، فقال : أين قاتلي ؟ لتقدموا له الماء أولاً ثم يأتي بعد ذلك دوري إذ سيكون هذا القاتل رفيقي ، فقدموا الجرعة له ، فقال القاتل : أي عذاب هذا ؟ أيريد الحيدر قتلي بالسم هكذا ؟ فقال المرتضى : بحق الخالق لا بأس أن تشرب جرعتي على الإطلاق ولن أخطو خطوة واحدة أمام الحق في جنة المأوى دون أن تكون في صحبتي .. إذا كان المرتضى لم يمض صوب الجنة دون أن يكون معه قاتله ، فمن تكون شفقته إلى هذا الحد مع عدوه كيف يحقد على صديقه ؟ ومن يغتم هكذا لعدوه كيف تظن به معاداة العتيق ؟ وما دامت الحياة فلن يخلق الله حبيباً للصديق مثل علي ، وما أكثر ادعاءك بأن المرتضى قد ظلم ومن تولى الخلافة قد حرم . فإذا كان علي أسد الله وتاج السر فلا يمكن أن يقع ظلم أيها الغلام على الغضنفر ..   حديث سيدنا محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام الأبيات من ( 523 – 538) نزل المصطفى بمكان ما بالطريق وقال : أحضروا الماء للجيش من البئر ، فذهب رجل ثم عاد مسرعاً . وقال : إنه مليء بالدم لا بالماء وتساورني الظنون بأن المرتضى قال للبئر أسراره من شدة ما يعاني ، وما أن سمع البئر ذلك حتى خارت قواه فلا جرم إن غص بالدماء ونضب ماؤه ..   من يختلج في روحه مثل هذا الاضطراب كيف يتسع قلبه لحقد ولو بمقدار نملة ؟ أما روحك فاضطرابها وليد التعصب وما كان للمرتضى روح كهذه فالزم الصمت ولا تعقد القياس بينك وبين المرتضى ، لأنه كان بالحق عالماً وفيه غارقاً كما كان في العمل مستغرقاً ومن خيالك هذا متضايقاً ، ولو كان مثلك حقوداً لحارب خيل المصطفى ، ولم لم يتعارك علي مع أي شخص وقد كان أكثر منك شجاعة ؟ وإن لم يكن الصديق على حق ويا للعجب وكان علي صاحب حق لكان إياه قد طلب .. حينما تقدم جيش أم المؤمنين لمجابهة علي بما لا يتفق والدين ويثير الحقد والضغينة ، اضطر أن يدفع حيدر هؤلاء القوم بالقوة بعد أن اضطر لمثل هذا الهراك والجدال ، ومن استطاع معاركة الإبنة كان يعلم كيف يتعامل مع الأب .. أنت لا تعرف أيها الحدث عن علي أي شيء إلا العين واللام والياء ، وبسبب هواك لا يقر لك قرار ، أما هو فقد استراح حيث تكون مئات الأرواح له نثاراً ..    حكاية ماذا أصابك يا علي ؟ الأبيات من (539 - 541)  كلما قتل أحد الصحابة سيطر الغم على الحيدر . وكان يقول : لم لا أقتل أنا كذلك ؟ لقد صغرت الروح العزيزة في عيني . فكان الرسول يقول له : ماذا أصابك يا علي ؟ لقد تولى الله رعايتك ..    حكاية بلال ابن رباح الأبيات من (542 - 548) ذات يوم ضرب بلال على مكان واحد من جسده مائة عصا وجلدة فسالت منه الدماء بسبب تلك العصي العديدة ولكنه كان دائم الترديد لكلمة : أحد أحد .. إذا ما غمرك خضم من الذلة فما بقي وقتها حب أو بغض في طريقك ، ومن ابتلي بالذلة فمن الخطأ أن يتعامل مع هؤلاء القوم وما داموا هم هكذا وأنت هكذا فستظل حيران دائماً هكذا . لقد نجا عبدة الأصنام من أذاك أما الصحابة فقد أوذوا من لسانك فلا تسود بالفضول صحيفتك لأنك تفوز إن حفظت لسانك .   حكاية  كن رجل حق كرابعة الأبيات من (549 - 570 ) سواء كان المقصود علياً أم أبا بكر الصديق فروح كل منهما غارقة في بحر التحقيق . فعندما توجه المصطفى صوب الغار نام المرتضى تلك الليلة في فراشه ، وهكذا أراد الحيدر أن يقدم روحه نثاراً ليحفظ روح الرسول الأكبر كما خاطر الصديق رفيق الغار بروحه . فكلاهما قدما الروح نثاراً في طريقه وكلاهما نثرا الروح حفاظاً عليه ، فتعصب في الرأي على أنهما بمنطق الرجال قدما الروح نثاراً في سبيل الحبيب ، فإن كنت رجلاً كهذا أو ذاك فهل لك أن تتحمل آلام هذا أو ذاك ؟ فلتكن مثلهما ولتسلك طريق بذل الروح ، وإلا فالزم الصمت وتخل عن هذا الهزل ..   لعلك أيها الغلام تعرف علياً وأبا بكر ، ولكنك تجهل حقيقة الله والعقل والروح ، فطهر الرأس بحق هذه الواقعة وكن رجل حق آناء الليل وأطراف النهار كرابعة ، فما كانت إمرأة واحدة بل إنها بمثابة مائة رجل. فكم تحملت الآلام من الرأس إلى القدم ، وكانت على الدوام غارقة في نور الحق متطهرة من الفضول وفي الله مستغرقة .   سألها سائل قائلاً : يا صاحبة القبول ماذا تقولين في صحابة الرسول ؟ قالت : إن كنت لا أعرف عن خالق البشر أي سر فكيف أستطيع الإدلاء عن الصحابة بأي خبر ؟ وإن لم أفني الروح والقلب في الحق فلن أكون لحظة مهتمة بالخلق ، وكم أصابت أشواك الطريق عيني فسالت منها الدماء وأنا في غفلة ، ومن أصابته مثل هذه الآلام كيف يجول بقلبه اهتمام بأي رجل أو إمرأة ؟ وإن كنت لا أعرف من أنا فكيف أعرف الآخرين بالقياس ؟   أنت في الطريق لست إلهاً ولا رسولاً فاغلل يدك عن هذا الرد والقبول وتطهر من التبرأ والتولي . وكن عبداً مطيعاً في هذا الطريق وما دمت حفنة من تراب فتحدث عن التراب واعتبر الجميع أطهاراً ولتطهر قولك ..   قول في شفاعة الرسول عليه السلام من أجل أمته الأبيات من (571 - 592) قال سيد العالم للخالق لتكل إلي أمر أمتي حتى لا يطلع أحد مطلقاً ذات لحظة على ذنوب أمتي. فقال له الحق تعالى : يا صدر الكبار إن تطلع على تلك الذنوب الكبار فلن تستطيع تحملها وتظل بعد ذلك حائراً ويعتريك الخجل وتختفي من بين الكل ، فإن سمعت قول أهل المجاز لطلبت أن يبعث بك مرة أخرى وإن تبحث عن طاهر ذيل واحد فما أكثر ما تجد من خطائين في هذه الأمة ، ولن تستطيع تحمل كل هذه الذنوب فاترك أمر أمتك للرب ، وإن كنت ترغب في ألا يعلم أحد قط شيئاً عن ذنوب أمتك فإنني يا عالي المقام أرغب في ألا تعرف أنت كذلك ذنوب أمتك ، فلا تضع قدمك بين الجمع وانتبذ لك مكاناً واترك أمر الأمة لي آناء الليل وأطراف النهار .   إذا كان أمر الأمة ليس في متناول المصطفى فكيف يسير هذا الأمر بحكمك في الطريق السوي ؟ فلا تكن مطلق الحكم وكف عن القول وتخل عن التعصب واعقد العزم على قطع الطريق واسلك نفس الطريق الذي سلكوه من قبل وامض في طريقك منشداً السلامة ، وإما أن تضع قدمك في طريق الصدق كالصديق ،  وإما أن تتخير العدل مثل عمر الفاروق ، أو كن مثل عثمان مثالاً للحياء والحلم ، أو مثل الحيدر بحراً للجود والعلم ، وإلا فلا تنطق بحرف واقبل نصيحتي وامض ولتحث الخطى واكبح جماح نفسك وامض إنك لست رجل صدق وعلم الحيدر ليس موفوراً لديك ،  إنما أنت أسير نفسك وفي كل لحظة تزداد كفراً فاقتل نفسك الكافرة وكن مؤمناً فإن قتلت النفس تكن بعد ذلك آمناً ، ولا تقبل على هذا الفضول بدفع من تعصبك ولا تروج هذه الرسالة النابعة من نفسك ، وليس من حقك أن تطلق الكلام على أعنته فكيف يحق لك أن تتكلم عن صحابة الرسول ؟   إلهي ليس لدي هذا الفضول فلتحفظني من التعصب على الدوام ولتطهر روحي من التعصب وإلا فلا كانت هذه القصة في ديواني .. المقالة الأولى في اجتماع الطير الأبيات من 593 - 657 مرحباً بك أيها الهدهد ، يا من للطريق هاد وفي الحقيقة مرشد كل واد ، يا من إلى حدود سبأ حسن سيرك ويا من مع سليمان حسن منطق طيرك ، فصرت صاحب أسرار سليمان وصرت في تفاخرك من أصحاب التيجان ، وقد كبل الشيطان وزج به في السجن حتى تكون حافظاً لأسرار سليمان ، وعندما تلقي بالشيطان في غياهب السجن تسارع بالمسير صوب سرادق الحفل بصحبة سليمان . مرحباً بك أيها النهس ، يا شبيهاً بموسى في الصفة انهض واشد بألحانك في عالم المعرفة ، فأنت أستاذ متمرس في علم الموسيقى ، كما أن عذوبة الألحان من حلقك مستقاة ، ولأنك رأيت النار من بعيد كما رآها موسى ، فلا جرم أن يكون النهس فوق جبل الطور ، ولتبتعد أيها الطائر عن شرفة فرعون وفي الميعاد أقبل ثم حلق بعد ذلك يا طائر الطور وتكلم بلا صياح وبلا لسان وافهم بلا عقل واسمع بلا آذان . مرحباً بك أيتها الببغاء الواقفة على طوبى ، وأنت ترتدين حلة أنيقة وطوقاً نارياً ، أما طوق النار فمن أجل ساكني جهنم ولكن الحلة فمن أجل ساكني الجنة والسخى ، ومن يشبه إبراهيم الخليل في نجاته من النمرود فإنه يستطيع الجلوس في مسرة على النار ، ولتضربي رأس النمرود كما تفعلين بالقلم وضعي قدمك في النار كخليل الله ، وإذا كنت قد تطهرت من بلية النمرود فارتدي الحلة وأي خوف بعد ذلك من الطوق الناري ؟! مرحباً بك أيتها الحجلة ، لتتهادي في مشيتك ولتتبختري وفي طريق العرفان أحسني مشيتك وقهقهي مستطيبة هذا الطريق واطرقي حلقة السندان المعلقة على باب الخلق ، وأذيبي الجبل مما بك من فاقة حتى تخرج من بين شعاب جبلك ناقة ، وعندما تجدين قلوصاً ستجدين نهراً جارياً من اللبن والعسل ، وسوقي الناقة إن كان لك في ذلك صلاح وإنه لآتيك باستقبال صالح . مرحباً بك أيها الصقر الحديد البصر إلى متى تظل عنيفاً سريع الغضب والقهر ؟ لتعقد على قدمك رسالة العشق الأزلية ولا تفض قيودها بل لتبق إلى الأبد مطوية ، ولتستبدل العقل الجبلي بالقلب حتى ترى إلى الأبد شيئاً واحداً مع الأزل ، ولتحطم إطار الطبع متشبهاً بالرجال ولتستقر وحيداً داخل الغار ، وإن يقر داخل الغار قرارك فسيكون محمد صدر العالم رفيق غارك . مرحباً بك يا دراج معراج ألست يا من رأى على مفرق بلى تاج ألست هل سمعت عشقاً بالروح مثل ألست ؟ فامسك عليك نفس الملل من بلى ، فإذا كان تصديق النفس دوامة البلاء فكيف يستقيم أمرك وسط الدوامة ؟ فاحرق النفس كحمار عيسى ثم أضيء روحك بحبيبك تشبهاً بعيسى ، واحرق الحمار وأسلم أمرك لطائر الروح حتى توافيك روح الله . مرحباً بك يا عندليب روضة العشق لتنح بصوتك العذب مما بك من آلام العشق ، ولتنح كداود بأعذب الألحان النابعة من آلام قلبك حتى تنثر في كل آونة مائة روح من أجلك ، وافتح فمك الشبيه بفم داود بأرق المعاني واهد الخلق بألحان حلقك الحسان ، ما أكثر ما تضرعت ضد النفس الشريرة ولتجعل كما فعل داود نفسك الفولاذية كالشمع لينة ، فإن تصبح هذه النفس الفولاذية لينة كالشمع فإنك ستنعم مثل داود بالعشق . مرحباً بك يا طاووس الروضة ذات الأبواب الثمانية ، لقد احترقت من جرح الأفعى ذات الرؤوس السبعة وسرى كلام هذه الأفعى سماً في دمك حتى أخرجتك من جنة عدن كما أبعدتك عن سدرة المنتهى وطوبى وجعلتك أسود القلب في طبيعتك ، فإن لا تهلك الأفعى فكيف تصير جديراً بهذه الأسرار ؟ وإن تم لك الخلاص من هذه الأفعى الشريرة فسيأخذك آدم معه إلى الجنة . مرحباً بك أيها الديك البري يا بعيد النظر لتنظر إلى ينبوع القلب الغارق في بحر النور ، فيا من ظللت طويلاً وسط بئر الظلام وبقيت في البلوى حبيس الاتهام ، خلص نفسك من هذه البئر المظلمة وارفع الرأس فوق عرش الرحمن الرحيم وتخل كما فعل يوسف عن البئر والسجن ، حتى تصبح في مصر صاحب عزة وسلطان فإن دان لك هذا الملك فسيكون الصديق قرينك . مرحباً بك أيتها القمرية الرقيقة لقد رحلت مسرورة ولكنك عدت مهمومة ، ضيق قلبك وليد بقائك في الدماء حيث ظللت أسيرة محبس ذي النون ، ويا من سببت الحيرة لحوت نفسك ما أكثر ما سترين من سوء نفسك ، فاقطعي رأس هذه السمكة الشريرة حتى تستطيعي مس مفرق القمر ، وإذا ما تخلصت من سمكة النفس فستكونين في مجلس الخواص أنيسة يونس . مرحباً بك أيتها الفاختة ، لتطلقي أعذب الألحان حتى أنثر عليك جواهر ملء سبعة صحون ، إذا كان عنقك يحاط بطوق الفناء فمن القبح أن يتسم عملك بعدم الوفاء ، وإن ظهرت شعرة واحدة من وجودك فأنا أنعتك بالخيانة من رأسك إلى قدمك ، وإن تتقدمي متخلية عن نفسك فستدركين بالعقل طريق المعاني وإن يوصلك العقل صوب المعاني يمددك الخضر بماء الحياة . مرحباً بك أيها الشاهين ، يا من جئت محلقاً لقد ذهبت جامحاً ثم عدت منكس الرأس فلا تجمح وأنت منكس الرأس ، ولتستقر بعد أن عدت في الدماء غريقاً ، وإذا ألزمت نفسك بجيفة الدنيا فلا جرم ستكون مهجوراً في العقبى ، فاطرح بعيداً عنك كلاً من الدنيا والآخرة ، ثم اطرح القلنسوة عن الرأس وأمعن النظر ، وإن تتخل عن الدنيا والآخرة فستصل يد ذي القرنين إلى مكانك . مرحباً بك أيها الحسون لتتقدم مسروراً وكن جاداً في الأمر وأقبل في سرعة النار ، وأحرق كل ما يعترض طريقك مما بك من حرقة ، ولتغمض عين روحك عن الخلق ، وحينما تحرق كل ما يصادفك فإن نور الحق يزداد كل لحظة أمامك ، وإن اطلع قلبك على أسرار الحق فلتوقف نفسك على أمر الحق ، ولكن حتى ولو تصبح طائراً كاملاً في أمر الحق فلن تبقى إنما يبقى الحق وحده ، والسلام .. المقالة الثانية حديث الهدهد مع الطيور في طلب السيمرج الأبيات من 658 - 711 اجتمعت طيور الدنيا جميعها ما كان منها معروفاً وما هو غير معروف ، وقالوا جميعاً : في هذا العصر وذاك الأوان لا تخلو مدينة قط من سلطان ، فكيف يخلو إقليمنا من ملك ؟! وأنى لنا أن نقطع طريقنا أكثر من هذا بلا ملك ؟ ربما لو يساعد بعضنا البعض لتمكنا من السعي في طلب ملك لنا ، لأنه إذا خلا إقليم من الملك فما بقي فيه أي نظام أو استتباب لدى الجند . سارع الكل إلى الاجتماع والبحث عن ملك أو سلطان ، فأقبل الهدهد مضطرباً لكثرة الانتظار أقبل بين الجمع لا يقر له قرار ، جاء مرتدياً على صدره حلة الطريقة جاء وقد علا مفرقه تاج الحقيقة ، جاء وقد خبر الطريق جاء بعد أن اطلع على ما فيه من قبيح ورشيق ، قال : أيتها الطير إنني بلا أدنى ريب مريد الحضرة ورسول الغيب جئت مزوداً من الحضرة بالمعرفة ، جئت وقد فطرت على أن أكون صاحب أسرار ومن نقش اسم الله على منقاره ليس ببعيد أن يدرك المزيد من الأسرار ، إنني أعيش نهب همومه زمناً طويلاً ولا صلة لي بأي إنسان إذ عندما أكون مشغولاً بآلام الملك لا يمكن أن يصيبني من الجند أي ألم وبفضله أدرك الماء في باطن الأرض وأدرك المزيد من الأسرار . إنني تحدثت مع سليمان كثيراً فلا جرم أن أكون مقدماً على خيله والعجيب أن كل من غاب عن حضرته لم يسأل عنه ولم يبعث في طلبه ولكن إن غبت عنه لحظة أرسل من يطلبني في كل مكان وهو لا يصبر عني برهة ، فحسب الهدهد إلى الأبد تلك المنزلة وقد حملت رسالته ورجعت إليه ثانية كما أطلعني على أسراره الخفية ، فكل من كان مرغوباً من الرسول زين التاج مفره وكل من ذكره الله بالخير كيف يشق غباره أي طائر ؟ كم قضيت السنين أجوب البر والبحر وكم أصابني قطع الطريق بالاضطراب والدوار قد جبت الوادي والجبل والقفار ، كما طوفت العالم في عهد الطوفان وسافرت كثيراً مع سليمان ، كما جبت عرصات العالم فعرفت ملكنا ولكني لا أستطيع السير إليه وحدي فإذا صحبتموني في سفرتي أصبحتم أصفياء ذلك الملك وجلساء عتبته ، فاطرحوا عنكم معرة الغرور والهوى وتخلصوا كذلك من آلام كفركم وهمومه ، وكل من يملك روحاً تسارع بالتخلص من النفس يكون في طريق الأحبة بريئاً من الحسن والقبح . انثروا الأرواح وسيروا في الطريق وامضوا قدماً نحو تلك الأعتاب ، فلنا ملك بلا ريب يقيم خلف جبل يقال له جبل قاف اسمه السيمرج ملك الطيور وهو منا قريب ونحن منه جد بعيدين مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع ولا يكف أي لسان عن ترديد اسمه ، تكتنفه مئات الألوف من الحجب بعضها من نور وبعضها من ظلمة وليس لفرد في كلا العالمين مقدرة حتى يحيط بشيء من كنهه إنه الملك المطلق المستغرق دائماً في كمال العز ، ولكن كيف يطير الفهم إلى حيث يوجد ؟ وكيف يصل العلم والعقل إلى حيث يوجد ؟ لا طريق إليه حتى ولو كثر المشتاقون من الخلق إليه ، وإذا كان وصفه بعيداً عن فعل الروح الطاهرة نفسها فليس للعقل قدرة على إدراكه فلا جرم أن يحار العقل كما أن الروح تحار عن إدراك صفاته وهكذا تعمى الأبصار ، ما أدرك عالم كماله وما رأى بصير جماله ولا طريق لكماله بين البشر وقد توقف الحجا فلا سبيل للنظر . إن تجمع أنصبة الخلق من ذلك الكمال وهذا الجمال فلن تزيد جميعها عن قبضة من خيال ، فكيف يمكن سلوك الطريق اعتماداً على الخيال ؟ وأنى لك الوصول إلى القمر على ظهر سمكة .. إن مئات الألوف من الرؤوس تصير كرات هناك وما أكثر العويل والصراخ هناك ، وفي طريقه تكثر البحار والقفار فلا تظن أن الطريق قصير بل يلزم رجل شجاع جسور لهذا الطريق وذلك لأنه طريق طويل وبحر عميق عميق .. ولأننا حيارى أمامه فسنسلك الطريق متعثرين فإن أدركنا منه علامة فهذا هو العمل وإلا فبدونه تعتبر الحياة عاراً وكلها خلل ، ولكن كيف يتأتى للروح أن تعمل دون الأحبة ، فإن كنت رجلاً فلا تكن روحك بلا أحبة ولسلوك هذا الطريق تلزم الشجاعة ونثر الروح ضرورة لهذه المنزلة الرفيعة ، فواجب عليك أيها الشجاع أن تتخلى عن الروح حتى يمكن القول بأنك خليق بالعمل فالروح لا تساوي شيئاً إن كنت بلا أحبة ، فكن كالرجال وانثر روحك الغالية وإن تنثر الروح متشبهاً بالرجال فما أكثر ما سينثره عليك الأحبة من الأرواح . ابتداء أمر السيمرج الأبيات من 712 - 724 بداية أمر السيمرج يا للعجب ، أنها مرت مجلوة الطلعة منتصف الليل بديار الصين ، فسقطت منها ريشة وسط تلك الديار فلا جرم أن عم الهيجان العالم وتصور كل شخص شكل تلك الريشة ومن رآها فقد تعلق بها ، وتلك الريشة محفوظة الآن في متحف الصين فاطلبوا العلم كما قال الرسول ولو بالصين ، ولو لم يبد نقش هذه الريشة واضحاً للعيان لما عمت الدنيا تلك الغلبة أو ذلك الهيجان ، آثار الإبداع جميعها نتاج عظمتها وجميع المخلوقات كلها صورة من ريشتها ، وإذا كان وصف الريشة بلا بداية ولا نهاية فلا يليق أن يقال عنها أكثر من ذلك ، والآن كل من تحرر منكم من القيود عليه أن يتقدم إلى الطريق ويسلكه .. عندما عرفت الطير عزة هذا السلطان لم يعد يقر لها قرار في هذا المكان ، وبدأ الشوق إليه يؤثر في أرواحهم وما أكثر ما بدر عنهم دون صبر أو روية ، وعزموا على قطع الطريق وتقدموا إليه وعادى كل عاشق له نفسه ، ولكن لما كان الطريق طويلاً وبعيداً ، فقد تألم كل واحد من قطعه ومع أن كل فرد جعل سلوك الطريق كل همه ، إلا أن كل واحد رجع يسوق عذراً مختلفاً .. المقالة الثالثة عذر البلبل الأبيات من 725 - 752 أقبل البلبل الولهان نشوان ثملاً ، ومن كمال العشق كان في حالة لا هي صحو ولا عدم ، وكانت صيحاته مفعمة بالمعان ، وخلف كل معنى كمن عالم من الأسرار ، فما أن رفع صوته بأسرار المعاني حتى ألجم ألسنة الطير جميعها .. قال : ختمت علي أسرار العشق لذا أمضي ليلي كله ألهج بالعشق ، نواح الناي بعض حديثي ورنين القيثارة الخفيض آهاتي البساتين غاصة بصيحاتي وإلى قلوب العشاق سرت خفقات قلبي ، في كل زمان أردد سراً جديداً وفي كل آونة أصدر لحناً جديداً .. ما أن أصاب العشق روحي بجبروته حتى أصبحت بحراً مضطرب الأمواج وكل من رأى اضطرابي فقد رشده ولو كان في غاية الصحو أصبح ثملاً ، وإن أعدم رؤية الخليل عاماً طويلاً ألذ بالصمت غير مبيح سري لأحد ، ولما كان معشوقي في بداية الربيع ينثر على الدنيا أريج عطره فبه تكتمل سعادة قلبي وبطلعته أتخلص من اضطرابي ، وإن يعاود معشوقي الاحتجاب يصبح البلبل المضطرب قليل الكلام ، لذا فإن أحداً لا يدرك أسراري ، أما الوردة فهي المدركة أسراري بلا ريب ، وهكذا أصبحت في عشق الوردة مستغرقاً حتى فنيت عن نفسي فناء مطلقاً ، وكفاني ما يكمن برأسي من عشق الوردة وكفاني أن الوردة الجميلة معشوقي ، وليس للبلبل طاقة لإدراك السيمرغ حيث يكفيه عشق الوردة .. إذا كانت الوردة العديدة الوريقات محبوبتي فأي بأس أن يكون الفقر صفتي ؟ وإن تتفتح برعمة ممزقة أستارها ، فإنها تضحك في وجهي وتتبسم لي وحدي ، فكيف يستطيع البلبل التخلي ولو لليلة واحدة عن عشق تلك الوردة الباسمة ؟ قال له الهدهد : يا من تعلقت بالصورة لا تتباه أكثر من ذلك بعشق الجميلة ، كم أصابك عشق الوردة بالأشواك وسيطر عليك حيث أصبح كل شغلك ، وإن كانت الوردة صاحبة جمال رائع فسرعان ما يزول حسنها في مدى أسبوع ، وعشق شيء ماله الزوال يصيب العقلاء بالضجر والملال ، وإذا كانت بسمة الوردة قد شاقتك فمع البكاء والنواح طوال الليل والنهار تركتك ، فتخل عن الوردة لأنها في كل ربيع تسخر منك أفلا تخجل من هذا المسلك ؟ المقالة الثالثة حكاية 1 في هذا المعنى الأبيات من 753 – 777 كان لأحد الملوك فتاة في جمال البدر ، امتلأ العالم بعشاقها المفتونين ، كانت فتنتها ذات سحر دائم حيث تبدو عينها الناعسة ثملة على الدوام أما عارضها فمن الكافور وغدائرها فمن المسك وماء الحياة ظمأ أمام شفتها . وإن بدا جمالها لحظة فقد العقل اتزانه أمام جمالها الفائق ، فإذا أدركت طعم شفتها الحلو ذبت خجلاً وحياء .. وقضاء وقدراً كان يسير رجل فقير أسير فوقعت عيناه على هذا البدر المنير ، وكان المسكين يمسك برغيف حيث كان قد ترك خبزه لدى الخباز ، فما أن وقع نظره على ذلك البدر حتى سقط الرغيف من يده إلى قارعة الطريق ، ومرت الفتاة أمامه مسرعة كالنار ضحكت عليه ومضت غاية في الجمال فما أن رأى المسكين ضحكتها حتى سقط على الأرض مدرجاً في دمائه ، وبعد أن كان المسكين يملك نصف رغيف ونصف روحه سرعان ما تطهر من كلا النصفين دفعة واحدة ، وأصبح لا يقر له قرار ليلاً أو نهاراً ، ولا يكف لحظة عن البكاء والحرقة ، وكلما تذكر ضحكة سلطانة الجمال انهمر في البكاء وكأنه السيل .. وعلى هذا المنوال قضى سبع سنوات مضطرب الحال إذ كان ينام مع الكلاب في محلة ذات الجمال ، حتى وقف عبيد الفتاة وخدمها على حقيقة الأمر ، فعقد أولئك الظلمة العزم على قطع رأس ذلك المسكين وكأنها شمعة . في الخفاء دعت الفتاة المسكين وقالت : أيمكن لمن مثلي أن تكون زوجة لمن مثلك ؟ إنهم يقصدونك فاهرب وسارع بالرحيل لا تجلس بأعتابي بل عليك أن تنهض وتسارع بالرحيل .. قال لها المسكين : منذ ذلك اليوم نفضت يدي من روحي حيث أصبحت بك مفتوناً ثملاً ، ومئات الألوف من الأرواح الهائمة مثل روحي تنثرها الرياح على وجهك كل ساعة ، فإن كانوا يرغبون في قتلي بلا جريرة فلي سؤال أرجو أن تتفضلي علي بإجابته ، إن كنت ستقطعين رأسي بلا ذنب فلم كنت تهزئين بي في ذلك الزمان ؟ قالت : عندما رأيتك بلا فضل ضحكت عليك يا من تردى في الجهل ، قد يجوز الاستخفاف برأسك وذقنك ولكن لا يليق الابتسام من أجلك . قالت هذا وتركته مسرعة وكأن كل ما حدث لم يحدث على الإطلاق .. المقالة الرابعة عذر الببغاء الأبيات من 778 - 788 أقبلت الببغاء وفمها مملوء سكراً أقبلت مرتدية حلة فستقية وطوقاً مذهباً ، حتى أصبح الباشق بعوضة أمام عظمتها وحيثما وجدت الخضرة فهي وليدة جناحها ، وإن فتحت فمها متحدثة تناثر السكر إذ أنها تستيقظ منذ السحر على أكل السكر .. قالت : إن كل قاسي القلب عديم الإنسانية أقام لأمثالي قفصاً فولاذياً فظللت أسيرة هذا السجن الفولاذي أذوب شوقاً إلى ماء الحياة ، إنني خضر الطيور لذا تبدو حلتي خضراء فمتى أستطيع ارتشاف ماء الحياة ؟ لن أستطيع التحليق إلى السيمرغ بل يكفيني رشفة واحدة من ينبوع ماء الحياة .. قال لها الهدهد : يا من عدمت السعادة ليس شهماً من لا يبذل الروح نثاراً لقد منحك الله الروح لتكون نثاراً ولكي تسنح لك لحظة مؤاتية مع الحبيب عليك بطلب ماء الحياة من روح الحبيب وإلا فامضي ، وما أنت إلا قشر عديم اللب ، أما إن شئت أن تفدي الحبيب بالروح فكوني كالرجال وفي طريق الأحبة انثري الروح .. المقالة الرابعة حكاية رجل مجذوب الأبيات من 789 - 794 كان هناك رجل مجذوب عالي المقام قال له الخضر : أيها الرجل الكامل هل لك أن تصاحبني ؟ قال : إن أمري لا يستقيم معك لقد شربت أنت من ماء الحياة كثيراً وذلك لتبقى روحك حية أبداً ، أما أنا فسأظل أقول ببذل الروح ولا أستطيع الحياة بلا أحبة لست مثلك أحافظ على الروح بل إنني أنثر في كل يوم روحي ، من الأفضل أن تفعل كما تفعل الطير مع الشباك بأن يبتعد بعضنا عن بعض والسلام .. المقالة الخامسة عذر الطاووس الأبيات من 795 - 813 بعد ذلك أقبل الطاووس في حلة ذهبية وازدان كل جناح بألف لون ، جاء كأنه عروس يوم الجلوة وكل ريشة منه مجلوة .. قال : ما أن فرغ نقاش الغيب من نقشي حتى أمسك الصينيون بأقلام النقش ، وعلى الرغم من أنني جبريل الطير ولكن ألم بي أمر من القضاء ليس بالحسن ، فقد شاركني ذات المكان ثعبان قبيح حتى أخرجني ذليلاً من الجنة ،  وما أن بدلوا مكان خلوتي حتى أصبحت قدماي كالجبيرتين قبحاً ، فاستقر عزمي في هذا المكان المظلم على أن أجد لي مرشداً إلى الخلد ، ولست ذلك الطائر الآمل في السلطان بل يكفيني أن أكون حارساً ،  ولكن أنى للسيمرغ أن يحظى بمكانتي لقد كان الفردوس الأعلى مكاني ، لذا ليس لي من عمل آخر في الدنيا غير محاولة العودة إلى الجنة مرة أخرى . قال له الهدهد : يا من ضللت الطريق بفعل نفسك ، إن كل ما تريده هو منزل ذلك السلطان ، فلتقل : تقدم قريباً منه فهذا أفضل من ذاك حيث تجمل الدار بحضرة السلطان .. إن دار النفس جنة خلد مليئة بالرغبات والنزوات، أما دار القلب فغاصة بالصدق، وحضرة الحق بحر خضم عظيم وقطرة صغيرة منه تساوي جنات النعيم ، من يملك البحر يملك القطرة ، وكل ما عدا البحر هوس وخيال ،  فإن تستطع سلوك الطريق إلى البحر فلم تلزم نفسك بالإسراع صوب قطرة ندى؟  فمن يعرف كيف يناجي الشمس بالأسرار فأنى يعاود الاكتفاء بالبقاء في ظل ذرة من شعاع ؟  وكل من أصبح كلاً فأي صلة للجزء به ؟  ومن أصبح روحاً فأي صلة للأعضاء به ؟  فإن كنت رجل كل فتأمل الكل واطلب الكل وكن كلياً وصر إلى الكل وتخير الكل .. المقالة الخامسة حكاية 1 الأبيات من 814 - 822 سأل طالب الأستاذ سؤالاً : لم خرج آدم من الجنة ؟ قال : كان آدم يحظى بسمو المنزلة وما أن هبط إلى الفردوس حتى ارتفع صوت الهاتف قائلاً : يا من خلقت جنتك من مئات القيود ، إن كل من وجد في هذين العالمين سوانا يسجد لشيء آخر ، أما نحن فنجلب الفناء للكائنات الأخرى حيث لا يمكن الضرب دون عون اليد .. كيف تكون الروح أمام آلاف الأحبة ؟ وكيف يستقيم أمر الروح بلا أحبة ؟ وعدا الأحبة فكل من تعلقوا بالماديات سقطوا جميعاً حتى ولو كانوا كآدم في المنزلة ، وأنى لأهل الجنة أن يدركوا أن تحمل الهموم والآلام أول مهمة هناك ، فإن لم يكن أهل الجنة جديرين بالسر فسرعان ما يتراجعون عن تحمل الغصة والهم .. المقالة السادسة عذر البطة الأبيات من 823 - 838 خرجت البطة من الماء غاية في الطهر فكانت بين الجمع مرتدية خير الثياب ، قالت : لا يوجد في كلا العالمين من لديه الخبر عن وجود من هو أنصع مني وجهاً أو أطهر ، إنني أغتسل في كل لحظة بفائق العناية ثم أبسط على الماء سجادتي ، فمن ذا الذي يماثلني في الاستقرار على صفحة الماء ؟ لذا لم يعد أدنى شك في كراماتي ، إنني زاهدة الطير وصاحبة الرأي الطاهر كما أن لباسي طاهر وكذا مكاني طاهر ، لا يمكن أن أسعد في الدنيا بعيداً عن الماء حيث أن مولدي ووجودي متعلقان بالماء ، وإن اغتم قلبي في هذا العالم فسرعان ما أغتسل من هموم القلب حيث الماء متوفر لدي على الدوام ، الماء يجري في جدولي دواماً فكيف أجد رغبتي حيث القحط ؟ وإذا كان أمري متصلاً بالماء فكيف أتنحى جانباً عن الماء ؟ فمن يعش معتمداً على الماء لا يستطع أن ينفض يده من الماء ، وإن كنت أجهل قطع الطريق فإنني لا أجد المقدرة لدي للوصول إلى السيمرغ ، ومن يكن وعاء مائه مملوءاً فمتى تتولد لديه الرغبة في السيمرغ ؟ قال لها الهدهد : يا من تجدين في الماء سعادتك ، إن الماء يحيط بروحك كما تحيط بها النار ، كم يطيب لك النوم على الماء ولكن ستأتي قطرة ماء وتسلبك ماء حياتك ، لقد وجد الماء من أجل الوجوه الدنسة فإن كان وجهك دنساً فابحثي عن الماء ، ومهما كنت طاهرة نقية كالماء فطلعتك شبيهة بطلعة كل دنس .. المقالة السادسة حكاية 1 الأبيات من 839 - 845 سأل رجل مجذوباً سؤالاً : ما حقيقة هذين العالمين مع هذا الخيال ؟ قال : هذان العالمان العلوي منهما والسفلي قطرة ماء لا أكثر ولا أقل ، فعندما ظهرا في أول الأمر كانا كقطرة ماء وإن اتخذت صوراً عدة ، ثم خرب كل نقش علا صفحة الماء حتى لو كان من فولاذ ، ولا يوجد ما هو أصلب من الفولاذ ، ولكن أنظر إلى كل بناء أقيم على صفحة الماء ، إنه مجرد خيال حتى ولو كان من فولاذ ولن يرى شخص قط الماء مستقراً فكيف يقام على الماء أساس راسخ مستقر ؟ المقالة السابعة عذر الحجلة الأبيات من 846 - 871 وصلت الحجلة تتهادى في مشيتها وقد خرجت مسرورة ثملة من جحرها ، جاءت في رداء بلون الشفق ومنقار أحمر قان ، جاءت ويكاد الدم يقفز من عينيها اضطراباً ، كانت تطير أحياناً على الجبل والسفح وتثني رأسها أحياناً أمام شعاع الشمس .. قالت : إنني جد مولعة بالحجر وأطوف دواماً فوق الجوهر ، وكم أشعل عشق الجوهر النار في قلبي ، وكفاني ذلك من نصيب حسن ، وما أن يندلع أوار تلك النار حتى يتجمد الدم في عروقي ويصبح كحبات الحصى ، وإذا رأيت النار تؤتي فعلها فسرعان ما تحيل الجمر أحمر كالدم .. هكذا بقيت دواماً بين الحجر والنار كما بقيت معطلة الفكر موشة الخاطر أطعم الحصباء ملتهبة محرقة وأتوسد الجمر وقلبي مفعم بالحرقة ، فافتحوا عيونكم يا أصحابي وانظروا في النهاية ماذا آكل وعلام أنام ، إنني أتوسد الجمر وأطعم الحجر فأنى لمن مثلي أن يحارب ؟! ما أكثر ما أدمت هذه الشدائد قلبي بمصائبها حيث أن عشق الجوهر ألزمني الجبل وكل من يعشق أي شيء سوى الجوهر يدرك أن امتلاكه يستمر لفترة ، أما امتلاك الجوهر فله نظام أبدي دائم فروح عاشقة تظل متعلقة بالجبل على الدوام .. إنني جبلية شغوفة بالجواهر لذا لا أستطيع التخلي لحظة عن الجبل والسفح ، ولما كانت الجواهر تزين مفرق الجبل دائماً ، فأنا أبحث عن الجوهر في الجبل دائماً ، وما وجدت جوهراً يفوق الجواهر وما وجدت جوهراً أنفس من الجواهر ، ولما كان الطريق إلى السيمرغ شاقاً فستظل قدمي على الجمر والجواهر غاصة وسط الوحل ، وكيف أستطيع إدراك السيمرغ القوي القلب وأنا حيرتي وعجزي وقدمي غاصة في الوحل ؟؟ سأكون كالنار لا أشيح بوجهي بعيداً عن الجمر فإما أن أموت أو أنتزع الجواهر بمخلبي ، ومن الضروري أن يظهر الجوهر لي وإلا فكيف يرجى أي عمل من عديم الجواهر ؟؟ قال لها الهدهد : يا من تتلونين بالعديد من الألوان كالجواهر حتام تعرجين وتأتين بالمعاذير الواهية ، كثيراً ما تدمى قدماك ومنقارك ولكن لن تحظي إلا بالحجارة دون الجواهر ، وما أصل الجوهر إلا حجر اصطبغ بلون ، أما أنت فقد أحالك حب الأحجار حجرية القلب ، وإذا تلاشى لون الجوهر عاد حجراً وكل عديم القيمة ما اصطبغ بلون ، أما من يتمتع بعلو القيمة فليس به حاجة إلى لون لأن الرجل الأصيل الجوهر لا يبغي حجراً .. المقالة السابعة حكاية 1 الأبيات من 872 - 886 ليس لأي جوهرة تلك النفاثة التي كانت لجوهرة خاتم سليمان إذ أن فصها ذو شهرة وصيت ذائعين مع أنه من حجر لا يتعدى في الوزن نصف دانق ، وما أن أتم سليمان صنع هذا الجوهر فصاً لخاتمه حتى أصبح وجه الأرض كله تحت إمرته وحينما رأى سليمان ملكه هكذا رأى جميع الآفاق طوع بنانه وامتد قصره أربعين فرسخاً كما خضعت الريح لسلطانه ، ومع أن قصره كان يمتد أربعين فرسخاً إلا أنه كان نتاج فصه ذي النصف دانق في الوزن !! قال : إذا كانت هذه المملكة وتلك المكانة وليدة ذلك الحجر القيم فأنا لا أريد أن يحظى إنسان قط في كلا العالمين بمثل هذا الملك ، حيث رأيت يا إلهي بعين الاعتبار آفة هذا الملك واضحة للأبصار ، إن الحياة قصيرة إذا قيست بالحياة الآخرة فلا تعط يا إلهي بعد ذلك لأي إنسان فصاً آخر ، فلا صلة لي بالملك والعسكر وإنما اختار نسج الزنابيل .. مع أن سليمان أصبح بهذا الجوهر ملكاً إلا أن هذا الجوهر كان في طريقه عائقاً ، وإن كان الجوهر يفعل هذا مع سليمان فكيف يكون عوناً لك أيها الضال ؟ ولما كان الجوهر حجراً فلا تبحث عنه ولا تعش إلا من أجل الأحبة ولتخلص قلبك من الجوهر يا طالب الجوهر ، وكن جوهرياً دائماً في الطلب .. المقالة الثامنة عذر الهما الأبيات من 887 – 903 جاءت الهما واهبة الظلال أمام الجمع ، ولأن ظلها بالنسبة للملوك هو سر ملكهم فقد جاءت تفوق الجميع في الهمة . قالت : يا طير البحر والبر إنني لست كبقية الطير فلي همة عالية في مزاولة كل فعل وعزلتي عن الخلق واضحة لكل ذي عقل ، قد ألحقت الذلة بالنفس الشبيهة بالكلب ، أما أفريدون وجمشيد فقد استمدا عزتهما مني ، الملوك نتاج ظلي وأنى للمساكين أن يكونوا رجالي ؟ ""أضاف المحقق : أفريدون : حاكم من حكام الدولة البيشدادية الأسطورية في إيران القديمة ، ويصوره الإيرانيون في صورة بطل قومي استطاع بمساعدة كاوه الحداد أن يقضي على الضحاك الأثيم ، وقد تحركت جيوشه رافعة مرقعة ذلك الحداد ، مستهلمة منها النصر ، وبعد القضاء على الضحاك اتخذت إيران هذه المرقعة علما لها أطلق عليه اسم « درفش كاوياني » أي العلم الكاوياني ، وظل هذا العلم يتصدر جيوشهم حتى وقع في أيدي المسلمين في موقعة القادسية أيام عمر بن الخطاب . . راجع : ابن الأثير ، الطبري ، روضة الصفا وغيرها من كتب التاريخ التي تعرضت للدول الأسطورية في إيران .أهـ "". إنني ألقمت النفس الشبيهة بالكلب عظمة ، وهكذا وهبت الروح الأمان من هذا الكلب ، وطالما قدمت العظمة للنفس على الدوام فإن روحي قد أدركت بذلك علو المقام ، وذلك الذي ينصب الملوك من ظل جناحه ، كيف يمكن أن يتخلى عن الترفع والتعالي ؟ بل على الجميع أن يجلسوا تحت جناحه حتى يحظوا بذرة من ظله ، ومع مكانتي هذه أنى للسيمرغ أن يكون رفيقي ؟ فكفاني أن عملي تنصيب الملوك . قال لها الهدهد : يا من استبد بك الغرور لتطوي ظلك ولا تخادعي نفسك أكثر من هذا ، ما عاد لك تنصيب الملوك في هذا الزمان ، وما أنت إلا ككلب يمسك بعظمة في هذا الأوان ، فليتك لا تنصبين الملوك وإنما تخلصين نفسك من تلك العظمة ، وإن أسلم لك جدلاً بأن ملوك الأرض يجدون عروشهم بفضل ظلك فسرعان ما يزول ملكهم مهما امتد بهم العمر ، ولكن إن لا ير ظلك ملك فأي بلاء تعيشين فيه حتى يوم الحساب ؟! المقالة الثامنة حكاية 1 الأبيات من 904 – 914 كان هناك رجل طاهر الرأي يسلك طريق الصواب ، وذات يوم رأى محموداً ( الغزنوي ) في المنام ، "" أضاف المحقق : محمود الغزنوي : 387 - 421 هـ تولى حكم الدولة الغزنوية بعد أن أخذ العرش من أخيه الأصغر إسماعيل بن سكتكبن . وفي عهده علا نجم الدولة الغزنوية حيث قضت على كثير من الدويلات الإيرانية الصغيرة ، وأهم نصر حققه فتح أجزاء كبيرة من الهند ونشر الدين الإسلامي بها . وقد حكم محمود فترة طويلة امتدت حوالي خمسة وثلاثين عاما . وإلى جانب اهتمامه بالسياسة والحرب ، فكان مهما بالآداب والفلسفة حتى قيل إن بلاطه كان يضم حوالي أربعمائة من أهل الفضل والأدب . . «راجع حوادث الأعوام 387 - 421 هـ في الكامل في التاريخ لابن الأثير»:. أهـ "" فقال : يا سلطان الزمان المعظم كيف حالك في دار القرار ؟ قال : صه ولا تسفك دماء روحي ولا تنطق بحرف وأي مكان للسلطان هنا ، فانهض ، لقد كان سلطاني خيالاً ووهماً إذ كيف تكون السلطنة لحفنة من السقط ؟ الحق هو السلطان مالك الدنيا وهو الجدير بهذه السلطنة ، وما أن رأيت عجزي وحيرتي حتى شعرت بالعرة من سلطنتي ، وإن ترغب في مناداتي فاسمي العاجز إذ هو السلطان الأوحد فلا تدعني سلطاناً ، السلطنة لله وأنا المنتفع من ورائه حتى ولو كنت في الدنيا شحاذاً ، وليت طريقي اعترضته مئات المشاكل وليس به هذا الجاه ، وليتني كنت أجمع السنابل ولست ملكاً ، فليضمر ريش تلك الهما وجناحها حيث أظلتني بظلها . المقالة التاسعة عذر الصقر الأبيات من 915 – 937 أقبل الصقر أمام الجمع مرفوع الرأس ، جاء وكأنه قد كشف النقاب عن عالم الأسرار ، جاء منتفخ الصدر معتزاً بقوته جاء متفاخراً بجبروته ، وقال : لشدة شوقي إلى يد السلطان أغلقت عيني عن النظر إلى خلق الزمان لذا فقد أخفيت عيني تحت القلنسوة حتى تصل قدمي إلى يد السلطان ، وقد أكثرت من تأديب نفسي كما أكثرت من التريض كالمرتاضين حتى إذا ما حملت ذات يوم إلى يد السلطان أكون برسوم الخدمة على علم وبيان ، وأنى لي أن أرى السيمرغ في المنام ؟ وأنى لي أن أسرع إليه عبثاً ؟ فكفاني ما أنعم به من حظ من يد السلطان وكفاني هذه المنزلة في عالم العيان ، إن كنت لا آمل في أن أكون سلطاناً فكفاني أن أقف مرفوع الرأس على يد السلطان فكل من يليق بالسلطان نافذ كل ما ينطق به أمام السلطان ، وإن أصبح جديراً بالسلطان فهذا أفضل من السير في واد بلا نهاية ، وكم أرغب في أن أبذل عمري في مواجهة السلطان بكل سرور فإنني أحياناً انتظر السلطان وأحياناً من شوقي إليه أشاركه رحلات الصيد . قال له الهدهد : يا أسير المجاز ، لقد بعدت عن الصفة وتعلقت بالصورة ، إن كان للسلطان ند في ملكه فكيف يزدان الملك به ؟ لا جدير بالسلطنة غير السيمرغ فهو بلا شبيه لذا فهو الخليق بها وحده ، وليس سلطاناً من تكون أفعاله غير نافذة في كل الأقاليم ، والسلطان هو من لا شبيه له ، ومن لا يتصف إلا بالوفاء والمدارة ، أما السلطان الدنيوي إذا اتصف لحظة بالوفاء ففي لحظة أخرى يظهر الجفاء ، وكل من يزداد منه قرباً يكون عمله دون شك أكثر رقة ، حيث يكون على الدوام حذراً من السلطان وتكون روحه محاطة بالخطر في كل أوان ، فسلطان الدنيا شبيه بالنار المحرقة فابتعد عنه لأن البعد عنه غنيمة ، لذا يجب ألا تقترب من السلاطين ولتسارع بالابتعاد يا من تقربت من السلاطين . المقالة التاسعة حكاية 1 الأبيات من 938 – 949 كان هناك سلطان عالي المنزلة وقع في عشق غلام جميل الطلعة ، وبعد أن اشتد به العشق لم يعد في مقدوره أن يجلس أو يستريح لحظة بعيداً عن معشوقه وقد خصه بالتزين من بين غلمانه كما كان يجلسه على الدوام أمام عينيه ، وعندما كان السلطان يرمي السهام في القصر اضطرب ذلك الغلام خوفاً من الضر ، حيث جعل السلطان هدفه تفاحة وضعها على مفرق الغلام فما أن شق التفاحة بسهمه حتى امتقع لون الغلام ، فسأله رجل جهول : لم أصبحت حمرة ورد خدك في صفرة الذهب ؟ لتشرح لم يتسم وجهك بالإصفرار مع ما لك من علو المكانة لدى السلطان ؟ قال : عندما يضع تفاحة على رأسي ويصيبني أذى من السهم فسرعان ما يقول : لم يكن يعترف بالتبعية كما أنه بلا شبيه في العيوب بين جندي وحشمي ، وإن يصب السهم الهدف ، يقل الجميع له : إن هذا من يمن طالع السلطان ، أما أنا فمهموم بين هذين الغمين وروحي عرضة للهلاك بلا جريرة . المقالة العاشرة عذر مالك الحزين الأبيات من 950 – 971 ثم أقبل مالك الحزين أمام الجمع على عجل ، وقال : يا طيري ويا من بهم أهتم ، إن أفضل مكان لي على ضفاف البحر حتى لا يسمع أحد نواحي ونحيبي ، إنني لا أسبب أذى لأحد قط كما لا يتأذى أحد في الدنيا مني قط ، إنما أجلس على شاطيء البحر مهموماً أجلس دائماً حزيناً مغموماً . إن قلبي ينفطر شوقاً إلى الماء ، وماذا أفعل إذا ما احتوتني الحسرة ؟ وما لم أكن ويا للعجب من أهل البحر فإنني أموت صادي الشفتين على شاطيء البحر ، ومهما أرغى البحر وأزبد فإنني لا أستطيع ارتشاف قطرة منه ، أما إذا تناقصت مياه البحر قطرة فيا لحرقة قلبي غيرة ، فكفى أمثالي عشق البحر حيث وصل هذا العشق في قلبي مرحلة الاكتفاء ، وليس لي في الدنيا إلا تحمل هموم البحر ، لذا لا أستطيع تحمل مشقة السيمرغ ولو للحظة ، فمن يكون أساسه قطرة ماء أنى له إدراك الوصل مع السيمرغ ؟ قال الهدهد : أيها الجاهل بخبايا البحر ، إنه غاص بالتماسيح وذوات الروح ما ؤه مر أحياناً ومالح أحياناً يسوده الهدوء أحياناً ويعتريه الاضطراب أحياناً ، والشيء المضطرب غير المستقر تارة إلى الأمام يندفع وتارة إلى الوراء ينحسر ، ما أكثر السفن التي تحطمت فيه بالعظماء وما أكثر من سقطوا في دوامته وماتوا ، وكل من يسلك فيه طريقاً كما يفعل الغواص يحبس أنفاسه فلا يصرح بشيء من همومه لأنه لو تحدث شخص في قاع البحر مات وسقط كالعشب في قاعه ، ولا يمكن عقد الأمل مع مثل هذا الشخص العديم الوفاء .. إن لم تتجنب البحر فنهايتك الغرق في خضمه ، وهو في اضطراب شوقاً للحبيب لذا تتلاطم أمواجه أحياناً ويهدر أحياناً ، فإذا كان لا يدرك بغية قلبه فلن تجد بغية قلبك كذلك لديه ، وما البحر إلا نبع من محيط عالمه فلم تقنع أنت بالتخلي عن وجهه ؟ المقالة العاشرة حكاية 1 الأبيات من 972 – 978 غاص رجل ذو بصيرة في بحر فقال : لم تبدو أزرق اللون أيها البحر ؟ ولم ترتدي لباس الحداد ؟ ولم تفور وتغلي ولست بالنار شبيهاً ؟ أجاب البحر على طيب القلب قائلاً : إنني مضطرب لفراق الحبيب ، كما أنني ضعيف الشأن ولست نداً له لذا نسجت لباس المأتم الأزرق حزناً عليه ، وجلست صادي الشفتين مشتت الفكر ، فقد جعلتني نار عشقه مضطرباً ، فإن أحظ بقطرة من ماء كوثره أعش إلى الأبد على أعتابه ، وإلا فأمثالي من العطشى كثيرون وهم في طريقه طوال الليل والنهار يموتون .. المقالة الحادية عشرة عذر البومة الأبيات من 979 – 993 جاءت البومة أمام الجمع كالمجنونة ، وقالت : لقد اخترت لنفسي سكنى الخرابات ، حيث ولدت في الخرابة عاجزة وأعيش فيها من الخمر محرومة ، فإن وجدت مئات الأماكن المعمورة جميلة فإنما أجدها مخالفة لطبعي وبالحلبة مملوءة ومن يرغب في مجالستي عليه بالمضي ثملاً نحو الخرابة ، إنني أتحمل الحياة الصعبة بالخرابة حيث يوجد الكنز دائماً بالخرابة ، فعشق كنزي طريقة الخرابات ولا طريق لكنزي إلا حيث الخرابات ، ومجافاتي الجميع تؤلمني ولكن بذلك أجد كنزي بلا طلسم ، فإن تطأ قدمي الكنز تدب الحياة مرة أخرى في قلبي الكسير ، ووقف العشق على السيمرغ خرافة لأن عشقه عمل كل مخرف ولن أكون بعشقه جديرة وإنما علي أن أعشق الكنز والخرابة .. قال لها الهدهد : يا من ثملت بعشق الكنز حتى لو سلمت بأنك وصلت إلى الكنز فأفني نفسك على رأس هذا الكنز ، ولكن سيفنى عمرك دون أن تحققي بغيتك ، فعشق الكنز وعشق الذهب ضرب من الكفر ، وآزري كل من يقيم من الذهب صنماً وعبادة الذهب دليل الكفر فلا تكوني من قوم السامري ، وكل قلب يصاب بالخلل من عشق الذهب ستمسخ صورته يوم القيامة . "" أضاف المحقق : * آزري : نسبة إلى آزر والد إبراهيم عليه السلام : « إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ، إني أراك وقومك في ضلال مبين » الأنعام ، آية : 74 . * السامري : من أضل قوم موسى عليه السلام : « قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ » طه ، آية : 85 . . . أهـ "" المقالة الحادية عشرة حكاية 1 الأبيات من 994 – 1000 امتلك أحد الجهال حقاً مملوءاً بالذهب ثم مات وخلف هذا الحق المملوء بالذهب ، وبعد عام رأى ابنه في المنام صورته على شكل فأر وعيناه تفيض دمعاً ، ثم دار حول المكان الذي أخفى فيه الذهب دوران الفأر ، فوجه ابنه إليه هذا السؤال : لم أتيت هنا على هذه الحال ؟ قال : لقد وضعت الذهب في هذا المكان ولا أعلم هل توصل إليه إنسان ؟ قال له الإبن : ولم اتخذت شكل الفأر آخر الأمر ؟ قال : كل قلب خفق بحب الذهب يكون يوم الحشر على صورة الفأر ، وتزيده الحسرة اضطراباً في كل لحظة ، وهكذا بدوت فأمعن النظر وخذ العبرة وتخل يا بني عن الذهب . المقالة الثانية عشرة عذر الصعوة الأبيات من 1001 – 1016 أقبلت الصعوة ضعيفة الجسد هزيلة الروح ، أقبلت كالنار لا يقر لها قرار ، قالت : جئت حائرة وأقبلت واهنة خائرة ، إنني كشعرة لا حول لي ولا قوة ومن شدة ضعفي لا أتمتع بمقدرة نملة ، إن كنت قد عدمت الريش والجناح فمتى أصل إلى مجال السيمرغ أيها العزيز ؟ وكيف يمثل الطائر العاجز أمامه ؟ فمحال أن تصل الصعوة إلى السيمرغ . إذا كان طالبوه كثيرين في الدنيا فلا يليق بمن مثلي أن يصل إليه ، وإذا كنت لا أستطيع وصاله فمن المحال أن أتمكن من قطع الطريق إليه ، وإذا وليت وجهي شطر أعتابه فعلي أن أبحث عن يوسف في البئر حيث افتقدت يوسفي في البئر ، وسأجده ثانية في هذا الزمان ، فإن أجد يوسفي في البئر أطر معه من الماء إلى السماء . قال لها الهدهد : يا من بملاحتك وحسنك قد صلت وجلت في مسكنتك ، أنا لا أهتم بحيلك وخدعك فمتى كنت حماراً أتأثر بخدعك ؟ فلا تخطي خطوة ولا تنطقي بحرف وأغلقي فمك فإن يحترق هؤلاء جميعاً فلتحترقي أنت أيضاً ، فإنت كنت يعقوب كما جاء في المثل فلن يردوا عليك يوسفك فكفي عن الحيل ولا تشعلي نار الغيرة دواماً حيث أصبح عشق يوسف على العالم حراماً . المقالة الثانية عشرة حكاية 1 الأبيات من 1017 – 1029 ما أن افترق يوسف عن أبيه حتى ابيضت عينا يعقوب لفراقه وتلاطمت أمواج الدماء في عينيه وظل اسم يوسف يتردد على لسانه ، فجاءه جبريل قائلاً : إن يرد اسم يوسف على لسانك مرة أخرى فسنمحو اسمك من قائمة الرسل والأنبياء ، وما أن جاءه الأمر من الحق في ذاك الزمان حتى كف عن ترديد اسم يوسف على اللسان ، ولكن على الرغم من امتناعه عن ترديد الاسم مما به من خشية إلا أن الاسم ظل في الروح مقيماً . وذات ليلة رأى يوسف في منامه فرغب في أن يدعوه إليه ، ولكن سرعان ما تذكر أمر الحق فلزم الصمت في لهفة واضطراب وعلى الرغم منه انطلقت زفرة تنم عن جزعه ، وما أن نهض من رقاده الهنيء حتى جاءه جبريل قائلاً : إن الله يقول ( ما معناه ) مع أنك لم تورد اسم يوسف على اللسان فإنك اطلقت زفرة في ذاك الزمان ، وأنت تعرف ما تنطوي عليه الزفرة لذا فقد نقضت في الحقيقة توبتك فأي جدوى ؟! هكذا تقضي المحبة على العقل بهذا التصرف ، فانظر ماذا يفعل العشق بنا .. المقالة الثالثة عشر ذكر الطير جميعاً الأبيات من 1030 – 1069 بعد ذلك توالت الطير واحداً واحداً ، تقدم أعذاراً واهية ، قال كل طائر عذراً يقطر جهلاً ، وما قال أحد عذراً لائقاً ، بل قال الكل هراء وهزلاً ولن أسرد عليك أعذارهم عذراً عذراً ، لأن الحديث يطول فالتمس لي عذراً ، ومن كان عذره واهياً أنى له الوصول إلى السيمرغ ؟ أما من يفضل السيمرغ على روحه فإنه يخاطر بالروح كالرجال من أجله ، ومن لا يملك في عشه ثلاثين حبة ، جاز له ألا يكون للسيمرغ رفيقاً ، لأنه لو عدمت حوصلتك الحبة ، فكيف تداوم الصوم مع السيمرغ أربعين يوماً ؟ وإن كنت قد ثملت من قطرة خمر واحدة فكيف تستطيع منادمة الأبطال في معاقرة الصهباء ؟ وإن كنت عاجزاً عن تحمل ذرة فكيف تستطيع أن تدرك وصال الشمس ؟ وإن كنت تغرق في قطرة فكيف تجتاز البحر من البداية إلى النهاية ؟ إن ما تبحث عنه ليس هذا الشيء وفعل كل قبيح ليس هذا الشيء . ما أن سمع جميع الطير هذه الحال حتى وجهوا جميعاً للهدهد هذا السؤال : يا من لك السبق في سلوك الطريق ويا من بلغ أوج العظمة والتوفيق ، نحن حفنة من الضعاف والعجزة قد عدمنا الريش والجناح والجسد والمقدرة ، أنى لنا أن نصل إلى السيمرغ ذي القدر الرفيع ؟ لو جاز أن وصل واحد منا لكان هذا هو الأمر البديع ، فأخبرنا ثانية أي صلة تربطنا به ؟ إذ لا يمكن التخبط بحثاً عن الأسرار ، فإن كانت هناك صلة بيننا وبينه تولدت الرغبة لدى كل منا للمسير صوبه ، إنه سليمان ونحن مجرد نمل مسكين ، فتمعن من أين هو ومن أين نحن؟ ، إذا كانت النملة أسيرة في قاع البئر فكيف تصل إلى محيط السيمرغ المرتفع ؟ وكيف يكون الملك قرين الشحاذ ؟ وكيف يكون هذا الأمر في مقدور أمثالنا ؟ هنا قال الهدهد : أيها الجهلة متى كان العشق مستساغاً من سيء الطوية ؟ أيها المساكين إلام هذا الجهل ؟ حقاً لا يستقيم العشق وسوء النية ، كل من له في طريق العشق عين مبصرة ، قد أقبل فرحاً وللروح ناثراً ، ولتعلم أنه عندما رفع السيمرغ النقاب ، بدا وجهه كالشمس مشرقاً ، وألقى بمئات الألوف من ظلاله على الأرض ، وهنا أدرك البصر ظلاً طاهراً ، وما أن نثر ظله على العالم ، حتى كانت تلك الطيور العديدة التي تبدو كل لحظة ، فصورة طير العالم جميعها ما هي إلا ظله ، فاعلم هذا أيها الجاهل .. اعلم هذا كله ، فإن علمت به في البداية ، اتصلت اتصالاً وثيقاً بتلك الحضرة ، وإن علمته فلتدرك الحقيقة ولتكن حذراً وإن أدركتها فلا تكن مفشياً سراً ، وكل من صار هكذا صار مستغرقاً ، فحاشى لله أن تقول أنا الحق ، ومع أنك صرت كما قلت أنا ولست الحق لكنك في الحق دائماً مستغرق ، وكيف يكون المستغرق حلولياً ؟ وكيف يكون هذا الكلام من شأن الفضولي ؟ فإن أدركت ظل من أنت فرغت من الكل سواء حييت أو مت .. وإن لم يظهر أي سيمرغ مطلقاً لما كان السيمرغ صاحب ظل مطلقاً ، وإذا كان السيمرغ خفياً دواماً لانعدم الظل من الدنيا دائماً ، وكل ما ظهر له ظل هنا كان نتيجة ظهور ذلك الشيء هناك أولاً ، فإن لم تكن لك عين مبصرة تدرك السيمرغ ، فلن يكون لك قلب كالمرآة المجلوة ، وإن لم يكن لأحد عين هذا الجمال فصبرنا أمام جماله ضرب من المحال ، ومع جماله الآخاذ كيف لا يمارس العشق معه وقد صنع مرآة من كمال لطفه ، هذه المرآة هي القلب فأمعن النظر إلى القلب ، ولكي ترى وجهه أمعن النظر إلى القلب .. المقالة الثالثة عشر حكاية 1 الأبيات من 1070 – 1102 كان هناك ملك وسيم غاية في الجمال وحسنه بلا مثيل في الدنيا ولا مثال ، وما الصبح الصادق إلا إشراقة من وجهه وما الروح القدسية إلا نفحة من طيب مسكه ، وملك العالم مصحف أسراره وغاية الحسن آية طلعته ، ولا أعلم هل تمكن شخص قط أن يجد نصيباً من جماله وبسببه غص العالم بالاضطراب وحبه فاق كل حد لدى الخلق . ذات ليلة ساق جواده الأسود خارج المدينة ، وأسدل برقعاً داكناً على وجهه ، فكان كل من يوجه نظره إلى هذا البرقع تفصل رأسه عن جسده دون ذنب ، ومن كان يورد اسمه على اللسان كان لسانه يقطع في ذلك الزمان ، وإذا فكر شخص في وصاله أصاب الفناء روحه وعقله ، وذات يوم مات ألف فرد بسبب عشقه فما أجمل هذا العشق وما أبهى هذا الأمر إذ ليس لإنسان أن يصبر على فراقه وليس لإنسان مقدرة على رؤيته ، فكل من رأى جماله عياناً أسلم الروح ومات متأوهاً ، فالموت في سبيل عشق ذلك الوجه الساحر أفضل من مائة عمر مديد ، لقد مات خلق عديدون على الدوام من هذا الطلب إذ لا يمكن الصبر معه ولا الصبر بدونه ، ويا للعجب لو قدر وتوفرت لشخص القدرة لحظة لظهر وجه السلطان له عياناً ، ولكن إذا انعدم الشخص القادر على رؤيته فما استطاع أحد محادثته ومرافقته ، ولما لم يظهر من الخلق من هو جدير به فقد مات الجميع وقلوبهم مفعمة بالآلام منه . في هذا الوقت أمر السلطان بإحضار مرآة حتى يستطيعوا النظر في تلك المرآة ، فشيدوا للسلطان قصراً جميلاً ووضعوا المرآة في مواجهته ، ثم صعد السلطان على سطح ذلك القصر ونظر في التو إلى المرآة ، وما أن أطل وجهه مشرقاً من المرآة حتى أدرك كل شخص منه علامة . إن ترغب في رؤية جمال الحبيب ، فاعلم أن القلب هو مرآة طلعته ، ليكن قلبك على كفك ثم انظر جماله ، ولتكن روحك مرآة له ثم انظر جلاله ، إن مليكك في قصر الجلال والقصر مضيء بشمس ذلك الجمال ، وللمليك طريق صوب كل قلب ولكن لا طريق للقلب الضال صوبه . انظر إلهك في قلبك وانظر العرش فيما هو كائن حولك ، وكل رداء قد بدا في الصحراء قد من ظل السيمرغ الحسن الرواء ، وإن بدت لك الثلاثون طائراً غاية في الجمال فإنك ترى بلا شك ظل السيمرغ بلا جدال ، وسواء أكان الكل أربعين طائراً أو ثلاثين فكل ما رأيت ما هو إلا ظل السيمرغ وظل السيمرغ لا ينفصل عنه ، أما إذا انفصل فليس من اللائق الحديث عنه ، وكلاهما متلازمان فابحث عنهما معاً ولكن اعبر الظل ثم ابحث عن السر ، وإن يبد لك فتح باب فسترى الشمس وسط الظلال ، ولكن إن تضل الطريق وسط الظل فأنى لك أن تدرك السيمرغ ؟ وإن ترى الظل يتلاشى في الشمس على الدوام فسترى أنك أنت الشمس والسلام . المقالة الثالثة عشر حكاية 2 الأبيات من 1103 – 1109 قيل عندما كان الإسكندر صاحب القبول يريد أن يرسل إلى مكان ما أي رسول ، كان يرتدي بنفسه وهو سلطان الدنيا لباس الرسل ويذهب متخفياً وكان ينطق بما لم يسمع به أحد ثم يقول : هكذا أمر الإسكندر ، وما علم أي شخص في كل العالم أن هذا الرسول هو اسكندر الروم ، ولما لم يكن قد أتيح لأي شخص منهم أن رأى الإسكندر لما صدقوه لو قال : أنا الإسكندر ، فإذا كان السلطان مجهولاً خارج دياره فلا تغتم فهكذا الحال أيضاً داخل دياره . المقالة الثالثة عشر حكاية 3 الأبيات من 1110 – 1132 عندما اصابت إياز نظرة سوء بالضرر بعد عن عين السلطان آخر الأمر ، وخر عاجزاً على فراش المرض وسقط أسير البلاء والألم والضعف ، "" أضاف المحقق : إياز : غلام محمود الغزنوي ، وكانت هذه العادة موجودة لدى سلاطين ذلك العصر ، حيث كان لكل سلطان غلام جميل يقربه إليه ، ويغدق عليه الكثير من النعم والعطايا . أهـ "" وما أن أخبر السلطان بمرضه حتى استدعى السلطان الحصيف خادماً له وقال : اذهب في التو صوب إياز وقل له : يا من احتجبت عن السلطان إنني أعيش في عزلة لأنني بعيد عنك وكم أتألم بسبب غمك وألمك ، وما دمت مريضاً فإنني دائم التفكير ولا أدري أأنت العليل أم أنا ؟ إن كنت بعيداً بجسدي عنك فإن روحي المشتاقة ترفرف حولك وهذا حسبي ، فيا من أصبحت روحي إليك مشتاقة إنني لست غائباً عنك دقيقة ، وما أكثر ما ارتكبته عين السوء من سوء إذ أصابت محبوباً مثلك بالسوء . قال هذا ثم أردف قائلاً : لتسرع في الطريق واذهب كالدخان مسرعاً ولتعد كالنار مستطيراً وحذار من التوقف في الطريق بل اذهب أسرع من الرعد وكن كالبرق ، فإن تتأخر في الطريق ساعة فسأجعل كلا العالمين يضيقان بك . أسرع الخادم ملهوفاً في الطريق حتى جاء إياز في سرعة الريح فوجد السلطان جالساً أمامه ، اضطرب عقله وتبدد فكره وأصابت الرجفة أطراف الخادم وكأن ألماً عضالاً قد دهمه فقال : كيف أستطيع المثول أمام السلطان إذ سيسفك دمي في هذا الزمان ، ثم أقسم قائلاً : إنني لم أتوقف لحظة في أي مكان كما لم أجلس في أي أوان ولا أعلم مطلقاً كيف استطاع السلطان أن يصل مبكراً عني إلى هذا المكان سواء يصدقني السلطان أم لا ، فإنني أكون مذنباً لو أنني قصرت في هذا الأمر . قال له السلطان : إنك لم تقصر في هذا الأمر ولكن كيف قطعت الطريق إليه ؟ أما أنا فلي طريق خفي صوبه إذ لا صبر لحظة دون رؤية وجهه ، وفي كل وقت أحضر إليه خفية من هذا الطريق حتى لا يعرف أحد أي شيء عن ذلك ، والطرق الخفية بيننا كثيرة كما أن الأسرار بين روحينا عديدة ، وإن أستفسر عنه من الخارج فإنني به عليم من الداخل ، وإن أخف سري عن الشيخ والشاب فإن روحي في ذهاب بيننا وإياب . المقالة الرابعة عشرة سؤال الطيور للهدهد في قطع الطريق الأبيات من 1133 – 1158 ما أن سمعت الطيور جميعاً الكلام ، حتى أدرك الكل الأسرار القديمة ، ووجد الجميع نسباً يربطهم بالسيمرغ ، فلا جرم أن تولدت لديهم الرغبة في السير ، ولذا عادوا جميعاً إلى الطريق ، عادوا متحابين وبدا بينهم الوفاق ، ثم تحدثوا طويلاً مع الهدهد إذ لم يكن بينهم من أعلم منه بالطريق ، سألوه : أيها المتفقه في الأمر ، كيف يتأتى لنا الإقبال على المسير ؟ إن الأمر جد عظيم ، فكيف يكون السلوك من الضعاف مقبولاً ؟ تكلم الهدهد الهادي في ذلك الزمان وكأنه عاشق لا يقيم للروح أي حسبان ، فقال : إن تقل بترك الروح تصبح عاشقاً سواء كنت زاهداً أو فاسقاً ، وإن يعاد قلبك روحك فانثر الروح يأتيك الطريق حتى نهايته ، الروح سد في الطريق فكن للروح ناثراً واطرح الحجاب بعد ذلك وأحسن النظر ، وإن يقل لك عن الإيمان تخل وإن يقل لك عن الروح تخل فانثر هذا وذاك ، وقل بترك الإيمان وكذا عن الروح تخل . إن يقل منكر إن هذا أمر منكر ، فقل : إن العشق أعلى مكانة من الإيمان والكفر ، وأي شأن للعشق مع الكفر والإيمان ؟ وأي شأن للعاشقين مع الجسد والروح ؟ إن العاشق يشعل النار في كل بيدر ويوضع المنشار على رأسه وهو لائذ بالصمت ، لابد للعشق من الألم والغصة ولابد للعشق من المشاكل والصعوبات ، فيا أيها الساقي إملأ الكأس بدم الكبد فإن عدمته فلتستعره من آلامنا إذ لابد للعشق من آلام تمزق الحجب ، فمزق حجاب الروح أحياناً وخطه أحياناً ، وذرة عشق تفوق جميع الآفاق ، وذرة ألم تفضل جميع العشاق ، والعشق لب الكائنات على الدوام ولكن لا يكون العشق تاماً بلا إيلام . كل من له قدم في العشق راسخة ، قد تخطى الكفر والإسلام معاً ، العشق يفتح لك باباً نحو الفقر ، والفقر يظهر لك طريقاً صوب الكفر ، وللعشق قرابة بكفرك ، وكفرك هو لب فقرك ، وإن ضاع منك الكفر والإيمان ، فمعنى هذا أن جسدك قد فنى وأن روحك قد فاضت ، بعد ذلك تكون خليقاً بهذا العمل ، إذ لابد لهذه الأسرار من رجل فسر في الطريق كالرجال ، ولا تخف وتخل عن الكفر والإيمان ولا تخف ، كثيراً ما يعتريك الخوف فتشجع وتخل عن عالم الأطفال وكن كأشجع الرجال أمام الأعمال ، فإن اعترضت طريقك فجأة مئات العقبات فلا خوف من التعثر في الطريق . حكاية الشيخ صنعان وعقده الزنار لعشقه الفتاة المسيحية الأبيات من 1159 – 1564 كان الشيخ صنعان شيخ زمانه كما كان في الكمال يفوق ما سأذكره عنه ، اعتكف هذا الشيخ في الحرم خمسين عاماً ، ومعه أربعمائة مريد من أصحاب الكمال ، وما كان أحد من مريديه ويا للعجب يستريح من الرياضة ليلاً أو نهاراً ، واجتمع لدى الشيخ العلم والعمل معاً كما أمسك بزمام الكشف والسر معاً ، وحج زهاء خمسين حجة وقضى عمراً مديداً في أداء العمرة ، وصومه وصلاته دائبان بلا توقف ، وما توانى عن سنة مطلقاً ، ومن سبقوه من أئمة ، مثلوا بين يديه اعترافاً بسبقه ، وقد استطاع أن يقد الشعرة ، حيث كان عالي المنزلة في المقامات والكرامات ، وكل من شكا إليه ضعفاً أو علة ، وجد من أنفاسه عافية وصحة ، وكان للجميع قدوة في مجال العلم سواء في القبض أو البسط .   ومع إدراكه أنه قدوة الأصحاب ، فقد رأى نفسه ليالي متوالية على هذه الحال ، رأى أنه رحل عن الحرم ، واستقر ببلاد الروم ، ورأى أنه للأصنام دائم السجود .   وذات ليلة تيقظ عند رؤية هذا الحلم وقال : واحسرتاه في هذا الزمان سقط يوسف الموفق في البئر ، واعترضت عقبة كئود طريقه ، فلا أعلم متى أحرر روحي من هذا الغم ، وقد قلت بترك الروح عندما يكتمل إيماني ، ولكن لا وجود لإنسان على ظهر الأرض لم تعترض طريقه عقبة كهذه فإن يتغلب على عقبته ينكشف الطريق أمامه إلى نهايته ، وإذا ظل يقف خلف تلك العقبة فعاقبته أن يصبح طريقه بلا نهاية .   آخر الأمر ، قال المتبحر في العلم لمريديه : الآن وجب علينا العمل إذ يجب الإسراع إلى بلاد الروم لندرك تفسير هذا المقام ، سافر معه أربعمائة مريد معتبر مقتدين به في السفر ،  ساروا من الكعبة إلى أقصى بلاد الروم ثم طوفوا بجميع أرجائها ، وفجأة وقعت عيونهم على بناء شاهق ، وقد جلست على سطحه فتاة .   كانت الفتاة المسيحية ذات روح ملائكية ، بل كأنها نفحة من روح الله ، أشرقت كالشمس في فلك الحسن ، واستقرت في برج الجمال المنزه عن النقصان ، فعلا الاصفرار وجه الشمس كمداً وحسداً لكثرة العشاق بمحراب تلك الفتاة .   كل قلب ارتبط بغدائر تلك الفاتنة ، عقد الزنار لجمال غدائرها ، ومن وقفت روحه على شفة تلك المعشوقة ، سار على رأسه في الطريق لا على قدميه ،  وعندما تعطرت ريح الصبا برائحة غدائرها غزت التجاعيد وجه الروم كالعبيد بسببها ،  عيناها فتنة للعشاق وحاجباها في الحسن كالطاق وإذا ألقت نظرة على أرواح العشاق ، سلبتهم الأرواح بغمزة من حاجبيها ، وانحنى حاجبها على عين في طلعة البدر ،  واستقر وسطها إنسان العين وما أكثر ما فعل إنسان العين حيث صاد أرواح آلاف الآدميين ، أما وجهها فيبدو تحت غدائرها اللامعة كأنه شرارة وهاجة متأججة ، وكم أظمأ سراب ثغرها العالمين ، وحول نرجستها الناعسة أشرعت الخناجر فمن مضى ظامئاً إلى عينها أصيب قلبه بخناجر أهدابها ، وقد انعدم الطريق إلى فمها ، حتى أن كل من تكلم عنه ثبت أنه عديم الخبرة بهذا الفم ، إن فمها شبيه بسم الخياط ولها زنار كالغديرة حول وسطها ولها نونة فضية في ذقنها ،  وكلامها ككلمات عيسى يعيد الروح لأصحابها وكم سقط العديدون كيوسف غرقى دمائهم في بئر نونتها ، وقد وضعت في شعرها جوهرة لها بريق الشمس ، أما شعرها الأسود فبرقع انسدل على وجهها .   ما أن رفعت النقاب بنت النصارى حتى اشتعلت أوصال الشيخ ناراً ، وعندما بدا وجهها من تحت النقاب ، عقد الشيخ مائة زنار من شعرها ، وكلما تطلع الشيخ أمامه كلما جعل عشق الفتاة المسيحية شغله ، حتى فقد قلبه وسقط على الأرض وبدا وكأنه وسط نار متأججة .   وأخيراً ضاع منه كل ما كان يملكه وأفعم قلبه بالدخان من نار عشقه وهكذا استولى عشق الفتاة على قلبه كما سفك كفر غدائرها دم إيمانه ، فتخلى الشيخ عن الإيمان واختار المسيحية ، كما باع العافية واشترى المسكنة ، وسيطر العشق على قلبه وروحه حتى سئم قلبه ومل روحه ، ثم قال عندما فقد دينه : أين القلب ؟ إن عشق الفتاة المسيحية أمر مشكل صعب .   وعندما رآه مريدوه متأوهاً أدركوا أن الواقعة قد وقعت وتحيروا جميعاً في أمره وتملكهم الاضطراب والهم بسببه فأكثروا في نصحه ولكن دون جدوى ، فلما وقع ما هو واقع لم يكن له دافع ، وكل من نصحه لم يطعه ، وذلك لأن ألمه لا علاج له ،  وكيف يطيع العاشق الولهان الأمر ؟ والداء العضال كيف يستجيب لأي دواء ؟ هكذا قضى الشيخ نهاره الطويل حتى المساء ، شاخصاً بصره حيرة وفاغراً فاه حسرة ، وكل مصباح أضاء تلك الليلة ، استمد الشرارة من قلب ذلك الشيخ المهموم ، وقد تضاعف عشقه مائة مرة تلك الليلة ، فلا جرم إن فقد نفسه مرة واحدة ، ونفض قلبه من نفسه ومن العالم ، كما نثر التراب على رأسه ، وظل في حزن دائم ، وما كان ينام أو يقر له قرار لحظة ، وارتجفت أوصاله من العشق وكان يتأوه ويقول : يا رب ألا لليلتي من نهار ؟  ألا لشمع الفلك من اشتعال ؟ قد قضيت الليالي الطوال في رياضة ، وما رأى أحد قط ليالي مثلها ، ومن الاحتراق كالشمع فقدت كل قوة ، وما عاد بكبدي من ماء غير دماء القلب ، وأصبحت كالشمعة أقتل بالإشعال والإحراق ، لذا أحرق بالليل وأقتل بالنهار ، لقد قضيت الليلة أقاسي أهوال القتال ، وغرقت من رأسي إلى قدمي في خضم الدماء ، وفي كل لحظة تعرض لي مئات الأهوال ولا أعلم متى يشرق صبحي ؟ وكل من منى بمثل تلك الليلة ذات مرة أصبح شغله الشاغل في ليله ونهاره إحراق كبده ، وكثيراً ما قضيت النهار والليل في لوعة ، ولكن تلك الليلة كأنها يوم هلاكي ، بل كأنني كنت قد خلقت ذات يوم من أجل تلك الليلة ، فيا إلهي ألا لليلتي هذه من نهار ؟ ألا لشمع الفلك من اشتعال ؟ يا رب ، أهذه سمات هذه الليلة ؟ أو أن الليلة يوم القيامة ؟ أو أن شمع الفلك قد انطفأ بزفرتي ؟ أو أن حبيبي توارى من الخجل خلف الحجب ؟ الليل طويل حالك الظلمة كشعرها ، ولولا ذلك لسلكت الطريق مائة مرة إلى محلتها ، إنني احترق الليلة من جوى العشق ولم تعد لي طاقة لتحمل إيلام العشق ، أين العمر لأصف ذلتي أو لأتأوه بكامل إرادتي ؟ أين الصبر حتى أكف عن المسير أو أن أعاقر الكئوس كالرجال ؟ وأين الحظ حتى تصحو عزيمتي أو أن تعينني في عشقها ؟ وأين العقل حتى يكون العلم قدوتي أو بحيلة العقل أمثل أمامها ؟ وأين اليد حتى أضع تراب الطريق على مفرقي أو أن أرفع رأسي من تحت التراب والدم ؟ وأين القدم حتى أعاود البحث عن محلة الحبيب ؟ وأين العين حتى أعاود رؤية وجه الحبيب ؟ وأين الرفيق حتى يساعدني في غمي ؟ وأين الصديق حتى يأخذ لحظة بيدي ؟  وأين القوة حتى أستطيع البكاء والنواح ؟ وأين الفطنة حتى أتصرف بحكمة ؟ ذهب العقل وانقضى الصبر وولى الحبيب فأي عشق هذا ؟ وأي ألم ؟ وأي فعل ؟ رقت قلوب الجميع لحاله واجتمعوا تلك الليلة على أثر نواحه ، وقال له أحد جلسائه : يا شيخ الشيوخ انهض واغتسل من هذا الوسواس . قال الشيخ : أيها الجاهل ، لقد اغتسلت الليلة بدماء كبدي مائة مرة . وقال له آخر : أين مسبحتك ؟ وكيف يستقيم بلا تسبيح أمرك ؟ فقال الشيخ : لقد طرحت المسبحة من يدي حتى أستطيع عقد الزنار حول وسطي. وقال آخر : أيها الشيخ المسن لتسارع بالتوبة إن كان قد حدث خطأ . فقال الشيخ : لقد تبت عن الناموس والحال حتى أتخلص من المشيخة ومن القيل والقال . وقال آخر : أيها العالم بالأسرار انهض واجمعنا في الصلاة . فقال الشيخ : أين محراب تلك الفاتنة حتى لا أشغل بغير الصلاة ؟ وقال آخر : إلى متى هذا الجدل انهض واسجد لله في الخلوة . فقال الشيخ : إذا كانت حبيبتي هنا لطاب لي السجود أمامها . وقال آخر : ألا تندم على هذه الفعلة ؟ ألم يؤلمك ضياع إسلامك في لحظة ؟ فقال الشيخ : لا يمكن أن يندم إنسان أكثر من ذلك إذ لم أكن عاشقاً قبل ذلك . وقال آخر : لقد قطع الشيطان عليك طريقك وألقى فجأة بسهام الخذلان على قلبك. فقال الشيخ : لتقل للشيطان الذي قطع الطريق علينا ، اقطع فما أجمله من قطع . وقال له آخر : إن كل خبير يقول : كيف ضل هذا الشيخ القدير ؟ فقال الشيخ : لقد فرغت تماماً من الاسم والسمعة ، وحطمت قارورة النفاق بحجر. وقال له آخر : إن الأصدقاء السابقين قد تألموا وانفطرت قلوبهم أجمعين . فقال الشيخ : إن كانت الفتاة المسيحية مسرورة ، فالقلب غافل عن ألم هذا وذاك . وقال له آخر : لتوافق الأصدقاء حتى نعود الليلة صوب الكعبة مرة أخرى . فقال الشيخ : إذا لم توجد الكعبة فالدير موجود ، وقد كنت مفيقاً في الكعبة ولكني ثمل في الدير . وقال له آخر : كن عزوماً على قطع الطريق في تلك الآونة ثم اجلس في الحرم واطلب الصفح والمعذرة . فقال الشيخ : لقد وضعت على أعتاب المعشوقة رأسي طالباً الصفح فكف يدك عني . وقال له آخر : إن جهنم في الطريق مقيمة وليس رجل جهنم من يكون على علم وبصيرة . فقال الشيخ : لو قدر وأصبحت جهنم في الطريق رفيقتي فإن سبعاً منها تحترق بزفرتي . وقال له آخر : أملاً في الجنة عد وتب عن هذه الفعلة القبيحة وعد . فقال الشيخ : إن لي حبيباً وجهه كالجنة ، فإن كان لابد لي من جنة فهذه جنتي . وقال له آخر : لتخجل من الحق ولتعظم الله تعالى بصدق . فقال الشيخ : إن كان الله حباني بتلك النار ، فلن أستطيع التخلي عنها بمحض إرادتي . وقال له آخر : لتمض ولتلزم الصمت وعد للإيمان ثانية وبالإيمان تمسك . فقال الشيخ : لا تطلب مني أنا الحائر غير الكفر ولا تطلب الإيمان ممن أصبح متردياً في الكفر . عندما لم يجد القول معه أي نفع ، لزم الجميع الصمت وماجت قلوبهم وهاجت ، وغصت بالدماء ، حتى طفحت الدماء خارج هذه القلوب ، ولما حمل تركي النهار ترسه وقطع رأس زنجي الليل بسيفه ، وأصبحت الدنيا في اليوم التالي زاخرة بالغرور ، وشبيهة بالبحر الغريق في النور النابع من عين الشمس ، جعل الشيخ محلة الحبيب خلوته ، وأصبح شغله الشاغل مع كلاب محلتها واعتكف على تراب طريقها حتى أصبح كشعرة تنسدل على بدر وجهها ، وظل قرابة شهر صباح مساء في محلتها صابراً ليحظى برؤية شمس وجهها ، ولكن دهمه المرض في النهاية دون الظفر بالحبيب ، فما أطل أحد برأسه من تلك الأعتاب ، فكان مرقده تراب محلتها ووسادته عتبة بابها . وعندما لم يتحول الشيخ عن محلتها أدركت الفتاة ما حل بعاشقها ،  ولكن الفتاة تظاهرت بالعجم وقالت : أيها الشيخ لم ألم بك الاضطراب ؟ ويا أيها الثمل بشراب الكفر متى كان الزهاد يقيمون بمحلة النصارى ؟ إذا كان الشيخ يلزم نفسه بغدائري فإنها تصيبه بالجنون كل لحظة .   فأجابها الشيخ : إن كنت ترين ضعفي فذلك لأنك سلبت قلبي فإما أن تردي علي قلبي وإما أن توافقيني حبي ، فحققي بغيتي وكفي عن التدلل وتخلي عن التكبر والدلال ، فأنا عاشق مسن غريب فاشمليني بالنظر ، ولما كان عشقي بعيداً عن الهزل يا معشوقتي فإما أن تقطعي رأسي وإما أن تكوني على وفاق معي ، إنني أبذل الروح فداء لك إذا أمرت بذلك ولكن إذا شئت رددت إلي روحي بكلمة من شفتك ، فيا من شفتك وغدائرك هنائي وشقوتي إن وجهك الجميل قصدي وبغيتي ، فلا تضرمي النار في جسدي من وهج غدائرك ولا تسكريني بالثملة عينيك .   بسببك اضطرم قلبي ناراً واشتعلت عيني حرقة ، وبسببك فقدت المعين والصبر والرفعة ، وقد بعت الروح والدنيا بدونك ، ولكن انظري فقد خطت الكيس بسبب عشقك ، إن الدمع ينهمر سيلاً من عيني ، وهذا ما انتظره من عيني إذا عدمتك ، فما أن رأت العين وجهك ، حتى ظل القلب في الغم ثم ضاع مني القلب وظلت العين في مأتم ، وما رأته عيني لم يره أحد قط ، وما قاساه قلبي من ذا الذي قاساه ؟ لقد فنى القلب وما بقي منه إلا الدم ، فإلى متى أظل أطعم دم القلب إذا كان القلب قد فني ؟ فلا تثقلي على روح هذا المسكين أكثر من هذا ، ولا تقضي على آمالي وتركلينني هكذا .   لقد مضى عمري في الانتظار فربما أجد الوصال في هذا النهار ، في كل ليلة كنت أقيد روحي ، ثم أضحي بها على باب محلتك فأسلم الروح ووجهي مستقر على أديم بابك ، بل أسلم الروح رخيصة كالتراب من أجلك ، وما أكثر ما بكيت على بابك فافتحي الباب وتلطفي معي لحظة واحدة ، أنت الشمس فكيف ابتعد عنك ؟  إنني ظلك فكيف أصبر عنك ؟ ومع أنني كالظل من الاضطراب فإنني سأقفز من كوتك وكأنني الشمس وسأطوي تحت جناحي الأفلاك السبعة إذا ما أشرقت برأسك على هذا المضطرب .   فقالت الفتاة : يا من هو خرف من الشيخوخة ، عليك بالتعطر والتكفن والخجل ، إن كانت أنفاسك قد بردت فلا تتغزل ، لقد أصبحت شيخاً فلا تقامر بالروح ، الأفضل لك الآن عقد العزم على الموت من أن تعزم على قصدي ، إن كنت في شيخوختك في حاجة إلى رغيف ، فلن تستطيع تحمل تباريح العشق ، فامض ، وكيف تستطيع أن تحظى بالملك وأنت لا تستطيع النضال من أجل ما يقيم أودك ؟   قال لها الشيخ : مهما تكثرين من القول ، فلن يكون لي سوى غم عشقك من عمل ، ما الفرق إذا كان العاشق كهلاً أو شاباً ؟ فللعشق تأثيره على كل قلب .   فقالت الفتاة : إن كنت صادقاً في هذا المرام فلتطهر يدك وتغسلها من الإسلام ، فمن يعتنق مذهباً غير مذهب المعشوقة يكن عشقه محصوراً في اللون والرائحة .   قال الشيخ : سأفعل كل ما تقولين وبروحي سأطيع كل ما تأمرين ، لقد أصبحت عبدك يا فضية القوام فألقي بحلقة من غدائرك في حلقومي .. فقالت الفتاة : إن كنت رجلاً خليقاً بالأعمال ، فعليك أن تفعل بكل قبول أربعة من الأعمال : اسجد أمام الصنم ، وأحرق القرآن ، واشرب الخمر ، وأغلق عينيك عن الإيمان .   أجاب الشيخ : لقد قبلت الخمر ، أما الثلاثة الأخرى فلا حيلة لي بها ، إنني أستطيع احتساء الخمر على شرف جمالك ، ولكن ليس في مقدوري القيام بالأمور الثلاثة الأخرى . فقالت الفتاة : انهض وتقدم واحتس الخمر ، فعندما تشرب الخمر ستتقدم نشوان فرحاً .. وأخيراً أخذوا الشيخ إلى دير المجوس ، فزاد اضطراب المريدين وتملكهم الجنون ، أما الشيخ فقد رأى مجلساً غاية في النضارة ، ورأى النديم غاية في الحسن ، وسلبت نار العشق صفاء عمله كما سلبت غدائر الفتاة المسيحية عمره ولم تتبق له أي ذرة من عقله ولبه ومع ذلك لاذ بصمته ، وظل يأخذ الكأس من يد معشوقته ويشرب حتى قطع قلبه عن كل أمره ، وما أن اجتمع الشراب وعشق المحبوبة في بقعة واحدة حتى تضاعف عشقه لذلك البدر مائة ألف مرة ، فما أن رأى الشيخ ذات الثغر المليح ، ورأى الياقوت في حقها المتبسم حتى أضرم العشق النار في روحه وسالت دموعه كسيل دموي صوب أهدابه ، ثم طلب كأساً أخرى وشربها ووضع في أذنه حلقة من غدائرها ..   لقد كان الشيخ يحفظ أكثر من مائة مصنف في الدين ، كما كان أستاذاً في تحفيظ القرآن ، ولكن ما أن وصلت الخمر إلى أحشائه حتى تخلت عنه دعوته وغزاه التباهي بالباطل وكل ما أدركه ضاع من ذاكرته وما أن أقبلت الخمر حتى ولى كالريح عقله ، كما غسلت من لوح ضميره خمر المعاني التي كانت له من قبل ، وظل عشق الفتاة مشكلاً بالنسبة له مع أنه تطهر من كل ما عداه ،  ثمل الشيخ وغلبه عشقه وأصبح كالبحر وقد غصت بالاضطراب روحه ، ثم رأى المعشوقة ثملة تمسك بالكأس في يدها فأسرع الشيخ صوبها ، وقد لعبت الخمر بقلبه وعقله فطلب من الفتاة أن تقبله ..   فقالت له الفتاة : يا من لست خليقاً بأعمال الرجال ، إنك مدع في العشق ولست خبيراً بالمعاني ، إن العافية لا تتفق مع العشق بل الكفر خليق بالعشق ، فإن تكن لك قدم راسخة في العشق فإنك تدين بمذهب هذه الضفيرة المتعددة الطيات .. فضع قدمك في الكفر كما فعلت ضفيرتي حتى لا يكون العشق أمراً ينم عن حماقة فإن تقتد بضفيرتي ، جاز لك أن تعانقني في تلك اللحظة ، أما إن كنت لا تقبل الاقتداء الآن ، فانهض وارحل فهذه عصاك وذاك رداؤك ..   تحير الشيخ العاشق حيث فقد زمام نفسه وأسلم قلبه من الغفلة إلى قضائه وقدره ، وقد كان قبل أن يغزو رأسه السكر لا يفرغ لحظة من إدراك سر الوجود ، والآن وقد أصبح الشيخ عاشقاً ثملاً فقد فقد السيطرة على نفسه وكل ما كان في حوزته وما عاد يفيق إلى نفسه وافتضح أمره ، وما عاد يخشى أحداً ودان بالمسيحية ، وأحدثت الخمر المعتقة عظيم أثرها فيه حيث أخالت الشيخ كالفرجار اضطراباً ، وقد توفر للشيخ العشق الفتي وما عتق من الخمر كما مثلت أمامه معشوقته فكيف يقدر على الصبر ؟   أخيراً أصبح الشيخ من العشق مفتوناً ثملاً وقد غاب عن وعيه حيث ملك العشق عليه روحه ، وقال : لقد عدمت القدرة يا قمرية الوجه فتكلمي ماذا تريدين مني أنا الوله ؟ إن كنت مفيقاً ما عبدت الصنم ولكنني وقد ثملت فبإمكاني تمزيق المصحف على أعتاب الصنم ..   قالت الفتاة : الآن أصبحت رجلي فاهنأ بالنوم لأنك على وفاق معي ، فقد كنت قبل الآن غير ناضج في مجال العشق فاهنأ نفساً حيث نضجت والسلام .. ما أن وصل الخبر إلى النصارى بأن شيخاً لطريقهم قد اختار ، حتى سارعوا بحمل الشيخ ثملاً إلى الدير ، وأشاروا عليه بعقد الزنار ، وما أن أصبح الشيخ متحلقاً بالزنار حتى انهمك وأحرق الخرقة بالنار ، وتحرر قلبه من دينه ، ولم يعد يتذكر شيئاً عن الكعبة والمشيخة ، وبعد سنين عدة من الإيمان المتين إذا به ينفض يده مرة واحدة من الدين ، وقال : إن الخذلان قد استهدفني أنا المسكين ، وجعل كل همي عشق الفتاة المسيحية فكل ما تأمرني به أمتثل له ، وسأفعل أسوأ مما فعلت ، أيام الصحو ما عبدت الصنم ولكن ما أن ثملت حتى عبدت الصنم ، فما أكثر من باعوا دينهم بفعل الخمر ، وأم الخبائث تفعل هذا بلا شك ، ثم قال : أيتها المعشوقة ، ماذا بعد ؟ كل ما قلته فعلته فماذا بعد ؟ لقد شربت الخمر ، وعبدت الصنم بفعل عشقك ، وما رأى أحد قط ما رأيته بسبب عشقك ، من ذا أصبح مفتوناً بالعشق مثلي ؟ وأي شيخ افتضح أمره مثلي ؟ عدت أدراجي خمسين عاماً ، فكانت أمواج بحر الأسرار تتلاطم في قلبي ، ثم قفزت ذرة عشق من كمينها فجأة ، فرفعتنا على رأس اللوح الأول ، وقد فعل العشق أكثر من هذا وما زال يفعل ، وأحال الخرقة ناراً وما زال يعمل ، العقل الحصيف قارئ أبجد العشق ، أما العشق فهو مدرك أسرار الغيب ، لقد حدث كل ما حدث ، فتكلمي ولو قليلاً ، ومتى تتحدين معي ؟ إذا كان بناء عشقي راسخ الأساس فكل ما فعلته كان أملاً في الوصل ، والوصل واجب وكذا إدراك الصحبة ، فما أكثر ما أحترق عندما أجد نفسي في وحدة .   قالت الفتاة : أيها الشيخ الأسير ، إن صداقي كبير وأنت جد فقير ، يلزمني أيها الجاهل ذهب وفضة ، فكيف يستقيم أمرك وأنت عديم الفضة ؟ فإن كنت لا تملك ذهباً ، فالو رأسك ، وامض ، وخذ ما تنفقه مني أيها الشيخ ، وامض ، امض حثيثاً كالشمس وسر وحدك والتزم الصبر والشجاعة وكن رجلاً..   قال الشيخ : يا سرورية القد وفضية الصدر ، إنك تحملين عهداً أكيداً على رأسك ، وليس لي سواك أيتها الجميلة الطلعة ، فكفي أخيراً عن الكلام بهذه الكيفية ، إنني في كل لحظة أتخلى عن شيء وألقي رأسي في أي معترك وتحملت كل شيء من أجلك وصنعت كل ما دار بفكرك، وفي طريق عشقك كل ما كان اندثر كما ولى الكفر والإسلام وكذا النفع والضرر ، فإلام لا أستريح من الانتظار وأنت لم يقر لك معي أي قرار ؟ لقد تحول عني جميع الأصحاب وخاصموا روحي المفعمة بالاضطراب ، هكذا أنت وهكذا هم ، فماذا أصنع ؟ لقد فنى القلب وكذا الروح فماذا أصنع ؟ وإنني أفضل يا مسيحية المذهب أن أكون معك في النار على أن أكون بدونك في الجنة .   في النهاية ، ما أن أصبح الشيخ رجلها حتى احترق قلب ذلك البدر تأثراً بآلامه ، وقالت : إن صداقي أيها الهائم هو أن ترعى لي الخنازير عاماً بالتمام ، وما أن ينقضي العام ونحن معاً ، فإننا نقضي العمر حلوه ومره معاً .   لم يخالف الشيخ أمر الحبيب ، لأن من يعصى الأوامر عادة لا يعصى أمراً للحبيب ، فذهب شيخ الكعبة ومرشد الكبار إلى رعاية الخنازير ليقضي العام بكل اختيار .   في قرارة كل شخص مائة خنزير ، فإما أن يسفك دم الخنزير أو أن يعقد الزنار ، وهكذا تظن يا عديم المروءة ، بأن هذا الخطر قد أصاب الشيخ وحده ، إن هذا الخطر كامن في قرارة كل نفر ولكنه لا يظهر إلا إذا بدأ في السفر ، فإن لم تكن حذراً من نفسك الشبيهة بالخنزير ، فأنت جد معذور لأنك لست رجلاً لائقاً بالمسير ، فإن تضع قدمك في الطريق يا خليقاً بالأعمال فسترى العديد من الأصنام ومن الخنازير ، فلتقتل الخنزير ولتحرق الصنم في بيداء العشق ، وإلا فكن كهذا الشيخ ذليلاً في مضمار العشق .   في النهاية عندما اعتنق الشيخ المسيحية ، عمت بلاد الروم جميعها الفرحة ، أما جميع رفاقه فكانوا في ضيق وشدة وأصيبوا بالوهن وسوء الطالع والحيرة ، وما أن رأوا ذلك الأسر الذي أحاط به حتى تحولوا عن معاونته ، هربوا جميعاً لما ألم به من شؤم ووضعوا التراب على رؤوسهم لما أصابه من غم ، ثم أسرع رفيق من بين المريدين صوب الشيخ قائلاً له : يا من ألم بك الوهن ، سنرجع الليلة إلى الكعبة قافلين فبم تأمر ؟ أيجب إذاعة السر ؟ إما أن نتخذ المسيحية مثلك ديناً ونلحق المعرة بمذهبنا ، وإما أن نردك عن هذا الطريق مع أننا عدمنا الحيلة والوسيلة ، ولا يروق لنا أن تكون وحيداً هكذا ، لذا سنعقد الزنار مثلك هكذا ، ولكن إن نضعف عن رؤيتك على هذه الحال ، فسنسارع بالهرب بدونك من هذا المكان ، ثم نجلس معتكفين بالكعبة حتى لا نرى ما نراه في هذه اللحظة . قال الشيخ : إن روحي غاصة بالآلام والعلل ، فسارعوا إلى أي مكان ترغبون في التو والحال ، وما دمت على قيد الحياة ، فحسبي أن يكون الدير مقري وكذا حسبي تلك الفتاة المسيحية التي تجدد روحي ، إنكم تدركون هل تحررتم أم لا ، وذلك لأنكم لم تسقطوا سقطتي، فلو سقطت هذه السقطه لكنت رفيقي على الدوام في هذا الغم ، عودوا ثانية أيها الأعزاء فلا أعلم ماذا سيحدث أيضاً ، وأن تسألوا عني قولوا صدقاً ،  فأين من دارت رأسه ممن زلت قدمه؟   هكذا غصت عيناه بالدم وفمه بالسم ، وكأنه قد سقط في فم تنين القهر ، ولا يرضى أي كافر في العالم عما فعله ذلك الشيخ قضاء وقدراً ، فما أن أظهروا له وجه الفتاة المسيحية حتى لم يعد يطيق العقل والدين والمشيخة ، وما أن ألقت غدائرها كالحلقة في حلقه حتى لاكت ألسن الخلق جميعاً سيرته ، وأخيراً قال : " إن يقدم أحد على توبيخي ، فقل ، ما أكثر من سقطوا في الطريق سقطتي ، ففي مثل هذا الطريق الطويل لا أبقيت يا إلهي من يأمن الخوف والخطر " ، قال هذا وأشاح بوجهه عن الرفاق ، ثم أسرع لرعاية الخنازير .   كم بكاه الرفاق لما ألم به من هموم وأحزان وكانوا يبكونه في كل زمان ، وفي النهاية قفلوا عائدين إلى الكعبة وظلت أجسادهم في هزال وأرواحهم في حرقة ، وأما شيخهم فقد ظل وحيداً في بلاد الروم ، وأسلم دينه للريح ، وعكف على المسيحية ، ومن الخجل ظلوا جميعاً في حيرة واختفى كل فرد منهم في زاوية .   وكان للشيخ رفيق حصيف يقيم بالكعبة ، وقد تخلى بعظيم إرادته عن كل العلائق ، وكان غاية في رجاحة العقل ، كما كان للطريق هادياً ، وما كان لأي شيخ علم وبصيرة أفضل مما له ، وعندما سافر الشيخ من الكعبة لم يكن هذا المريد موجوداً بها ، وعندما عاد إلى المكان ، وجد سراي الخلوة تخلو من شيخه ، فسأل المريدين عن حال الشيخ ، فأعادوا عليه جميع أحوال الشيخ ، ثم قالوا : كل ما أصابه كان بفعل القضاء ، وما حدث له بتأثير القدر ، لقد ربط غديرة الفتاة المسيحية بشعرة منه ، وأغلق الطريق على الإيمان من مائة جهة ، إنه يهيم الآن عشقاً بما لها من طرة وحال ، وقد تمزقت الخرقة كما أصبح حاله محالاً في محال ، لقد تخلى عن كل شيء امتثالاً لأوامرها حتى أنه يعمل الآن في رعاية خنازيرها ، وفي هذا الأوان جعل السيد المهموم المسبحة ذات المائة حبة زناراً ، وهذا الشيخ مع أنه ضحى بروحه في طريق الدين إلا أنه لا يستطيع الآن إدراك كفره لتمكنه منه . ما أن سمع المريد تلك الواقعة ، حتى اربد وجهه وانهمر في البكاء بحرقة ، وقال للمريدين : أيها الفسقة الفجرة يا من لا تشبهون في الوفاء الرجال أو النسوة ، إن الرفيق الحق واحد بين مائة ألف صديق وفي مثل هذا اليوم يظهر أثر هذا الرفيق ، فإن كنتم رفاق شيخكم فلم لم تبذلوا له عونكم ؟ فليصبكم الله بالخجل ، أهذا آخر الرفقة ؟ أهذا هو الإنصاف والمحبة ؟ عندما وضع ذلك الشيخ يده على الزنار كان يجب على الجميع عقد الزنار ، ولم يكن من الواجب الإفلات من جانبه عمداً ، بل كان واجب الجميع أن يكونوا نصارى ، فليست هذه هي الصحبة والوفاق بل ما فعلتموه كان عين النفاق ، فمن كان مخلصاً للصديق عليه أن يحافظ على صداقته حتى ولو أصبح كافراً ، ففي وقت الشدة يعرف الصديق ، أما في وقت السعادة فللإنسان ألف صديق ، ولكن عندما سقط الشيخ في فم التمساح ، هرب الجميع خوفاً من المعرة ، إن للعشق أساساً من سوء السمعة ، وعديم التجربة من ينكر هذا .   قال الجميع : لقد قلنا له كل ما قلته مرات ومرات بل قلنا أكثر منه ، وعزمنا على أن نظل جميعاً معه لنقضي العمر نشاركه فرحه وغمه ، ونبيع الزهد ونشتري الفضيحة كما نطرح ديننا جانباً ونختار المسيحية ، ولكن رأي شيخنا المجرب أن نبتعد عنه كلية فعندما لم يجد من صحبتنا أي نفع له سارع بإبعادنا عنه ، فرجعنا جميعاً امتثالاً لأمره ، وها قد ذكرنا القصة ولم نخف شيئاً من سره .   بعد ذلك قال للأصحاب ذلك المريد ، أما كان لعملكم من مزيد ؟ لا مكان لكم سوى أعتاب الحق ، فكان الواجب أن تكونوا في حضور دواماً ، كما كان الواجب أن يتسابق كل واحد منكم في التضرع إلى بارئكم ، فما أن يراكم الحق لا يقر لكم قرار فسرعان ما يرد عليكم شيخكم بلا انتظار ، فإن كنتم قد تحررتم من شيخكم فلم رجعتم عن باب خالقكم ؟   ما أن سمع الجميع القول ، حتى طأطأ الجميع الرؤوس من العجز ، فقال أحدهم : أي فائدة من الخجل الآن لقد وقعت الواقعة ، فهيا ننهض مسرعين علينا بأن نلزم أعتاب الحق ، وننثر التراب تضرعاً وعلينا أن نرفع ضراعتنا حتى نصل في النهاية إلى شيخنا . رحل الجميع من بلاد العرب إلى الروم ، وظلوا معتكفين مختفين طوال الليل والنهار ، ولزم كل واحد أعتاب الحق يكثر من التضرع أحياناً ومن النحيب أحياناً ، وظلوا هكذا أربعين يوماً وليلة بالتمام ، ولم يشيحوا مطلقاً عن أول مقام ، وقضوا الأربعين ليلة دون نوم أو طعام ، وكذا الأربعين يوماً دون خبز أو ماء ، ومن تضرع هؤلاء القوم الأطهار ، أصيب الفلك بالهياج والغليان ، وارتدى الملائكة في هبوطهم وصعودهم لباس المأتم الأزرق .   وفي نهاية الأمر أصاب سهم دعاء ذلك المقدام هدفه ، فبعد أربعين ليلة كان ذلك المريد الطاهر يقيم في الخلوة ومن نفسه قد تطهر ، وفي الصباح هبت عليه ريح مسكية فانكشفت الدنيا أمام قلبه واضحة جلية ، ورأى المصطفى مقبلاً كالبدر ، وقد أسدل على صدره ذؤابتين سوداوين ، وكان ظل الحق بادياً في شمس وجهه كما كانت كل مائة روح دنيوية تساوي شعرة واحدة منه ، جاء متهادياً في مشيته مبتسماً ، فكان يفني نفسه فيه كل من رآه ، وعندما رآه ذلك المريد قفز من مكانه قائلاً : أعني يا رسول الله وخذ بيدي ، يا هادي الخلق بمشيئة الله ، لقد ضل شيخنا الطريق ، فاهده .   قال المصطفى : يا من يتصف بعلو همته ، تقدم ، قد خلصت شيخك من ربقته ، ولتجعل الهمة العالية شغلك ولا تنطق بحرف حتى تمثل أمام شيخك ، لقد كان يفصل الشيخ عن الحق من زمن مديد غبار ذو سواد شديد ، فرفعنا هذا الغبار من طريقه وما تركناه وسط ظلمته ، ومن أجل الشفاعة نثرت قطرات ندى كثيرة على كل زمانه ، والآن وقد تلاشى الغبار من طريقه وحلت التوبة وولت المعصية ، فاعلم يقيناً أن مائة عالم من المعصية تتلاشى من الطريق أمام زفرة توبة واحدة ، وإذا تحركت أمواج بحر الإحسان فإنها تمحو ذنوب الرجال والحسان .   قال المصطفى له هذه الكلمات القليلة عن شيخه ثم اختفى من أمام نظره .   ذهب الرجل لما ألم به من مسرة ، وصاح فامتلأت السماء جلبة ، وأخبر جميع الرفاق وبشرهم ، وعزم على قطع الطريق ، فسار بأصحابه منتحباً مهرولاً ، حتى أدركوا الشيخ لدى الخنازير ، فرأوا الشيخ مسروراً وسطها وكالنار لا يقر له قرار بينها ، وكان قد طرح الناقوس من فمه كما كان قد قطع الزنار من حول وسطه ، وألقى عمامة الشرك ، كما طهر قلبه من المسيحية .   ما أن رأى الشيخ رفاقه من بعيد ، حتى رأى نفسه يتوسط لجة من نور ، وخجلاً مزق الرداء الذي كان يرتديه ، وبيد العجز والذلة نشر التراب على رأسه ، وكان أحياناً يذرف دمعاً دامياً كالمطر ، وأحياناً ينفض يده من روحه الزكية ، وكانت حجب الفلك تحترق بآهاته كما كانت دماؤه تحترق حسرة على ما أصاب جسده ، وعادت إليه دفعة واحدة كل ما ضاع منه من حكمة وأسرار وقرآن ومعرفة ، عادت كلها إلى ذاكرته جملة ، وتحرر من الجهل والذلة ثانية ، وما أن اطلع على حاله ، حتى خر ساجداً منتحباً ، وتخضب كالوردة بدماء قلبه وتصبب عرقاً من شدة خجله .   لما رآه أصحابه على هذه الحال ، أخذوا بما أصابه من هموم وسرور ، فساروا صوبه حيارى ، ونثروا أرواحهم شكراً لله ، وقالوا للشيخ : يا من تكشفت الحجب أمامك لقد انقشع السحاب ثانية من أمام شمسك وولى الكفر من طريقك ، وحل الإيمان ، وانقضت عبادة أصنام الروم واستقرت عبادة الرحمن ، وتحركت أمواج بحر القبول حيث أصبح شفيعك الرسول ، فوجب شكر عالم العالم في هذا الزمان ، فاشكر الحق فما أقساه من موقف محزن والمنة لله ، إذ أوجد وسط بحر القار طريقاً واضحاً كالشمس ، ومن يعرف كيف يجعل الظلمة نوراً يعرف كيف يمنح التوبة للمكثرين الذنوب ، إذ عندما يشعل نار التوبة فإنها تحرق كل الذنوب ولا تذر .   وعند هذا الحد أختصر القصة ، فنهايتها العزم على قطع الطريق ، حيث اغتسل الشيخ وارتدى الخرقة مرة أخرى ، وتوجه مع رفاقه صوب الحجاز . بعد ذلك رأت الفتاة في منامها أن الشمس سقطت بجوارها ، وفتحت الشمس فمها في ذلك الوقت وقالت : عليك بالإسراع خلف شيخك واعتنقي مذهبه وكوني ترابه ، ويا من دنسته كوني على طهره ، فحينما جاءك كان يسير في طريقك من باب المجاز ، فعليك أن تسلكي أنت طريقه من باب الحقيقة ،  لقد قطعت عليه طريقه فتقدمي أنت إلى طريقه ، وعندما جاء إلى الطريق كان يجب أن تكوني له خير رفيق ، لقد وليت عن طريقه فاسلكي الطريق إليه ، وما أكثر ما ترديت في الغفلة فلتفيقي منها .   ما أن استيقظت الفتاة المسيحية من نومها حتى انبثق النور كالشمس من قلبها ، وأفعم قلبها بالألم ويا للعجب ، وهكذا لم يعد يقر لها قرار ، وتلك الآلام من الطلب قد أضرمت النار في روحها الثملة ، فأصبحت واهنة حيث ضاع منها قلبها ، ولم تعد تعلم ماذا يمكن أن ينتج عن روحها المضطربة ، وقد رأت نفسها إحدى عجائب العالم ، حيث اضطرب أمرها كما عدمت الرفيق والعالم الذي يخلو من علامات الطريق ، الصمت فيه واجب وليس للسان أن ينطق .   ويا للعجب لقد كانت قبل الآن تظهر الكثير من التدلل والطرب ، ولكنها الآن أسرعت مولولة ممزقة الأردية ، أسرعت ناثرة التراب على رأسها مخضبة بالدماء ، وبقلب مفعم بالألم وجسد عاجز واهن ،  أسرعت خلف الشيخ والمريدين ، وهرولت غارقة في العرق وكأنها السحاب وجرت في أثرهم وهي غاية في الاضطراب .   سارت بين الصحاري والقفار وهي لا تعرف أين المسار ، وأخذت تشكو شدة عجزها واضطرابها كما أخذت تمسح التراب بوجهها ، ثم صاحت قائلة : إلهي الكريم المسير للأمور ، إنني إمرأة عاجزة عن إتيان أي أمر ، ولقد قطعت الطريق على رجل خليق بك فلا تقطع علي الطريق ، فقد كان جهلاً مني ذلك ، ولتكف بحر غضبك عن الاضطراب ،  لقد تصرفت بجهل وأخطأت فتجاوز عني ، وكل ما فعلته لا تؤاخذني به أنا المسكينة ، ولقد قبلت الدين فلا تقبلني مارقة بلا دين .   بالداخل أخبر الشيخ بحضور الفتاة المسيحية بالخارج وقيل له : لقد تعرفت على أعتابنا واستقر أمرها على سلوك طريقنا ، فعد وتقدم صوب معشوقتك وكن رفيقاً أنيساً لمحبوبتك .   عاد الشيخ في الحال من الطريق وكأنه الريح ، فدب الاضطراب مرة أخرى بين مريديه حتى قالوا جميعاً : ما هذا التهور ؟ وما هذه التوبة ثم العجلة والتسرع ؟ أتعود ثانية إلى العشق ؟ لعلك تبت توبة غير نصوح ، فشرح الشيخ لهم حال الفتاة حتى أقر كل من سمع ذلك بترك الروح ، بعد ذلك عاد الشيخ وأصحابه إلى حيث توجد الفاتنة ، فرأوا وجهها في صفرة الذهب كما فقدت غدائرها لكثرة ما بالطريق من تراب ، رأوها حاسرة الرأس حافية القدم ممزقة الثياب وقد رقدت كما يرقد الميت على التراب .   ما أن رأت الفتاة شيخها حتى أصاب الإغماء الجريحة قلبها فما أن استسلمت الفتاة في إغمائها حتى نثر الشيخ دموع عينيه على وجهها ، وحينما وقع نظر المعشوقة على الشيخ انهمرت دموعها كسحابة الربيع ، وألقت عينها على عهد وفائه وطرحت نفسها بين يديه وقدميه وقالت : لقد احترقت روحي لما ألم بك من اضطراب ، فلم أستطع تحمل الحرقة أكثر من هذا وراء تلك الحجب ، فاطرح هذه الحجب حتى أكون على بصيرة واعرض علي الإسلام حتى أسلك الطريق .   ما أن عرض الشيخ الإسلام على الفتاة حتى ثارت الضوضاء بين جميع الأصحاب ، وما أن أصبحت الفتاة من أهل العيان حتى ذرف الجميع بحاراً من الدمع ، وفي النهاية بعد أن أدركت المعشوقة طريقها سرعان ما وجدت المعرفة وسرى ذوق الإيمان في قلبها ، ومن حلاوة الإيمان لم يعد يقر لها قرار ، وأحاطت بها الهموم دون أن يكون لها مواس فقالت : أيها الشيخ لقد وهنت طاقتي وما عدت أحتمل الفراق ، سأودع هذه الدنيا المليئة بالصداع فالوداع يا شيخ صنعان الوداع ، فإذا نضب معين كلامي فاعف عني أنا العاجزة ولا تخاصمني .   قالت الفتاة هذا القول وأسلمت الروح ونثرت على الحبيب ما تبقى لها من روح ، واختفت شمسها تحت الغيوم .   وا أسفاه لقد تخلت عنها روحها ذات الهموم ، ولقد كانت في بحر المجاز مجرد قطرة ، فأسرعت بالعودة صوب بحر الحقيقة ، ونحن جميعاً سنرحل عن هذا العالم كالريح ، إنها قد ولت ونحن جميعاً سنرحل كذلك ، ما أكثر ما يحدث مثل هذا في طريق العشق ويعرف هذا كل شخص أدرك العشق ، وكل ما يقال في الطريق في حيز الإمكان ففيه الرحمة واليأس والكفر والإيمان ، ولن تستطيع النفس إدراك هذه الأسرار ، كما أن النجس لا يستطيع أن ينال سبقاً ، ويجب أن يسمع هذا بإذن الروح والقلب لا أن يسمع بما صنع من الماء والطين اللازب ، وفي كل لحظة تشتد المعركة بين القلب والنفس فأكثر من النواح فالحزن شديد وقاس . المقالة الخامسة عشرة اتفاق الطير على السير إلى السيمرغ الأبيات من 1565 – 1590 ما أن سمع الجميع هذه القصة ، حتى قالوا جميعاً بترك الروح ، وانتزع السيمرغ السكينة من قلوبهم وتضاعف العشق في أرواحهم ، وعزموا عزماً أكيداً على قطع الطريق وتعجلوا السير في الطريق ، وقالوا جميعاً : يجب أن يكون لنا مرشد يكون له علينا الحل والعقد ، وليكون هادينا في الطريق ، حيث لا يمكن قطعه اعتماداً على الغرور ، ويلزم لهذا الطريق حاكم موفق ، علنا نستطيع اجتياز ذلك البحر العميق ، وبأرواحنا سننفذ أوامر حاكمنا ، ولن نسلك الطريق إلا بحكمه وأمره ، حتى يستطيع في النهاية أن يقودنا من ميدان الغرور إلى جبل قاف ، وما أن تعالت ذرة منه أمام أشعة الشمس ، حتى وقع ظل السيمرغ علينا . في النهاية قالوا : لن يكون الحاكم شخصاً معيناً بل الحل إجراء القرعة فيما بيننا ، وإذا أصابت القرعة أي فرد فهو المقدم ويكون المعظم بين الجميع ، وما أن بدأوا القرعة حتى لزم الجميع السكينة ، وما أن قيل هذا الكلام حتى خفت الضوضاء واستسلم جميع الطير للصمت والهدوء ، واقترعوا فكان اقتراعاً موفقاً حيث اختاروا الهدهد العاشق ، فاتخذه الجميع مرشدهم فإذا أمرهم بذلوا أرواحهم وتعهد الجميع بأنه رئيسهم وأنه مرشدهم في الطريق وهاديهم ، وأصبح الحكم حكمه والأمر أمره ، ولا يبخل أحد بالروح ولا بالجسم عليه . ما أن تقدم الهدهد الهادي كالبطل الشجاع حتى وضعوا التاج على مفرقه في ذلك الزمان ، وإلى الطريق أقبلت مئات الألوف من الطير فكانوا كمظلة تحجب نور الشمس والقمر ، ولكن ما أن بدا أول الطريق عياناً حتى علا صياحهم ووصل إلى القمر ، ووقعت هيبة الطريق في أرواحهم كما اضطرمت النار في أرواحهم ، وطاروا جميعاً كل في إثر الآخر ، وتدافعوا بالأجنحة والقوادم والأرجل والرؤوس ، ونفض الجميع أيديهم من أرواحهم فثقيل حملهم وطويل طريقهم . الطريق خال من السير ويا للعجب وهو بعيد عن كل شر وعن كل خير ويا للعجب ، ويسيطر عليه الهدوء والسكون ولا زيادة فيه ولا نقصان ، فقال سالك له : لم يبدو الطريق هكذا خالياً ؟ قال الهدهد : ذلك من عز الباري . المقالة الخامسة عشرة حكاية 1 الأبيات من 1591 – 1600 خرج با يزيد ذات ليلة خارج المدينة ، فرأى كل شيء خالياً من ضوضاء البشرية وكان ضوء القمر ينير العالم ، حتى أوشك أن يحيل الليل نهاراً من شدة ضيائه ، كما بدت السماء مزدانة بالنجوم ، وكان كل نجم منها في شأن مختلف ، وكم تجول الشيخ في الصحراء فما وجد شخصاً يتجول بالفيافي والصحراء ، فسيطر عليه الاضطراب بشدة ، فقال يا رب : لقد سيطر الاضطراب على قلبي بقوة ، إن أعتابك ذات مكانة رفيعة ، فكيف تبدو من المشتاقين خالية ؟! جاءه هاتف قائلاً : أيها الحائر في الطريق إن الله لا يهب لكل شخص الطريق ، فقد اقتضت العزة الربانية ، أن يبتعد عن بابنا كل مسكين ، فما أن أضاء حريم عزنا حتى أبعد الغافلين عن بابنا ، وقد ظل الخلق منتظرين سنوات وسنوات حتى يسمح لواحد من ألف أن يحظى بالرفقة . "" أضاف المحقق : بايزيد : أحد مشايخ الصوفية المشهورين ، توفي عام 261 هـ . وهو الذي عبر عن فنائه واتحاده في ألفاظ وعبارات تمتاز بأنها من قبيل الشطحات الجريئة المسرفة في بعد الخيال وغموض المعنى بحيث لا يكاد القارئ يقف عليها ويأخذها على ظاهرها ، حتى يحكم عليها بمنافاتها للشرع ، وعلى قائلها بالكفر والضلال ، وهو أول من استحدث كلمة « السكر » : انظر الحياة الروحية في الإسلام للدكتور محمد مصطفى حلمي . . وانظر نفحات الأنس لجامي ، وتذكرة الأولياء للعطار . وغيرها من كتب التذاكر الصوفية . أهـ "" المقالة السادسة عشرة في قطع الطير للطريق الأبيات من 1601 – 1628 من هول الطريق ، تأوهت الطيور جميعها وسالت الدماء من أجنحتها وريشها ، فقد رأوا الطريق غير معلوم نهايته ، ورأوا الداء وما اتضح لهم دواؤه ، وعندما تهب ريح الاستغناء فيه فإنها تقصم ظهر السماء فيه ، وفي الصحراء يعد طاووس الفلك بلا قيمة بدون أدنى شك ، ومتى كان لطائر آخر في الدنيا طاقة لقطع هذا الطريق في أي عصر أو أوان ؟ "" طاووس الفلك : يقصد به الشمس "". ما أن تملك الخوف الطير من الطريق ، حتى اجتمعوا جميعاً في مكان واحد ، ومثلوا أمام الهدهد ناثرين أرواحهم ، جاءوا جميعاً راغبين في السير متخلين عن أرواحهم ، وقالوا : يا عالماً بالطريق ، لا يمكن التقدم إلى الأعتاب دون تأدب ، لقد مثلت أمام سليمان كثيراً كما كنت تعيش في بساط الملك طويلاً ، وعرفت رسوم الخدمة كلها كما خبرت مواطن الأمن والخطر فيها ، وقد رأيت الطريق كله من مرتفعه إلى منخفضه كما طوفت كثيراً حول العالم بأسره ، وإننا نرى أن تكون هذه الساعة للفحص والتأمل إذ أنك إمامنا في العقد والحل ، فلتصعد المنبر هنا حتى تهييء لقومك زاد طريقنا ، ولتشرح رسوم وآداب الملوك لأنه لا يمكن اعتماداً على الجهل السلوك ، ففي قلب كل منا إشكال ويلزم للطريق كل ذي قلب خال ، وعندما نسألك عن مشاكلنا فإننا نمحو بذلك الشبهات عن قلوبنا ، فأوجد أولاً الحل لمشاكل قلوبنا حتى يكون أكيداً عزمنا ، وذلك لأننا نعلم أن الطريق جد طويل ، كما لا يتضح النور وسط الشبهات ، فإذا فرغ القلب نبدأ السير ونضع رؤوسنا على الأعتاب متخلين عن الأجساد والقلوب. بعد ذلك استعد الهدهد للكلام فاعتلى كرسياً وبدأ في الكلام ، وعندما ارتقى الهدهد العرش لبس التاج ، فكان سعيد الحظ كل من رأى وجهه ، واصطف أمام الهدهد مائة ألف أو يزيد من جماعة الطير في صفوف منتظمة ، وتقدم البلبل والقمرية معاً لينشدا بصوتيهما ، وما أن تقدم البلبل والقمرية حتى أنشدا كمطربين أعذب الألحان وما أن تغنيا بألحان عذبة في ذلك الزمان حتى ترددت أصداء غنائهما في جميع الأوطان ، وكلما وصل صوتهما إلى مسامع أي فرد ، تملكته الدهشة وتخلى عن سكونه واستقراره ، وسيطرت على كل فرد حاله ، فكان كل منهم بين صحو وسكر ، بعد ذلك بدأ الهدهد الكلام ، فرفع الحجب من على وجه المعاني . المقالة السابعة عشرة اعتذار طائر الأبيات من 1629 – 1638 قال له طائر : يا من له السبق بأي حق كان لك علينا السبق ؟ أنت تشبهنا ونحن مثلك تماماً فلم نشأ هذا التفاوت بيننا ؟ أي ذنب اقترفته أرواحنا وأجسادنا حتى يكون الشراب المصفى من نصيبك والثمالة من نصيبنا ؟ قال الهدهد : أيها الطائر ، كان سليمان يديم النظر إلي في كل أوان ، وما حصلت على ذلك بذهب أو فضة ، وإنما تتأتى هذه المكانة من نظرة واحدة ، وإن تتحقق لشخص هذه الطاعة فكم يحاول إبليس عرقلة تلك الطاعة ، وإن يقل شخص إن الطاعة غير واجبة فستحل اللعنة عليه كل ساعة فلا تتخل عن الطاعة لحظة واحدة ، ولا تقم وزناً لما تأمرك به نفسك من طاعة فاقض العمر كله في طاعة ، حتى تحظى من سليمان بنظرة ، فإذا أصبحت مقبولاً لدى سليمان فقد تحظى بأكثر مما أقول . المقالة السابعة عشرة حكاية 1 الأبيات من 1639 – 1663 قيل إن السلطان محموداً انفصل ذات يوم عن جيشه قضاء وقدراً ، وكان يقود حصاناً له سرعة الريح ، فرأى طفلاً يجلس على شاطيء البحر وقد ألقى الطفل شباكه في قاع البحر ، فقرأه السلطان السلام وجلس إلى جواره ، وكان الغلام يجلس غاية في الهم والحزن إذ كان قلبه حزيناً وكانت روحه في وهن . قال السلطان : أيها الغلام لم تبدو مهموماً ؟ إنني لم أر أحداً مثلك مغموماً . فقال له الغلام : أيها الأمير ذو الفضل الوفير ، إننا سبعة أطفال بلا والد في هذا الزمان ، ولنا أم مقعدة ، ونحن غاية في الفقر دون عائل ، فمن أجل السمك ألقي شباكي ، وكل يوم أقيم هنا حتى المساء ، فإن أصد سمكة بكل مشقة فهي قوتنا أيها الأمير كل ليلة . قال السلطان : أتقبل أيها الطفل المغموم أن أكون لك شريكاً ؟ قبل الطفل ، وشاركه السلطان حيث ألقى بالشبكة في البحر ، وما أن أمسك السلطان بشبكة الغلام ، لا جرم أن صاد مائة سمكة في ذلك اليوم ، فما أن رأى الطفل السمك وفيراً أمامه حتى قال : ما هذا الحظ ؟ إنني أعجب من نفسي فكم أنت سعيد الحظ أيها الغلام إذ وقع هذا السمك الوفير في شباكك اليوم . فقال له السلطان : أيها الغلام ، لن تضل أبداً إن كنت على معرفة بكيفية صيد السمك ، وبي كان حظك في هذا الزمان حيث كان صائد سمكك هو السلطان . قال هذا وامتطى صهوة جواده ، فقال الصغير : لتضع نصيبك على حدة ، فقال السلطان : حصاد اليوم لك وما يصطاد غداً يكون لي ، وصيدنا غداً ستقوم به وحدك ، حيث لا أعطي صيدي لأحد . عندما عاد السلطان إلى البلاط في اليوم التالي كان يفكر في أمر الشريك ، فذهب القائد واستدعى الغلام ، وأجلسه السلطان على العرش لما له من حق المشاركة ، فقال صاحب الفضول : أيها السلطان إنه شحاذ مسكين ، فقال له السلطان : مهما يكن من أمر فهو شريكنا وما دمت قد قبلت فلا أستطيع رده ، قال هذا ونصبه سلطاناً ، فوجه سائل إلى الصغير سؤالاً : من أين تم لك هذا الكمال في النهاية ؟ قال : لقد أقبل الفرج وولى الحزن لأن صاحب الحظ قد مر بي . المقالة السابعة عشرة حكاية 2 الأبيات من 1664 – 1679 قتل أحد الملوك مجرماً عقاباً له ، وفي نفس الليلة رآه صوفي في المنام ، رآه يتجول باسماً في جنة عدن ، كان يتجول مسروراً أحياناً ومتبختراً أحياناً ، فقال له الصوفي : لقد كنت للدماء سفاكاً وكنت بيننا ذليلاً أفاقاً ، فمن أين أحرزت هذه المنزلة ؟ إن ما فعلته لا يمكن أن يصل بك إلى هذه المرتبة . قال : عندما سال على الأديم دمي مر في تلك الآونة حبيب العجمي ، وفي الخفاء رمقني الشيخ بنظرة من طرف عينيه ، فأصبت هذا الشرف ومائة مثله بعزة تلك النظرة منه ، وكل من أصابته نظرة حظ ، وقفت روحه في لحظة واحدة على مائة سر ، "" أضاف المحقق : حبيب العجمي : كان يقرض بالربا في بداية حياته ، ثم تاب على يد حسن البصري ، وورد عن حسن البصري أن لسانه كان أعجميا ، ولم يكن جاريا على العربية ، وقد عوقب البصري من اللّه لأنه رفض أن يصلي وراء حبيب لعجمة لسانه . ( انظر تذكرة الأولياء ج 1 ص 43 - 48 ، وكشف المحجوب ، الترجمة العربية ج 1 ص 297 - 298 ) . أهـ "" وإن لم يشملك أحد بنظرة فكيف يتم لك معرفة خبر يقين عن وجودك ، وإن كنت تكثر من الجلوس وحيداً فلن تستطيع قطع الطريق بلا مرشد فالطريق يلزمه مرشد فلا تسلكه بمفردك ، ولا تسلك هذا البحر عن طريق التخبط والعمى ، بل لا بد لك من شيخ في المسير حتى يكون ملاذاً لك من كل أمر عسير ، وإن كنت لا تعرف الطريق من البئر فكيف يمكنك قطع الطريق بلا دليل ؟ وليست لك عين بصيرة كما أن الطريق ليست قصيرة ، والشيخ في طريقك هو هادي مسيرك ، وكل من يكون في ظل صاحب الحظ ، لا يمكن أن يصيبه مكروه في الطريق ، وكل من يسير على الدوام في ركاب الجد يصبح الشوك في يده طاقة ورد . المقالة السابعة عشرة حكاية 3 الأبيات من 1680 – 1707 خرج السلطان محمود إلى الصيد وفجأة انتحى جانباً عن الجند ، وكان هناك حطاب مسن يسوق حماره ، فسقط الحطب منه ووقف حزيناً يحك رأسه ، فرآه محمود على هذه الحال وقد سقط حطبه ووقف ذليلاً كالحمار ، فتوجه إليه محمود وقال : أتريد المساعدة أيها الكسير البال ؟ قال : أريدها أيها الفارس فإن تساعدني فأي شيء في ذلك ؟ أفيد أنا ولن تصاب أنت بضر ، إنني أرى التوفيق في وجهك المشرق وليس اللطف غريباً عن كل ذي وجه مشرق . ترجل السلطان من كرمه ومد يداً كالورد نحو الحطب ووضع صاحب العظمة الكومة فوق الحمار ، وعاد بعد ذلك إلى جنده مرة أخرى ، وقال للجند : إن حطاباً مسناً موجود هنا ومعه حماره محملاً بالأحمال فاقطعوا الطريق عليه حتى يقع وجهه على وجهنا ، فقطع الجند الطريق على الشيخ حتى لم يعد أمامه من طريق سوى طريق السلطان ، فقال الشيخ لنفسه : كيف أقطع الطريق بحمار هزيل وأمامي جيش عظيم ؟ ومع أنه كان يخشى رؤية السلطان إلا أنه اضطر أن يسير صوب السلطان . وأخيراً قاد حماره النحيل حتى قرب من السلطان ، وما أن رآه حتى اعتراه الخجل ، إذ رأى تحت الخيمة وجهاً يعرفه فوقف في ذلة وضراعة وقال : إلهي لمن سأشرح حالي وقد جعلت محموداً حمالي ؟ فقال له السلطان : أيها الشيخ المهموم ما قصتك ؟ اسردها أمامي . قال : أنت تعلمها ، فدع هذه المواربة ولا تبد كأنك أعجمي وكف عن المداعبة ، إنني شيخ فقير أعمل حطاباً أقضي نهاري وليلي في الصحاري أجمع الأشواك والحطب ، فأبيع الحطب وأشتري الخبز القفار ، ألا تستطيع أن تكفل لي الرزق ؟ قال السلطان : أيها الشيخ الكسير ما ثمن حطبك لأنقدك إياه ذهباً ؟ فقال : أيها السلطان لا تشتر مني بثمن بخس ، فلن أبيعه رخيصاً فأعطني غرارة مليئة بالذهب . فقال الجند : الصمت أيها الأحمق إن هذا يساوي حبتي شعير فبعه بأتفه ثمن . فقال الشيخ : إنه يساوي حبتي شعير ولكن الثمن يختلف لعظم المشتري . فحينما وضع السلطان يده على حطبي ، أحال أشواكي إلى مائة روضة ، فمن يرد شراء هذه الأشواك فليشتر أقل شوكة منها بدينار ، لقد شاكني اليوم بالعديد من أشواكه ، حتى جاه عظمته ووضع يده على شوكي ، ومع أن هذه الأشواك بخسة الثمن ، ولكن بفضل يده فهي تساوي مائة روح . المقالة الثامنة عشرة عذر طائر آخر الأبيات من 1708 – 1742 قال له آخر : أيها المعين والرفيق إنني لا أستطيع قطع الطريق ، إنني عديم القوة شديد الوهن ، ولم يعرض هذا الطريق أمامي مطلقاً ، إنه واد بعيد وطريقه عظيم المشاق ، لذا فإنني أموت في أول مراحله وما أكثر الجبال المحرقة في الطريق ، إن هذا العمل ليس في مقدور كل مخلوق ، وفي هذا الطريق تصبح مئات الألوف من الرؤوس كرات ، وما أكثر أنهار الدم التي سالت فيه وفاضت ، وفيه عجزت آلاف العقول ، ومن ذا الذي لا يطأطيء الرأس أمام السر ؟ وفي مثل هذا الطريق الذي يسحب الرجال فيه بلا رياء وشاحاً على رؤوسهم من الخجل والحياء ، ماذا يتأتى مني أنا الضعيف غير الغبار ؟ فإن أعزم على المسير أمت من الألم والحسرة . قال له الهدهد : يا من سيصيبك الهزال أكثر من هذا إلى متى سيبقى قلبك في الأسر أكثر من هذا ؟ إذا كان لك حظ عسر في تلك الحياة ، فسواء مت أم لا فكلا الأمرين واحد ، الدنيا من أولها إلى آخرها دار نجاسة يموت الناس فيها متعاقبين ومئات الألوف من الخلق يموتون متأوهين ، وذلك من الألم في الدنيا وكأنهم ديدان صفراء ، وإن كنا سنموت فيها متأوهين في النهاية ، فهذا أفضل من التألم في عين النجاسة ، وإذا كان هذا الطلب خطأ منك ومني فهذا أمر مقبول كذلك مني حتى ولو أموت من الغم ، وإذا كانت الأخطاء وفيرة في الدنيا فلتتخيل أن هذا خطأ آخر كذلك . إذا كان العشق مبعث سوء لأحد فهو أفضل من حرفتي الكناس والحجام ، وكثيرون من الخلق قطاع طريق يجرون وراء هذه الجيفة الدنيوية ، ولتعتقد أن العشق أقل من السرقة حيث أنه أقل غماً بالنسبة لك من السرقة ، وكيف تجعل قلبك من هذا العشق بحراً إن كنت بالسرقة تعشق الكل ؟ وإن يقل شخص إن هذا العشق غرور فكيف تصل هناك ولم يدركه أحد قط ؟ وإن أقدم روحي في غرور هذا العشق يكن هذا أفضل من ربط القلب بالمنزل والمتجر .. ولقد رأينا كل هذا وبه سمعنا ولكن لم نتخل لحظة واحدة عن أنفسنا . لقد صعب أمرنا بفعل البرية ، فما أكثر تاركي الصلاة الأذلاء منهم ، إن لا نمت عن أنفسنا ونتطهر عن الخلق فلن تخرج أرواحنا طاهرة من الحلق ، وكل من لا يقطع صلته بالخلق كلية ، موته أفضل حيث لا يكون محرماً لهذه الحجب ، ومحرم هذه الحجب هو الروح اليقظة ، ومن يحيا بالخلق لا يكون خليقاً بالطريقة ، فاخط فيه إن كنت خليقاً بأفعال الرجال وإلا فلتكن كالنساء ، وفي النهاية عن كل هذه المشاق تخل وتعلم العلم اليقين ، حتى ولو كان هذا الطلب من باب المحال فهو العمل الحق وليس شيئاً هيناً ، الثمار تعلو شجرة العشق فقل لمن توفر لديه العزم لترفع رأسك . وإذا سكن العشق قلباً سارع القلب بالسيطرة على روح ذلك الشخص ، والرجل الذي تسيطر عليه هذه الآلام يخرج مضطرباً من بين الحجب ، ومن لا ينج لحظة من نفسه تقتله نفسه ثم تطالب بالدية ، وإن تعطه ماء فما أعطته إلا الأذى والعلة ، وإن تقدم إليه خبزاً فلن يكون إلا خبزاً معجوناً بالدم ، أما من كان في الضعف أكثر عجزاً من النملة أمده العشق كل لحظة بقوة هائلة ، وإن يسقط إنسان في بحر الخطر والهم فكيف يستطيع أن يأكل كسرة خبز دون غم ؟ المقالة الثامنة عشرة حكاية 1 الأبيات من 1743 – 1762 رحل الشيخ الخرقاني إلى نيسابور فأصابه ألم الطريق كما أصابه الإعياء ، فقضى أسبوعاً داخل زاوية مرتدياً خرقة وكان في غاية الجوع دون مئونة ، وما أن انقضى الأسبوع حتى قال : أيها الخالق لتمنحني رغيفاً ووفقني في قطع الطريق . قال له هاتف : لتكنس ولتنظف في هذه اللحظة ميدان نيسابور عن آخره من الأتربة ، وعندما تكنس تراب الميدان عن آخره ستجد نصف دانق ذهباً فاشتر بعد ذلك الخبز واطعمه . فقال : إن كنت أملك غربالاً ومكنسة ، فلم كانت مشقتي من أجل الخبز ؟ إن كبدي خاوية من كل رمق ، فامنحني يا إلهي القوت دون مشقة ولا تسفك دمي . قال الهاتف : إذا كانت الراحة لازمة لك ، فاكنس التراب فإن الخبز ضرورة لك أيضاً . ذهب الشيخ وتحمل الكثير من المشقة حتى استدان من شخص الغربال والمكنسة ثم كنس التراب بسرعة ، وفي النهاية وجد قطعة الذهب في آخر الغربال ، وعندما وجد الذهب سعدت نفسه وأسرع صوب الخباز واشترى الخبز ، وما أن أعطاه الخباز الخبز حتى نسي مكنسته وغرباله ، فاشتعلت النار في روح الشيخ وسارع بالعدو وتعالى صياحه ثم قال : لا وجود لمن يشبهني في حيرتي إنني لا أملك ذهباً فكيف أدفع عنها دية ؟ وأخيراً أصابه الجنون والوله واعتكف في الخرابة ، وما أن جلس بالخرابة مهموماً مغموماً حتى رأى غرباله ومكنسته معاً ، ففرح الشيخ وقال : إلهي لم جعلت الدنيا تظلم في وجهي ؟ لقد جعلت خبزي سماً لروحي ، فقل : لتعد روحي وليمض خبزي . فقال له الهاتف : يا سييء الطوية لا يطيب الخبز من غير إدام ، فما أن وضعت أنت الخبز وحده حتى زدت أنا عليه الإدام فكن ممتناً . المقالة الثامنة عشرة حكاية 2 الأبيات من 1763 – 1775 كان هناك عاشق جياش القلب يسير عارياً والناس في أبهى ثوب ، فقال : إلهي جد علي بجبة محكمة واجعلني سعيداً ككل البرية . صاح به هاتف وقال : كن حذراً لقد أعطيت شمساً حامية فاجلس فيها . قال : يا رب إلى متى تصليني بعذابك ؟ إن الجبة لا تفضل الشمس لديك . قال الهاتف : امض واصبر عشرة أيام أخر حتى أهبك جبة دون أن تلفظ بحرف آخر . وما أن انقضت الأيام العشرة حتى أحضر إليه رجل ولهان آلاف الرقاع مخيطة ، لقد أحضر إليه العديد من الرقاع لأن ذلك المحسن كان في فقر مدقع . وأخيراً قال ذلك العاشق : أيها العالم بالسر لقد خطت هذه الأثمال فربما أفادتك ذات يوم ، فهل احترقت ملابسك في خزائنها حتى وجب عليك خياطة تلك الرقاع معاً ؟ وإن كنت قد خطت هذه الأثمال وقمت بوصلها فممن تعلمت فن الحياكة ؟ العمل ليس سهلاً في أعتابه ويلزمك أن تكون تراباً في طريقه ، وما أكثر الذين وفدوا إلى هذه الديار من بعيد ، فاحترقوا بناره وأضاءوا بنوره ، وما أن وصلوا إلى مقصودهم بعد عمر مديد حتى وقعوا في الحسرة دون أن يروا المقصود . المقالة الثامنة عشرة حكاية 3 الأبيات من 1776 – 1787 سلكت رابعة الطريق إلى الكعبة في سبع سنوات ، سلكته زاحفة على جنبها ، فما أعظمها إنها تاج الرجال ، وما أن اقتربت من الحرم حتى قالت : لقد أتممت في النهاية حجتي ، وفي يوم الحج يممت وجهها شطر الكعبة وقالت : يا ذا الجلال لقد قطعت الطريق زحفاً سبع سنوات طوال ، لقد رأيت يوماً كله هموم حيث طرحت في طريقي أشواك وأشواك ، فإما أن تمنحني القرار في محرابك وإلا فدعني في داري . ولعدم وجود عاشق لرابعة فكيف يمكن معرفة قدر صاحبة الواقعة ؟ طالما تداوم الطواف ببحر الفضول فإن الأمواج تتلاطم بين رد وقبول ، ويسمح لك أحياناً بالمثول إلى الكعبة وأحياناً يوجهونك نحو الدير ، فإن تخلص رأسك من هذه الدوامة تزد راحة بالك كل لحظة ، وإن تظل بهذه الدوامة فما أكثر ما تدور رأسك كالطاحونة ولن تجد لحظة تنعم فيها بالراحة إذ سيضطرب وقتك بسبب بعوضة واحدة . المقالة الثامنة عشرة حكاية 4 الأبيات من 1778 – 1793 سكن أحد العاشقين المساكين ركناً ، فذهب صوبه ذلك العزيز ذو الشهرة وقال : إنني أرى فيك كفاءة وفي كفاءتك سعادة وهناءة . قال : كيف أجد راحتي لدى أي فرد ، ولا خلاص لي من البراغيت والذباب ، كم يؤلمني الذباب طوال النهار كما لا يغمض لي جفن من البراغيث أثناء الليل ، لقد استقرت البعوضة في رأس النمرود فأصيب عقله بالحيرة وقلبه بالغم ، فلعلي نمرود زماني حتى يكون نصيبي من حبيبي عذاب الناموس والبعوض والذباب . المقالة التاسعة عشرة عذر طائر آخر الأبيات من 1794 – 1801 قال له آخر : لقد ارتكبت العديد من الآثام فكيف يستطيع شخص السلوك بهذه الآثام ؟ وبما أن الذبابة ملوثة بلا ريب فكيف تليق بالسيمرج في جبل قاف ؟ وإذا أبعد إنسان عن الطريق عنوة فكيف يستطيع التقرب من السلطان ؟ قال الهدهد : لا تكن يائساً أيها الغافل بل اطلب اللطف منه فهو دائم النوال ، فإن تلق ترسك بسهولة وسرعة تزدد أمورك تعقيداً ، يا من تعيش في غفلة ، وإذا لم يحظ التائب بالقبول فكيف يغدق الله عليه نعمائه كل ليل ؟ فإن كنت قد أذنبت فباب التوبة مفتوح فاطلب التوبة فلن يغلق هذا الباب ، وإن تقبل في هذا الطريق صادقاً ولو للحظة تفتح أمامك مئات الفتوح على الدوام . المقالة التاسعة عشرة حكاية 1 الأبيات من 1802 – 1814 لقد ارتكب ذلك الرجل العديد من الخطايا ثم تاب خجلاً وعاد إلى الطريق من جديد ، وعندما شعر بقوته مرة ثانية نقض توبته واتبع الشهوات ، وهكذا جنح عن الطريق السوي مرة أخرى ، ووقع في ارتكاب جميع الآثام ثم أصيب قلبه بالهم والكآبة ، وأصبح أمره من الخجل غاية في الصعوبة والشدة ، ولما لم يكن له نصيب إلا الضياع أراد أن يتوب ولكنه ما استطاع وأصبح آناء الليل والنهار كفحمة على المقلاة قلبه مفعم بالنار وتسيل منه الدماء وإذا كان الغبار قد كسا طريقه فبدمعة غسل طريقه . وفي السحر ناداه هاتف وأصلح أموره وجعله موفقاً وقال له : يقول خالق البرية : عندما تبت يا فلان أول توبة عفوت عنك وقبلت منك التوبة وكنت قادراً ولكنني لم آخذك بالعقوبة وعندما نقضت توبتك النصوح مرة أخرى، منحتك مهلة ولم أكن عنك غاضباً ومحض خيال أيها الجاهل أن ترغب الآن في العودة مرة أخرى ولكن عد ثانية فقد فتحنا الباب، لقد أذنبت أنت ونحن قد عفونا. المقالة التاسعة عشرة حكاية 2 الأبيات من 1815 – 1833 كان جبريل ذات ليلة في السدرة يسمع صوت عبد في الحضرة يقول لبيك فقال : إن عبداً يدعو الله الآن وأنا لا أعرف ذلك الشخص الذي يدعوه وكل ما أعلم أنه عبد له مكانته حيث ماتت نفسه وحيي قلبه . وأخيراً طلب جبريل معرفته في هذه الآونة فلم يدركه في السبع سموات فطاف بالأرض وركب البحر ولم يدرك منه شيئاً في الجبال أو في الصحارى ، فأسرع بالعودة صوب الحضرة فسمع مرة أخرى من يقول لبيك ، فتملكته الحيرة من شدة الغيرة فطاف بالعالم مرة أخرى وما أدرك هذا العبد ، فقال : إلهي أرشدني إلى طريقه فقال الحق تعالى : توجه صوب الروم وامض إلى الدير حتى تعرفه . ذهب جبريل فرآه هناك حيث كان يناجي الأصنام بذلة وانكسار فانطلق لسانه قائلاً : إلهي لتمزق تلك الحجب واكشف لي ذلك السر ، فهل تجيب بلطفك من يكون بالدير يناجي الأصنام ؟ قال الحق تعالى : إن له قلباً أسود لذا لا يعرف طريق الضلال الذي سلكه وإذا كان قد أخطأ ذلك الخسيس من الغفلة .. فلا أسلك طريق الخطأ معه وأنا في تمام المعرفة ، والآن أهبه الطريق إلى الحضرة وسيطلب لطفنا له المعذرة . قال هذا وهدى روحه إلى الطريق فلهج لسانه بذكر ربه . متى تدرك أن أصول تلك الملة هي السير إلى الأعتاب بلا عذر أو علة ، فإن لم تدرك الأعتاب مطلقاً فلن يكون أي متقاعس أقل منك اضطراباً ، إن الجميع لا يسلمون بالزهد كما لن يقبل الجميع نحو أعتابه . المقالة التاسعة عشرة حكاية 3 الأبيات من 1834 – 1842 كان رجل يسرع في الذهاب إلى بغداد فسمع صوتاً في الطريق حيث كان شخص يقول : إنني أمتلك عسلاً وفيراً وأبيع غاية في الرخص فهل من مشتر ؟ فقال الصوفي : أيها الرجل الصبور أتعطي شيئاً بلا ثمن ؟ فقال : اغرب عني إنك أيها المجنون ربما مخبول إذ كيف يعطي إنسان لآخر أي شيء بلا مقابل ؟ قال هاتف : أيها الصوفي تقدم واخط خطوة واحدة من مكانك فقد منحناك كل شيء دون مقابل وإن تطلب أكثر نعطك أكثر .. الرحمة شمس مشرقة ونورها يعم جميع الكائنات فانظر رحمة الله فقد عاتب نبياً من أجل كافر .. المقالة التاسعة عشرة حكاية 4 الأبيات من 1842 – 1850 قال الحق تعالى : لقد استغاث قارون متلهفاً حيث قال : " إن لك يا موسى سبعين حملاً " ، فأجابه موسى : " لن تعطى حملاً واحداً إلا إذا خاطبتني لحظة بذلة " . فاستأصلت شأفة الشرك من روحه وخلعت على صدره خلعة الدين ، أما أنت يا موسى فقد أهلكته بالعديد من الآلام وجعلته دليلاً ووضعت رأسه في التراب فلو كنت خالقه لاستمرأت تعذيبه . إن من يرحم عديمي الرحمة يجعل أهل الرحمة أولياء نعمته فبحار فضله لا تنضب ، وهو من يصفح عن المسيء إذا أبدى الندم والتوبة ، وكل من يملك هذا العفو والصفح كيف يتغير من ارتكاب معصية ؟ وكل من يعيب مرتكبي الذنوب والمعصية يجعل نفسه في مقدمة خيل الجبابرة . المقالة التاسعة عشرة حكاية 5 الأبيات من 1851 – 1876 عندما مات ذلك الرجل العاصي الأثيم قيل : احملوا تابوته إلى قارعة الطريق ، فما أن رأى زاهد تابوت هذا الفاسق احترز حتى لا يضطر إلى الصلاة على فاسق . وفي الليل رآه الزاهد في المنام وقد احتل مكانه في الجنة كما بدا وجهه ساطعاً كالشمس ، فقال له الزاهد : أيها الغلام من أين لك في النهاية هذا المقام ؟ لقد غرقت ما حييت في آثامك وتلوثت بالخطايا من رأسك إلى قدمك . قال : لقسوتك رحمني الله أنا المضطرب الوله ، فانظر إلى الحكمة التي تتولد من المحبة إنها تصنع الإنكار كما تصنع الرحمة . وفي ليلة حالكة السواد كجناح غراب ترسل حكمته طفلاً ممسكاً بمصباح وهاج ثم ترسل بعد ذلك ريحاً عاتية وتقول لها : اطفئي مصباحه وامضي ثم تمسك بالطفل وسط الطريق قائلة له : لماذا أطفأت المصباح أيها الجاهل ؟ من ذا يمسك بالطفل يحاسبه فإنه يعاتبه بكل شفقة ومحبة وإن جاز أن يقتصر عمل الجميع على الصلاة لجاز أن تقتصر حكمته على المجاز وإذا كانت حكمته لا تتم إلا هكذا فلا جرم أنه بلغ هذه المنزلة هكذا . في طريقه توجد مئات الألوف من مظاهر الحكمة وكل قطرة من تلك الحكمة بحر من الرحمة ، ودورة النهار والليل في هذه الأيام تتم من أجلك أيها الغلام وطاعة الملائكة من أجلك والجنة والنار صورة من لطفك وقهرك وقد سجد جميع الملائكة لك وغرق الكل والجزء في وجودك فلا تكثر من النظر بازدراء إلى نفسك إذ لا يمكن أن يوجد من هو أعظم شأناً منك . جسمك جزء أما روحك فهي كل الكل فلا تجعل من نفسك عاجزاً في عين الذل ، فما أن رحل كلك حتى ظهر جزؤك وما أن ولت روحك حتى بدت أعضاؤك ، لا ينفصل الجسد عن الروح ويكون جزءاً مستقلاً ولا تنفصل الروح عن عالم الكليات وتكون عضواً مستقلاً ، ولما لم يسلك طريق الوحدانية كبير عدد فلا يمكن القول ببقاء الجزء والكل إلى الأبد ، ومئات القطرات من الرحمة تتساقط عليك حتى يزيد شوقه وعندما يأتي وقت رفعة الكل فمن أجلك كانت خلعة الكل وكل ما قد فعله الملائكة قد فعلوه من أجلك وهذا مجمل القول ، وسينشر الله سبحانه وتعالى عليك كل طاعتهم جميعاً . المقالة التاسعة عشرة حكاية 6 الأبيات من 1877 – 1884 قالت العباسة : في يوم القيامة يفر الخلق من الهيبة وتسود وجوه العصاة وذوي الغفلة في ساعة واحدة من كثرة اقترافهم المعصية وسيبقى من لا رصيد لهم في حيرة وسيظل كل فرد منهم في اضطراب وحسرة . والحق تعالى يطيعه كل الملائكة طوال مئات الألوف من السنين من الأرض حتى السماء التاسعة ، ثم يأخذ الطهر من هؤلاء الأطهار وينعم به على الآدميين فيرتفع صوت الملائكة صائحين : أيها الخالق لماذا يقطع هؤلاء الخلق علينا الطريق ؟ فيقول الحق تعالى : أيها الملائكة إن كان هذا لن يصيبكم بالمضرة أو المنفعة فمن الأفضل أن يفيد منه الآدميون كما يلزم الخبز دائماً للجائعين . المقالة العشرون عذر طائر آخر الأبيات من 1885 – 1896 قال له آخر : إنني مخنث الجوهر وفي كل زمان انتقل من غصن إلى آخر ، أحياناً أكون فاجراً وأحياناً زاهداً وأحياناً ثملاً وأحياناً أكون معدوماً وموجوداً ، وأحياناً ألقي بنفسي في الحانات وأحياناً أشغل روحي بالمناجاة ، وأحياناً يحيد بي الشيطان عن طريقي لأمتع نظري ، وأحياناً تعيدني الملائكة إلى الطريق بلا تأخير ، وهكذا بقيت حائراً وسط هذين الأمرين فماذا أفعل وقد بقيت أسير البئر والسجن ؟ قال له الهدهد : يا من تملكته الحيرة في الطريق هكذا صار حكم الله بالنسبة لجميع الخلق ، إن هذه الخصال موجودة لدى الجميع وقلما وجد إنسان على صفة واحدة ، وإذا كان جميع الخلق أطهاراً منذ البداية فلم كان بعث الأنبياء أمراً موفقاً ، وإن تكن ولوعاً بالطاعة فإنك تقبل إلى الإصلاح في يسر وسهولة وطالما لا تقوم نفسك الجامحة فلن يجد جسدك راحة وسعادة . يا من مكانك تنور الغفلة لقد أحاطت بك رغباتك من كل زاوية ، إن الدمع القاني هو أسرار القلب أما الشبع فهو صدأ القلب وإن تكن دائم الاهتمام بنفسك الشبيهة بالكلب فإنها تكون أقل من المخنث الجوهر . المقالة العشرون حكاية 1 الأبيات من 1898 – 1812 اختفى الشبلي فترة من بغداد فسيطر الاضطراب على حال مريديه وبحثوا عنه كثيراً في كل مكان فرآه شخص في بيت فسق ومجون وقد جلس وسط أولئك الفجرة دامع العينين وبشفة صادية فقال له : أيها العظيم الباحث عن السر أهذا مكانك آخر الأمر ؟ قال : إن هؤلاء الفجرة الفسقة سائرون في طريق المعنى وليسوا رجالاً ولا نساء وأنا مثلهم ولكن في طريق الدين ولست إمرأة ولا رجلاً أكثر منهم ، لقد ترديت في لؤمي وخستي لذا فإنني أخجل من آدميتي . كل من آثر روحه جعل لحيته مفرشاً لخوان حبيبه واختار ذل نفسه كالرجال ونثر العزة على المساكين ، لكن إن ترغب في أن تكون محط أنظار الخلق فأنت أسوأ من الصنم وإن يتفاوت مدحك وذمك لنفسك فأنت صانع صنم لأنها تقيم الصنم ، فإن تكن عبداً للحق فلا تكن صانع صنم وإن تكن جديراً بالله فلا تكن آزرياً وليس هناك بين الخاص والعام أفضل من مقام العبودية مقام فكن عبداً ولا تدع أكثر من هذا وكن رجل حق فالعزة من الله فلا تبحث عنها لدى غيره ، وإن كانت مائة صنم تختفي في داخلك تحت الدلق فكيف تدعي أنك صوفي أمام الخلق ؟! فيا أيها المخنث لا ترتد أردية الرجال ولا تجعل نفسك مضطرباً على هذه الحال . المقالة العشرون حكاية 2 الأبيات من 1913 – 1923 ذهب شيخان إلى دار القضاء إذ كانت بينهما خصومة وجفاء ، فانتحى بهما القاضي جانباً وقال : لا يحسن من الصوفيين أن يتحاربا إنكما ترتديان رداء التسليم فلماذا أضرمتما هذا الخصام ؟ فإن كنتما أهل حقد وخصومة فعليكما بالتجرد من هذه الأردية وإن كنتما أهلاً لهذه الأردية فخصومتكما دليل على ما أنتما فيه من جهالة ومع أنني قاض ولست رجل معنى إلا أنني أخجل تماماً من ارتدائكما هذا المرقع . من الأفضل لهما وضع قناع على مفرقيهما من أن يرتديا هذه المرقعات ، فإن لم تكن رجلاً أو إمرأة في طريق العشق فكيف يمكنك أن تحل أسرار العشق ؟ وإن ابتليت بقطع طريق العشق فألق أسلحتك لما أنت فيه من بلاء ، وإن كنت تدعي العزم على خوض هذا الميدان فعليك أن تسلم رأسك للريح وأن تتخلى عن الروح ، والآن لا ترفع رأسك بالدعوى أكثر من هذا حتى لا تظل في عارك هكذا . المقالة العشرون حكاية 3 الأبيات من 1924 – 1939 كان في مصر حاكم شهير فأغرم بهذا الحاكم رجل فقير ، وما أن وصل خبر عشقه إلى الحاكم حتى استدعى العاشق الهائم وقال له : إذا كنت قد أصبحت عاشقاً للسلطان فعليك باختيار أحد هذين الأمرين ، إما أن تغادر هذه البلدة وهذا الإقليم وإما أن تتخلى عن رأسك فداء لعشقي ، لقد قلت لك الأمر مرة واحدة فإما قطع الرأس وإما الرحيل . لم يكن هذا الرجل خليقاً بالأعمال لذا اختار الرحيل عن الديار ، وما أن هم ذلك الفقير بالذهاب متخلياً عن عشقه حتى قال السلطان : اقطعوا رأسه عن جسده . فقال الحاجب : إنه لم يرتكب أي جريرة فلم أمر السلطان بقطع رأسه ؟ فقال له السلطان : إنه ليس بعاشق إذ لم يكن صادقاً معي في طريق العشق فإذا كان يتصرف كالرجال لاختار قطع الرأس في هذا المجال . كل من كانت رأسه أعز لديه من الحبيب فإن مزاولة العشق بالنسبة له أكبر ذنب ، وإذا كان قد اختار قطع الرأس لأصبح أميراً في هذه المملكة ولصار ملك العالم تبعه ولبادرت أنت إلى خدمته ، ولكن لما كان مدعياً في عشقه فقطع الرأس علاجه ، وكل من يتشدق بعشقي فهو مدع وغاية في النفاق ، وقد أمرت بذلك حتى يقلل كل مدع في عشقنا من التفاخر كذباً بعشقنا . المقالة الحادية والعشرون عذر طائر آخر الأبيات من 1940 – 1954 قال آخر له : إن نفسي لي خصيم فكيف أقطع الطريق ورفيقي لص زنيم ؟ النفس كالكلب لم تطع لي أمراً مطلقاً ولا أعلم متى أحرر روحي من ربقتها ، إن ذئب الصحراء معروف لدي ولكن لا علم لي بهذا الكلب المدلل لدي ، ولقد تملكني العجب من عديمة الوفاء والصحبة فإلى متى تظل جاثمة في طريق المعرفة ؟!   أجابه الهدهد خير جواب حيث قال : يا من استمرأت فلكك بالنوم ويا من خدعك الكلب أشد خداع حيث وطئك كالتراب تحت أقدامه ، نفسك حولاء وعوراء وهي كلب وكذلك عاجزة وكافرة ، فإذا مدحك إنسان وأطراك فهذا كذب ولكن نفسك تسر بهذا الكذب فلا داعي لأن تهتم بشبيهة الكلب إذ أنها تسمن هكذا بالكذب .   في البداية يكون الجميع بلا حاصل فهم إما طفل وإما عديم القلب وإما غافل ، وفي الوسط يكون الجميع عديمي المعرفة ففي الشباب شعبة الجنون ، وفي النهاية عندما يكون الرجل المسن خليقاً بالأعمال تكون روحه قد أصبحت خرفة وجسده أسير الهزال ، إن كنت تزين عمرك هكذا بالجهل فكيف تزدان هذه النفس الشبيهة بالكلب ؟ وإذا كانت الغفلة من البداية إلى النهاية فلا جرم أن تخرج منها بلا حاصل .   ما أكثر عبيد هذا الكلب في هذا العالم ولعل نهاية كل شخص أن يكون عبداً لهذا الكلب ، لقد ماتت آلاف القلوب من الغم دائماً وهذا الكلب الكافر لم يمت لحظة .   المقالة الحادية والعشرون حكاية 1 الأبيات من 1955 – 1958   عاش حفار قبور عمراً مديداً فسأله سائل : لتقل لنا أي نادرة لقد قضيت دهراً طويلاً في حفر القبور أما رأيت شيئاً من العجائب تحت الثرى ؟   قال : ما رأيته عجيب كل العجب وهو أن نفسي الشبيهة بالكلب عاشت سبعين عاماً ويا للعجب ترى حفر القبور ولم تمت ساعة كما لم تطع لي أمراً لحظة .   المقالة الحادية والعشرون حكاية 2 الأبيات من 1959 – 1972   ذات ليلة قالت العباسة : أيها الحاضرون إن الدنيا تغص بالكافرين ، كما أن جمعاً من الكافرين الفضوليين يدعون الإيمان عن طريق التصديق ، فإن كان حدوث هذا في حيز الإمكان فلم كان بعث الأنبياء العديدين ؟ فإما أن تتبع هذه النفس الكافرة الإسلام ذات لحظة وإما أن يصيبها الفناء ، وما استطاعوا فعل هذا وهذا جائز وإلا فلم نشأ هذا التفاوت بين الناس ؟ طالما نظل في حكم النفس الكافرة فإننا نربي هذه الكافرة في داخلنا .   هذه النفس الكافرة التي لا تطيع أمراً متى يمكن أن يكون قتلها ميسوراً ؟ وإذا كانت النفس تجد العون من كل جانب فلن يكون عجيباً أن تزيد من المفاسد ، القلب فارس هذه المملكة ولكن النفس الشبيهة بالكلب نديمته طوال الليل والنهار ، ومهما يسرع الفارس في الصيد فإن الكلب يسرع في إثره ، وكل ما استمده القلب من حضرة الأحباب قد استمدته النفس كذلك من القلب ، وكل من يوفق في قتل هذا الكلب فإنه يوقع الأسد في الشباك في كلا العالمين ، وكل من جعل هذا الكلب خاضعاً له لن يدرك أحد قط تراب حذائه ، وكل من استطاع أن يقيد هذا الكلب بقيد متين يكون ترابه أفضل بكثير من دماء الآخرين .   المقالة الحادية والعشرون حكاية 3 الأبيات من 1973 – 1994   صار صاحب الثياب المهلهلة شيخ طريقة فرآه ذلك السلطان فجأة فقال : أينا أفضل أنا أم أنت يا مرتدي المرقعة ؟ فقال الشيخ : صه أيها الجاهل إن نمدح أنفسنا انعدم الطريق فمن يمدح نفسه انعدمت بصيرته ، ولكن إن وجبت الإجابة فأي فرد مثلي أفضل من مائة ألف مثلك بلا ريب ، ذلك لأن روحك لم تذق طعم الدين كما جعلتك نفسك حماراً ثم سيطرت عليك أيها الأمير وأصبحت تحت وطأتها وكأنك أسير وألجمت رأسك آناء الليل والنهار ووقعت في الرغبة إطاعة لما تصدره إليك من أوامر ومهما أمرتك يا عديم المروءة فأنت تسارع بالقيام بأوامرها ونواهيها .   أما أنا فعندما أدركت ما للقلب من سر جعلت نفسي الشبيهة بالكلب حماري وعندما أصبحت نفسي حماري ركبتها فالنفس الشبيهة بالكلب تعلوك وأنا أعلوها ، وعندما يمتطيك حماري فمن على شاكلتي يفضل من على شاكلتك مائة ألف مرة .   يا من تطرب من نفسك الشبيهة بالكلب إنها ستلقي فيك نار الشهوة ونار تلك الشهوة تسلبك ماء وجهك كما تسلب نور قلبك وقوة بدنك ويصيبك العمى والصمم والشيخوخة وكذا نقصان العقل وضعف الذاكرة .   تسير مئات الجيوش والجند كعبيد خلف أمير الموت وطوال الليل والنهار يواصل الجيش المسير أي أنهم على الدوام في إثر هذا الأمير ، وإذا كان الجيش يتقدم من كل صوب فستسقط من الطريق وكذا نفسك الشبيهة بالكلب ، ولقد ربطت سعادتك بالنفس الشبيهة بالكلب وتقضي عمرك في عشرتها على الدوام فقيدت نفسك بهذه العشرة ووقعت كذلك تحت ربقتها ، وإن يلتف حولك سلطان وحشم فستنفصل عن الكلب وينفصل عنك هذا الكلب وإن تنفصلا عن بعضكما هنا فستبتلى بالفرقة ، ولكن لا تحزن إن لم تتصلا هنا سوياً وذلك لأنكما ستنعمان في النار سوياً .   المقالة الحادية والعشرون حكاية 4 الأبيات من 1995 – 1998 حين التقى هذان الثعلبان تزاوجا بعد طول عشرة ، ثم ذهب ملك إلى الصحراء مصطحباً فهداً وصقراً وألقى شباكه على هذين الثعلبين ، فكانت الأنثى تسأل الذكر: أيها الباحث عن الثقوب لتقل إلى أين نصل في النهاية؟ قال : إن كنا لنا من العمر بقية ففي دكان الفراء بالمدينة . المقالة الثانية والعشرون عذر طائر آخر الأبيات من 1999 – 2006 وقال له آخر : لقد قطع علي إبليس الطريق أثناء الحضور بما ألقاه في قلبي من زهو وغرور ، ولأني لا أستطيع مغالبته فقد ثار الاضطراب في قلبي من غبنه فكيف أستطيع النجاة منه وتكون لي حياة من خمر المعنى ؟ قال الهدهد : ما دامت هذه النفس الشبيهة بالكلب أمامك فهل يفر إبليس مسرعاً من صدرك ؟ خداع إبليس قد ألبس عليك حتى أن نزواته قد تولدت فيك واحدة واحدة فإن تحقق لنفسك رغبة واحدة فإنها تولد بداخلك مائة إبليس والسلام ، وموقد حمام الدنيا الشبيه بالسجن قد أصبح كله من إقطاع الشيطان فكف يدك عن إقطاعه حتى لا يكون له أي صلة بك على الإطلاق . المقالة الثانية والعشرون حكاية 1 الأبيات من 2007 – 2014 ذهب غافل صوب عابد في صومعة واشتكى كثيراً من إبليس حيث قال : لقد قطع إبليس علي الطريق بتلبيسه كما أفسد علي تديني بوقاحته . فقال له الرجل : أيها الشاب العزيز لقد جاء إبليس قبلك أيضاً وكان يشتكي وهو مستاء منك كما وضع التراب على رأسه بسبب ظلمك وقال : إن الدنيا جميعها إقطاعي ومن يعاد الدنيا فليس خليقاً بي ، فقل له : امض في طريقك وكف يدك عن إقطاعي حتى لا يكون لإنسان قط أي صلة بك فكل من خرج من إقطاعي بالتمام لا يكون لي معه أي أمر والسلام . المقالة الثانية والعشرون حكاية 2 الأبيات من 2015 – 2037 قال ذلك العزيز لمالك بن دينار : إنني لا أدرك حالي فهل أنت كذلك ؟ إنني أطعم الخبز على خوان الحق ثم أنفذ جميع أوامر الشيطان . قال مالك بن دينار : أيها البر الكريم لقد صاد الشيطان الكثيرين مثلك كما انتزعك الشيطان من الطريق فعدمت الحول ولم يبق لك من الإسلام غير القول ، وقد أصبحت أسير الدنيا الدنية وعلا الغبار مفرقك وكأنك جيفة ، فإن كنت أقول لك : تخل عن الدنيا إلا أنني في هذا الزمان أقول لك احرص عليها ، لقد أسلمتها كل حظ كان لك فكيف تستطيع التخلي عنها بسهولة من يدك ؟! يا من غرق في بحر الطمع مما به من غفلة إنك لا تعلم من أجل أي شيء ستعمر ، لقد لبس العالمان رداء المأتم ويذرفان الدمع وأنت ما زلت تتردى في معصيتك ، لقد سلب حب الدنيا ذوق إيمانك كما سلب الطمع في هذا وذاك روحك . ما الدنيا إلا وكر للحرص والطمع وهي ما تبقى عن فرعون والنمرود ، أما قارون فقد مضى وولى كما أصيب شداد بالشدة والمحنة ، وقد قال الحق تعالى : إن اسمها الفانية إلا أنك ترديت في شباكها وطالما لحقك أذى هذه الدنيا الدنية فستكون جيفة في هذه الفانية ، وكل من يصيبه الضياع في ذرة من هذه الفانية متى يستطيع أن يكون خليقاً بالرجولة ؟ وستبقى طوال الليل والنهار حائراً ثملاً حتى تمدك الفانية بأي عون ولكن من يتحد لحظة مع الدنيا يصبه النقصان كثيراً في الدنيا .. ما عمل الدنيا إلا بطالة وما البطالة إلا أسر للجميع وما الدنيا إلا نار موقدة إذ تحرق العديد من الخلق في كل لحظة ، وعندما يزداد لهيب هذه النار فمهما كان الرجل شجاعاً فهو يولي منها الفرار فكن شجاعاً أو اغمض عينك عن هذه النار وإلا فاحرق نفسك كالفراشة بهذه النار، وكل من عبد النار كالفراشة فجدير بذلك المغرور الثمل أن يحرق ، وهذه النار تحيط بك من كل جهة وستحترق بها كل لحظة فانظر حتى تعرف أين مكانك وحتى لا تحرق مثل هذه النار روحك . المقالة الثانية والعشرون حكاية 3 الأبيات من 2038 – 2046 قال أحد السادة وقت الصلاة : إلهي امنحني التوفيق والرحمة ، فسمع واله هذا القول منه وقال : إنك تأمل في الرحمة على عجل منه إن الدنيا لا تتسع لك من فرط دلالك كما أنك في كل زمان تتبختر بدفع من كبريائك ، لقد شيدت قصراً يناطح الفلك وزينت جدرانه الأربع بالذهب واتخذت عشرة غلمان وعشر جوار فكيف تكون الرحمة بين هذه الحجب الكثيفة ؟ فتنبه ، فعلى الرغم من كل هذه الأعمال فلك حق طلب الرحمة ! فليتملكك الخجل ، وإن كان نصيبك مثلي رغيفاً واحداً ففي تلك الآونة يكون لك حق في الرحمة وإن لم تحول وجهك عن الملك والمال فلن تتبقى لك زفرة واحدة بأي حال ، فأشح بوجهك في هذه الساعة عن الكل حتى تفرغ كالرجال من الكل .. المقالة الثانية والعشرون حكاية 4 الأبيات من 2047 – 2050 قال رجل متدين : إن جماعة من السفلة قد حولوا وجه أحدهم أثناء احتضاره إلى القبلة ، قبل ذلك كان يجب أن يحول وجه ذلك الجاهل إلى القبلة على الدوام ، إذاً ما جدوى أن تزرع الغصن في الخريف ؟ وكذلك ما جدوى أن يحول الوجه الآن إلى القبلة ؟ لأن من يحول وجهه في تلك الآونة يمت جنباً فلا تبحث عن الطهر لديه . المقالة الثالثة والعشرون عذر طائر آخر الأبيات من 2051 – 2078 قال آخر له : إنني أعشق الذهب حتى أصبح عشق الذهب في جسدي كاللهب ، وإن لم تكن في يدي وردة ذهبية فإنني لا أستطيع الاستقرار كوردة متفتحة ، فعشق الدنيا وذهبها بالنسبة لي جعلاني مفعماً بالدعوى خلياً من المعنى . قال الهدهد : يا من تملكته الحيرة من الصورة لقد اختفى من قلبك صبح الصفا ، لقد بقيت في عمى ليلاً ونهاراً كما بقيت كالنملة للصورة أسيراً فكن رجل معنى ولا تتردد في عالم الصورة ، فالمعنى هو الأصل وعدمٌ تلك الصورة ، والذهب ما هو إلا حجر طلي بلون لذا فأنت طفل ابتلي باللون ، والذهب الذي يشغلك عن الرب ما هو إلا صنم فكن حذراً وألقه في التراب . إذا كان الذهب لائقاً بمكان ما في النهاية ، فهو لائق بقفل فرج البغل ، إن الذهب لا يتيح لك فرصة مصادقة أحد كما يسلبك أي صبر ، وإن تعط مقدار حبة ذهباً إلى صوفي فإما أنك تقتله بذلك وإما أنك تقتل بذلك نفسك ، ويجب عليك ألا تتشبه بعمرو أو بزيد لأنك لو تعطى مقدار حبة للزمك مقام الجنيد . بكومة ذهب تصادق الخلق ، وبهذه الكومة تكون لصاً موسوم الكتف ويلزمك أن تدفع إيجار متجرك كل شهر ولكن أي مخزن ذهب يلزمك ؟ لقد فنى عمرك الغالي وكذا روحك المعذبة حتى تكسب فلساً واحداً من دكانك ، فيا من يعطى كل شيء بلا مقابل هكذا أوقفت قلبك على الكل ولكن يلزمني الصبر فإن الزمان بلا شك سيسحب سلمك من أسفل المشنقة ، أنت غريق في الدنيا وكان يلزمك أن تكون غريق الدين ولن تلتقي أيها العزيز الدنيا مع الدين مطلقاً ، إنك تبحث عن الفراغ في دار المشغلة وعندما لا تجده ستصاب بالغمة والهموم .. أنفق كل ما تملك وفي كل اتجاه فلن تنالوا البر حتى تنفقوا ، ويجب التخلي عن كل ما هو موجود بل يجب التخلي عن الروح كذلك فإن لم تستطع التخلي عن الروح فلن تستطيع التخلي عن المال والملك حتى ولو كان مخدعك من ثوب خلق فهو بالنسبة لك عقبة في الطريق ، فأحرق هذا الثوب أيها العارف بالحق وإلى متى تخادع الحق بارتداء الثوب الخلق ؟ فإن لا تحرق ذلك الثوب هنا خوفاً عليه فكيف تصل في الغد عارياً إلى ساعة الحشر العظيم ؟ فما أكثر ما تتعلق به في الدنيا وسيصبح كل منها خنجراً حاداً مصوباً إليك . ويل لكل من أصبح أسير نفسه حيث يضيع في الحسرات من رأسه إلى قدمه ، أيها الغلام إن كلمة أو تتكون من حرفين هما الألف والواو وأنا أراهما في كلمتي خاك ( تراب ) وخون ( دم ) على الدوام ، فانظر الواو وقد استقرت وسط كلمة خون وانظر الألف وقد استقرت ذليلة وسط كلمة خاك . المقالة الثالثة والعشرون حكاية 1 الأبيات من 2079 – 2091 ملك أحد المريدين الجدد قليلاً من الذهب وكان يخفي عن شيخه هذا الذهب لكن الشيخ كان يعرفه ولم يقل شيئاً طالما ظل الذهب في الخفاء ، ثم ذهب المريد وشيخ الطريق معاً في سفر فبدا واديهما أمامهما جد مظلم ثم وضح في هذا الوادي طريقان ، فتملك الخوف من يملك الذهب حيث جعله الذهب يبدو كذليل مضطرب فسأل الشيخ : لم وضح أمامنا طريقان ؟ وأي طريق نسلك في هذا المكان ؟ فقال الشيخ : تخل عن كل معلوم لديك لأنه خطأ وأي طريق تسلكه فهو مقبول جائز ، فإذا كان لإنسان أن يعادي الفضة فسرعان ما يفر الشيطان خوفاً منه ولكي تتبين ما لخردلة من الذهب الحرام في يوم الحساب يلزمك أن تكون دقيقاً دقة من يقد الشعرة ، وقد عدت ثانية إلى الدين كحمار أعرج ووضعت يدك تحت الأحجار بلا جدوى وإن تقبل على السرقة فأنت شيطان وإن تقبل على الدين فأنت سلطان ، وكل من قطع الذهب الطريق عليه ضاع في الطريق وظل مقيداً أسير البئر ، فيا شبيهاً بيوسف تخلص من هذه البئر العميقة ولا تنطق بحرف فهذه البئر لها فوهة عجيبة . المقالة الثالثة والعشرون حكاية 2 الأبيات من 2092 – 2105 ذهب شيخ البصرة عند رابعة وقال : يا من أنت في العشق صاحبة الواقعة قولي طرفة لم تسمعيها من أحد ولم تقرئيها عن أحد ولم تشاهديها ، فلك بهاء أكثر منا أجمعين فهيا قولي فكم تشوقت روحي . قالت رابعة : يا شيخ الزمان لقد نسجت حبلاً مرات ومرات وحملته وبعته فسر قلبي إذ كانت حصيلتي درهمين من فضة وما أمسكت بالإثنين معاً في قبضة واحدة بل أمسكت أحدهما في هذه اليد والآخر في تلك ذلك لأنني خشيت إذا اجتمعت قطعتا الفضة ألا أنام خوفاً من اللص . عابد الدنيا قلبه وروحه مليئان بالهموم وتعترض طريقه مئات الألوف من العقبات الجسام ودواماً تبحث يده عن إحراز قطعة ذهب عن طريق الحرام وما أن تصل يده إلى إدراكها حتى يموت والسلام ثم يكون الذهب لوارثه حلالاً ، أما هو فقد يظل الذهب بالنسبة له وبالاً . يا من بعت السيمرج بالذهب سيحترق القلب كالشمعة بعشق الذهب ، إذا كانت هذه الطريق لا تتسع لشعرة واحدة فكيف تتسع للصرة والذهب والفضة ؟ وإن تضع قدمك في الطريق يا شبيهاً بالنملة فمن العسير عليهم أن ينتزعوا شعرة واحدة من رأسك ، وإذا لم تكن هناك بادرة أمل في رؤية الأحبة فليس لشخص قدرة على البقاء بهذه المحلة . المقالة الثالثة والعشرون حكاية 3 الأبيات من 2106 – 2119 ذلك العابد الذي نال السعادة من الله قد ظل أربعمائة سنة في عبادة الله حيث اعتزل الخلق كما كان يحدث الله بالسر الخفي من وراء الحجب فكان الحق قرينه ولا قرين له غيره وكفاه أن الحق كان قرينه .. وكان لهذا العبد بستان تتوسطه شجرة وقد اعتش طائر على هذه الشجرة وكان الطائر عذب الألحان جميل الصوت وكل لحن يحيط بمائة سر فوجد العابد في جمال صوته بعض الأنس في صحبته .. أخيراً أوحى الحق لرسول ذلك الزمان بأن يقول لذلك الخليق بالأعمال : أفي النهاية ويا للعجب جعلت طاعتك هكذا أناء الليل والنهار ؟ كنت تحترق السنين شوقاً إلي حتى بعتني في النهاية بطائر ! إذا كان الطائر غاية في الفطنة والذكاء فقد خدعك في النهاية بصوته ، أما أنا فقد اشتريتك وعلمتك فإذا بك تبيعني نتيجة لخستك ، ولقد أحرقت بيدر الأنس والألفة فممن تعلمت هذا الوفاء ؟ إنك تبيع غاية في الرخص فلا تفعل وقد أصبحنا رفاقاً لك فلا تكن بلا رفيق . المقالة الرابعة والعشرون عذر طائر آخر الأبيات من 2120 – 2129 قال له آخر : إن قلبي مفعم بالنار وذلك لأن مسقط رأسي مكان جميل ، إنه قصر مطلي بالذهب يبعث في القلب المسرة كما أن النظر إليه يكسب الخلق بهجة ، وما أتمتع به من سرور نابع كله منه فكيف أنتزع القلب منه ؟ لقد أصبحت ملك الطير في ذلك القصر الشاهق فكيف أتحمل في النهاية هذه المشاق ؟ فإن أتنازل عن كل هذه السلطنة فكيف أعيش بدون مثل هذا القصر ؟ وأي عاقل تخلى عن جنة إرم ليختار في السفر المشقة والألم ؟! فقال الهدهد : يا عديم الهمة وعديم الشهامة ما أنت إلا كلب فوق موقد فماذا يتأتى منك ؟ وما الدنيا إلا هذا الموقد وما قصرك إلا جزء من هذا الموقد ، وإذا كان قصرك جنة الخلد فقد تحول مع الأجل إلى سجن المحنة وإن لم يكن الموت مسلطاً على الخلق لكان استقرارك في هذا القصر من اللائق .. المقالة الرابعة والعشرون حكاية 1 الأبيات من 2130 – 2144 شيد ملك قصراً مطلياً بالنضار وأنفق عليه الكثير من الدنانير وما أن أصبح ذلك القصر شبيهاً بالجنة تماماً حتى نظمه بالفرش والتحف وكل من قدموا إلى القصر من جميع الديار انهالت عليهم الخدمات من كل جانب ، ثم استدعى السلطان الحكماء والندماء وأجلسهم أمامه وجلس هو على العرش وقال : إن قصري على أي حال لا يوجد ما يشوبه في عالم الحسن والجمال .. قالوا جميعاً : إنهم لم يروا ولن يرى أي فرد مثل هذا على وجه الأرض ولكن زاهداً نهض وقال : أيها السعيد الحظ لقد بقي به عيب وهو عيب جد خطير فإن لم يكن في هذا القصر ذلك العيب لكان كقصر من قصور الفردوس . قال السلطان : ولكنني لم أر فيه أي عيب فلعلك تحرض أيها الجاهل على الفتنة . فقال الزاهد : يا من يتعالى بالسلطنة عيبه أن عزرائيل سيعوده فماذا أنت فاعل مع هذا العيب الكبير ؟ وإلا فأية قيمة لقصرك وتاجك وعرشك ؟ إذا كان هذا القصر شبيهاً بالجنة حسناً فسيجعله الموت يزداد في نظرك قبحاً لن يخلد شيء قط وإذا كان هذا المكان موجوداً الآن فلن يخلد أبداً فهل لهذا الأمر من حيلة ؟ فلا تفاخر بقصرك كثيراً ولا تركض جواد كبريائك وهو جموح ، وإذا كان هناك شخص لا يقول لك عيبك وذلك هيبة من سلطانك ومكانتك فالويل لك .. المقالة الرابعة والعشرون حكاية 2 الأبيات من 2145 – 2150 شيد تاجر مفتون قصراً عجيباً وقد طلاه بالذهب وما أن انتهى من تشييده حتى دعا الجميع لمشاهدته فدعا خلقاً عديدين وعجب ليروا قصره الجميل ، وفي يوم الدعوة كان الرجل المفتون يسرع الخطى هنا وهناك فرآه مجذوب قضاء وقدراً فقال له : إنني أرغب في الإسراع لألقي نظرة على قصرك يا عديم النضج ولكني مشغول فالتمس لي عذراً قال هذا ثم قال : لا تتعب نفسك كثيراً .. المقالة الرابعة والعشرون حكاية 3 الأبيات من 2151 – 2172 أرأيت عنكبوتاً لا يقر لها قرار إذ تقضي الوقت سابحة في عالك الخيال ، إنها تصنع شبكة عجيبة من هوسها إذ ربما تسقط ذبابة في حبالتها ، وعندما تتردى ذبابة في هذه الحبالة فإنها تمتص دماء شرايين تلك الفريسة ثم تجففها في مكانها حيث تتخذها طوال فترة طعاماً لها ، وفجأة ينهض صاحب الدار وقد أمسك بعصا في يده فيقوض في لحظة دعائم بيت العنكبوت وكذا الذبابة .. الدنيا ومن يرتزق فيها أشبه بذبابة داخل بيت العنكبوت فإن دانت لك الدنيا كلها فسرعان ما تضيع منك في غمضة عين وإن كنت بسلطنتك في كبر وتعال فما أنت إلا طفل في الطريق تتلهى بخيال الظل فلا تطلب الملك إن لم يكن لك عقل حمار إذ يعطى الملك للدواب أيها الجاهل .. كل من يملك طبلاً وعلماً ليس درويشاً إذ ليس له من عمل غير الريح والصوت الريح في العلم والصوت في الطبل وتلك الريح وهذا الصوت لا يساويان أكثر من نصف دانق فلا تركض كالأبلق السخف هكذا ولا تتدلل في غرور سلطنتك هكذا وسيسلخ النمر في النهاية كما ستسلب من نفسك بلا توان ، وإذا صح المحال في محيط الرؤية فالضياع أفضل وإلا فالانتكاس رأساً على عقب ، ليس في إمكانك التعالي والغرور فاخفض رأسك فإلام المخاطرة ؟ فإما أن تطأطيء الرأس ولا تتظاهر بالسيادة مرة أخرى وإما أن تمتنع عن المقامرة .. يا من قصرك وحديقتك هما سجنك إن ثروتك هي بلاء روحك تخل عن الدنيا الغرور وإلام تجوب الدنيا المليئة بالفجور ؟ فافتح عين الهمة وتمحص الطريق وانظر إلى الأعتاب وامض في الطريق وإذا ما أوصلت روحك إلى تلك الحضرة فلن تتسع الدنيا لك لما أنت فيه من العظمة. المقالة الرابعة والعشرون حكاية 4 الأبيات من 2173 – 2184 كان رجل نحيل مهموم يحث الخطى قاصداً الصحراء حتى وصل إلى صوفي هناك فقال : كيف تملك أيها الصوفي زمام أمرك ؟ قال : عن أي شيء تسأل في النهاية ؟ لتلتزم الخجل لقد عشت في ضنك هذه الدنيا حتى ضاقت بي دنياي في هذا الزمان .. قال الرجل : إن ما قلته يجافي الحقيقة فهل ضاقت بك الصحراء الشاسعة ؟ قال الصوفي : إن لم يكن هذا المكان ضيقاً لما وقفت علي هنا مطلقاً ، إن وعدت وعوداً عديدة براقة فهذه علامة على أنه سيلقي بك في النار المحرقة وما نارك إلا الدنيا فابتعد عن هذه النار وافعل كما فعل الأبطال وكن حذراً من هذه النار وإن تخليت عنها ملكت زمام قلبك بعد ذلك يكون قصر السرور في متناول يدك ، النار في المقدمة والطريق جد طويلة والجسد ضعيف والقلب أسير والروح نافرة ، أنت خالي الوفا من كل شيء فأقبل على العمل واجتهد فيه . إذا كنت قد خبرت الدنيا فقدم روحك نثاراً فلن تجد من الدنيا اسماً أو أثراً وإن تركت الكثير فلن ترى شيئاً مطلقاً وماذا أقول بعد كل هذا ؟! فلا يتملكك الغضب مطلقاً . المقالة الرابعة والعشرون حكاية 5 الأبيات من 2185 – 2191 كان هناك أبله مات فلذة كبده فانعدم الصبر والراحة والاستقرار عنده وسار صاحب المأتم خلف النعش لا يقر له قرار ثم صاح متأوهاً : يا ولدي يا من مضيت ولم تر الدنيا كيف رحلت عن هذه الدنيا ؟ سمع مجذوب هذا القول ورأى هذا الفعل فقال : لقد رأى الدنيا مائة مرة وأنت إن ترغب في حمل الدنيا معك فستكون كمن لم يرها كذلك فإلام تظل تطمع في هذه الدنيا ؟ لقد انقضى العمر فمتى تصنع دواء لهذا الداء ؟ وإن لم تتخلص من نفسك الخسيسة فستفنى روحك الغالية في النجاسة .. المقالة الرابعة والعشرون حكاية 6 الأبيات من 2293– 2192 كثيراً ما كان يحرق ذلك النافل الأعواد ثم يطلق في كل مرة زفرة طرب واستحسان فقال ذلك العزيز المشهور لذلك الرجل : إلام تطلق الزفرة والعود يحترق ألماً ؟! المقالة الخامسة والعشرون عذر طائر آخر الأبيات من 2194 – 2219 قال آخر له : أيها الطائر العظيم القدر إن عشق المحبوب ألقاني في الأسر ، فقد اعترض عشقه طريقي فسلبني عقلي وفعل معي فعله وأصبح خيال وجهه قاطع طريقي وأضرم النار في كل بيادري وبدونه لا يمكن أن يقر لي قرار لحظة والصبر عن هذا المعشوق كفر عندي ، وإذا كان قلبي قد احترق بين الآلام والأحزان فكيف أستطيع سلوك الطريق أنا الولهان ؟! إذا كان هناك واد يجب سلوكه فهناك مئات البلايا يجب تحملها ، وبدون وجه ذلك القمري الوجه كيف أستطيع سلوك الطريق ؟ إن دائي لا دواء له وأمري خارج عن نطاق الكفر والإيمان وكفري وإيمانه من نتاج عشقه كما أن النار في روحي مبعثها عشقه ، وإن أعدم المعين على هذا الغم فلا رفيق لي في العشق غير الغم وعشقه ألقاني وسط التراب والدم وأخرجتني زلفتاه من عالم الحجب وعندما عدمت القدرة معه فإنني لا أستطيع الصبر لحظة دون طلعته ، ولقد غرق تراب طريقي في الدم فماذا أصنع ؟ وهذا هو حال قلبي فالآن ماذا أصنع ؟ قال الهدهد : يا من بقيت أسير الصورة ويا من ظللت أسير الهم من الرأس إلى القدم ، إن عشق الصورة ليس عشق المعرفة بل هو اللعب بالشهوة يا حيواني الصفة ، إن الجمال الذي يؤول إلى النقصان يكون في عشقه للرجل كل خسران ، والصورة التي تزين بالأخلاط والدم تسمى بعد ذلك بقمر التم ، ولكن إذا بهتت ألوان تلك الصورة لما وجد أقبح منها في هذا العالم ، ومن يكن حسنه من الأخلاط والدماء فأنت تعلم كيف تكون نهاية هذا الحسن .. ما أكثر ما طفت حول الصورة تبحث عن العيوب ، أما الحسن ففي عالم الغيب فابحث عن الحسن لدى الغيب ، وإذا سقط الحجاب من أمام العمل فلن تبقى الديار ولا الديار وتنمحي صورة الآفاق جميعها ويتبدل عز الجميع إلى ذل وعشق الصورة يا من يبحث عن المعنى يعادي بعضه بعضاً ، أما من يعشق عالم الغيب فهذا هو العشق الحق إذ يخلو من كل عيب فإن يقطع شيء غير هذا العشق الطريق عليك فلن يكون هناك إلا ندم كثير يصيبك .. المقالة الخامسة والعشرون حكاية 1 الأبيات من 2220 – 2227 كان أحد المهمومين يبكي أمام الشبلي فسأله الشبلي : لم هذا البكاء ؟ فقال : أيها الشيخ لقد كان لي حبيب سلبني الروح وبالأمس توفى فمت غماً وكمداً عليه وأصبحت الدنيا بموته مجللة بالسواد أمامي .. قال الشيخ : إن كنت قد فقدت قلبك بسبب هذا فالنتيجة هذا الغم ولا يليق بك أكثر من هذا وما عليك إلا أن تتخذ حبيباً آخر حبيباً لا يموت حتى لا تموت كمداً عليه ، فالمحبة التي يصيبها النقصان بالموت صداقتها تجلب للروح الهموم والمشقة .. كل من ابتلي بعشق الصورة تحدق به المصائب من هذه الصورة وسرعان ما تخرج تلك الصورة من يده فتتملكه الحيرة ويبقى أسير حزنه وكمده .. المقالة الخامسة والعشرون حكاية 2 الأبيات من 2228 – 2239 ملك أحد التجار الكثير من الأموال والعقار كما كان لديه جارية شفتها في حلاوة السكر ، وفجأة باعها فرحلت عن الديار فتملكه اليأس والقنوط والصغار فذهب إلى سيدها وهو لا يقر له قرار ذهب ليشتريها ثانية بثمن يزيد ألف دينار وقد أصيب بالحرقة أمام هذه الرغبة ولكن سيدها لم يبعها ثانية فكان التاجر يهيم في الطرق على الدوام وهو ينثر التراب على رأسه وأخذ ينوح قائلاً : إن غمي لجد عظيم ومن ذا الذي ابتلي بمثل هذا الغم إذ تملكته الحماقة وأغلق عينه وعقله وباع بدينار معشوقته ، كم زينتها بنفسك يوم السوق وطلبت لنفسك المضرة والمشاق ! كل نفس من أنفاس عمرك جوهر وكل ذرة منك لدى الحق بمثابة مرشد ، ونعماء الحبيب تشملك من أولك إلى آخرك فأحص بنفسك نعماء حبيبك حتى تعلم عمن بعدت وتعلم أنك صبرت كثيراً على الفراق ، لقد خلقك الله غاية في العز والدلال أما أنت فقد بقيت مع الغير مما بك من جهل .. المقالة الخامسة والعشرون حكاية 3 الأبيات من 2240 – 2260 ذهب أحد الملوك إلى الصحراء للصيد وقال لمدرب الكلاب : أحضر الكلب السلوقي . كان للملك كلب مدرب له رداء مخيط من الحرير والأطلس وطوق مرصع بالجواهر تدلى من عنقه للزينة والفخر ووضعت في رجليه ويديه خلاخيل ذهبية كما وضع في رقبته خيط حريري ناعم الملمس ، وكان الملك يعامل كلبه برقة فأمسك بخيط الكلب وتقدم الملك فتبعه الكلب مسرعاً ثم اعترض طريق الكلب بعض العظم فما تخلى الكلب عن مكان العظم . نظر الملك حيث توقف الكلب فاشتعلت نار الغيرة في رأس الملك اشتعلت نارها لأن الكلب قد ضل الطريق فقال : أفي النهاية مع ما لمثلي من سلطان يمكن النظر إلى غيري ؟ فقطع ذلك السلطان الخيط وقال : أطلقوا سراح هذا الجاهل في التو والحال ، لو طعم الكلب مائة ألف إبرة لكان هذا أفضل من هذا العمل الشائن . قال مدرب الكلاب : إن الكلب مزدان بالجواهر وقد فكت جميع قيوده فإذا كان هذا الكلب قد أصبح بالصحراء والفيافي أليق فالحرير والذهب والجواهر بنا أليق .. قال الملك : اتركه على ما هو عليه وامض وطهر قلبك من الذهب والفضة وامض ، حتى إذ عاد إلى رشده رأى نفسه مزداناً هكذا فيتذكر أن كان له صاحب وأنه قد انفصل عن ملك مثلي .. يا من صادقت رفيقاً في البداية ثم عن طريق الغفلة انفصلت عنه في النهاية ، ضع قدمك في طريق العشق الحقيقي تماماً واشرب الكأس مع التنانين كالرجال ومهما مثلت التنانين بالطريق فعلى العشاق سفك دمائهم ، ومن يؤذ روح إنسان تكن التنانين مجرد نملة أمام إيذائه ، وإذا كان عاشقوه واحداً أو مائة فإنهم يظلون في طريقه متعطشين لدمائه .. المقالة الخامسة والعشرون حكاية 4 الأبيات من 2261 – 2272 عندما علق الحلاج على الأعواد في ذلك الزمان ما ردد لسانه غير قولة أنا الحق ، ولما لم يفهم الخلق قوله قطعوا أوصاله وما أن نزف الدم غزيراً حتى علا الاصفرار وجهه إذ كيف يظل احمرار وجه الإنسان في ذلك الموقف ؟! وذلك الذي له مسلك الشمس سرعان ما حك وجهه القمري بيده المقطوعة وقال : إذا كانت الحمرة التي تزين وجه الرجال هي الدماء فقد جعلت الآن وجهي أشد حمرة بتلك الدماء ، وذلك حتى لا يبدو أصفر في عين أحد فما أكثر حاجتي لأن يكون وجهي مشرباً بالحمرة لأني لو بدوت لأحد أصفر الوجه فربما ظن أن الخوف هنا قد تملكني ، ولما لم يخامرني الخوف قيد شعرة فلا بد وأن يكتسي وجهي بالحمرة ، وحينما يوجه الجلاد رأسي نحو المشنقة فسيكون تجاه أسد في الشجاعة ، ولما كانت دنياي كحلقة حرف الميم فكيف يتملكني الخوف في هذا الموقف ؟ ومن استطاع أن يرقد ويطعم مع الحية ذات الرؤوس السبعة في شهر تموز قد صادف الكثير من هذه الترهات وأقل شيء أصابه هو الشنق .. المقالة الخامسة والعشرون حكاية 5 الأبيات من 2273 – 2279 تكلم الجنيد قدوة الدين وذلك البحر العميق ذات ليلة في بغداد فدفع سمو كلماته السماء للركوع على أعتابه صادية القلب ، وكان للجنيد ابن يماثل الشمس في الجمال والحسن فقطعت رأس ذلك الابن وألقيت بين الجمع في ذلة وانكسار ، وعندما رأى الجنيد تلك الرأس الطاهرة لم ينطق بحرف وأسلم قلبه للجمع مرة أخرى ثم قال : ذلك القدر العظيم الذي وضعته الليلة من الأسرار القديمة إذا كان في احتياج لنار تطهيه فلن يحتاج إلى أقل من هذه ولا أكثر . المقالة السادسة والعشرون عذر طائر آخر الأبيات من 2280 – 2294 قال له آخر : إنني أخشى الموت فالطريق طويل وقد عدمت الزاد والقوت وهكذا يرهب قلبي الموت ، إن روحي ستزهق في أول مرحلة حتى وإن أكن الآن سيد الأجل وذا حول وطول وإن يحل الأجل أمت متألماً متأوهاً ، فكل من يغالب الأجل بقوة السيف تصبح يده قلماً ويتحطم ما بيده من سيف ، وا أسفاه لن يبقى في هذه الدنيا من اليد والسيف غير الأسى ، فوا حسرتاه . قال له الهدهد : أيها الضعيف العاجز إلى متى ستبقى حفنة من عظام ؟ فيا من ستختلط ببعضها البعض ومن سيذوب عقله في عظامه أنت لا تعرف هل يطول عمرك أو يقصر وما الباقي من العمر إلا لحظات إلام نعيشها ؟ كما أنك لا تعرف أن كل فرد من بني البشر مآله التراب وكل ما بيده ستذروه الرياح فلقد ربيت لموتك وبعثت إلى الأرض من أجل حملك . ما الفلك إلا طست مقلوب ويغص هذا الطست كل ليلة بالدم من الشفق ، فإذا مرت الشمس بسيوف أشعتها فإنها تلقي كل هذه الرؤوس المدببة في طستها ، وإذا كنت قد أقبلت ملوثاً أو طاهراً فما أنت إلا قطرة ماء وسط الثرى ، وإذا كانت قطرة الماء كلها آلام فكيف تستطيع منازلة البحر في عراك وخصام ؟ حتى ولو كنت ذا حول وطول طوال عمرك في الدنيا فستسلم روحك بكل حرقة وأسى . المقالة السادسة والعشرون حكاية 1 الأبيات من 2295 – 2328 الققنس النادر طائر جذاب ومقر هذا الطائر بلاد الهند والبنجاب ، له منقار صلب طويل عجيب يشبه الناي وبه العديد من الثقوب ، ففيه ما يقرب من مائة ثقب وفتحة ، ولا زوج له إذ يعيش في عزلة ، ولكل ثقب نغمة متباينة ووراء كل نغمة أسرار مغايرة ، فإن ينح بكل الثقوب متأوهاً يفقد السمك والطير راحتها واستقرارها ويسيطر الصمت على جميع الطيور وتصبح إزاء صوته فاقدة الشعور ، وأمام مكانته هذه هام به فليسوف وتعلم الموسيقى من صوته العذب . وكان عمر الققنس قد ناهز الألف أو اقترب لذا وضح أن موعد أجله قد قرب ، وعندما حان وقت انتزاع قلبه وموته إذا به يجمع حوله من الحطب مائة كومة ويظل لا يعرف الراحة والاستقرار وسط الحطب ويواصل النواح بحرقة واضطراب ، فكان كل ثقب يرسل بفعل روحه الطاهرة نواحاً متبايناً يحمل الأسى والحرقة وعندما ينوح بكل الثقوب يكون لكل ثقب لحن مختلف ، وفي وسط النواح كانت فرائصه ترتعد خشية الموت وكأنه ورقة شجر . أمام هذا الصراخ وذلك الصوت كانت الطير جميعها وكذلك الحيوانات المفترسة تقبل صوبه لتنظره وقلوبهم قد تخلت عن الدنيا لشدة أحزانهم ، وفي ذلك اليوم وبسبب ما به من غم ما أكثر الحيوانات التي تسلم الروح أمامه ويصبح الكل حيارى من النواح ويصير البعض من العجز فاقدي الأرواح . وأعجب الأيام يومه فهو ينزف دماً من آلام قلبه ، وعندما يصل عمره إلى آخر زفرة يرفرف بجناحيه إلى الأمام والخلف وتتطاير النار من جناحه ، بعد ذلك تصبح النار كل حاله وسرعان ما تسقط النار في الحطب فتحرق حطبه وهو في قمة السرور ، ويصبح الطائر والحطب كلاهما جمرة من نار ثم تتحول الجمرة بعد ذلك إلى رماد ، وما أن يختفي كل شيء حتى يبدو الققنس من بين الرماد ، إن النار تحيل الحطب رماداً فكيف يعاود الققنس الظهور من بين الرماد ؟! ما حدث هذا لإنسان قط في الحياة ومن ذا الذي يلد أو يولد بعد الممات ؟! وإن تمنح عمراً مديداً كالققنس فإما أن تموت وإما أن تكلف بالمزيد من الأعمال ، كم ألم الاضطراب بالققنس خلال الألف سنة ، فكثيراً ما كان ينوح حزناً على نفسه ويطلق الآهات ، وقد قضى تلك السنوات حبيس الأحزان والغمة بلا ولد ولا زوجة حبيس الوحدة والعزلة ، كان عديم القربة في جميع الأرجاء وقد استراح من محنة الأولاد والنساء ، وعندما حل به الأجل في آخر حياته أصبحت ذرات رماده نثاراً في مهب الريح .. لعلك تعلم أنه بسبب مخلب الأجل لن يستطيع فرد إنقاذ روحه ولو بشتى الحيل وفي جميع الآفاق ، لا وجود لإنسان لن يدركه الموت ، وانظر إلى هذه العجائب إذ لا حيلة لأي شخص حيالها أو قوة ، ومهما كان الأجل ظالماً قاسياً فعليك أن تطأطيء له الرأس راضياً ، وإذا كانت أمور كثيرة ألمت بنا فهذا الأمر أقسى منها وأشد بالنسبة لنا . المقالة السادسة والعشرون حكاية 2 الأبيات من 2329 – 2334 كان أحد الأطفال يتوجه صوب قبر أبيه وهو يذرف الدمع ويقول : أبي إن هذا اليوم الذي أصاب روحي بالآلام ما أصابني مثله من قبل طوال أيامي . فقال له صوفي : من كان لك أب ، ما مر عليه مثل هذا اليوم مطلقاً ، وليس أمراً ذا بال ما أصاب الابن ولكن الأمر غاية في الإشكال بالنسبة للأب . فيا من أتيت إلى الدنيا فاقداً قدمك ورأسك ستظل الريح تنثر التراب على رأسك حتى ولو تجلس في صدر المملكة فسترحل وما في يدك غير قبض الريح ! . المقالة السادسة والعشرون حكاية 3 الأبيات من 2335 – 2344 عندما أسرع الموت صوب عازف الناي سأله أحد الأشخاص : يا من هو في عين السر كيف حالك وقت الشدة ؟ قال : لا يمكن التعبير عن حالي مطلقاً فقد كنت طوال حياتي كالريح عاتياً وسرت في النهاية صوب التراب وليس لي من داء غير مواجهة الموت فقد نضبت نضارة وجهي من الحرقة . لقد ولدنا جميعاً من أجل الموت ولن تخلد الروح لذا أسلمنا القلب ، ومن ملك العالم تحت إمرته صار في هذا الزمان رماداً تحت الثرى ، ومن وخذ الفلك برمحه سرعان ما أصبح كماً مهملاً في لحده ولقد رقد الجميع تحت التراب وهم غاية في الاضطراب . انظر إلى الموت فما أصعبه من طريق وما القبر إلا أول مراحل هذا الطريق ولو تعلم شيئاً عن مرارة موتك لسيطر الاضطراب والهم على روحك . المقالة السادسة والعشرون حكاية 4 الأبيات من 2345 – 2359 شرب عيسى ماء من نهر عذب فكان طعم الماء يفوق في عذوبته ماء الورد ، وملأ شخص آخر جرة من هذا النهر ومضى ، فجاءه عيسى وشرب من ماء الجرة فأصبح فمه غاية في المرارة من ماء الجرة ، فعاد وقد تملكته الدهشة والحيرة وقال : إلهي إن ماء الجرة وماء النهر كلاهما من ماء واحد فما السر ؟ ولم يبدو ماء الجرة غاية في المرارة ؟ ولم يبدو ماء النهر يفوق العسل المصفى حلاوة ؟! جاءت تلك الجرة صوب عيسى تحادثه فقالت : يا عيسى إنني كرجل مسن أصابه الوهن فقد عشت عمراً مديداً تحت قبة الأفلاك التسعة فصرت كأساً وجرة وغرارة ، وإن تجعلوني جرة ألف عام فلن يكون لي إلا مرارة الموت والهم وسأظل أشهر بالمرارة من الموت على الدوام كما يظل مائي بسبب هذا الهم مراً على الدوام . أيها الغافل لتبحث عن الأسرار في النهاية لدى الجرة ولا يتملكك العجب والدلال من الغفلة أكثر من هذا ، ولقد أفنيت نفسك يا من تبحث عن السر وقبل ذلك كانت لك روح باحثة عن السر، وإن لا تجد حياتك مرة أخرى فكيف يكون في مقدورك عندما تموت معرفة سرك؟ ولن تستطيع بفطنتك معرفة أي خبر عن نفسك كما لن يبقى لك أي أثر بعد موتك ، الحي مآله الفناء وراء أشياء تافهة ، فقد ولد خليقاً بالآدمية ولكنه حاد عنها بعد ذلك ، فمئات الألوف من الحجب تقف في طريق ذلك السالك فكيف يستطيع إدراك نفسه بعد ذلك ؟! المقالة السادسة والعشرون حكاية 5 الأبيات من 2360 – 2364 عندما كان بقراط في النزع الأخير كان معه تلميذه فقال : أستاذي الكبير كيف نكفنك ونطهر جسدك ؟ وفي أي مكان من الأرض نضعك ؟ قال : إن كنت ترغب في العثور علي مرة أخرى فادفني في أي مكان ترغب ، ولكني عشت عمراً مديداً ولم أجد نفسي فكيف تجدني أنت بعد موتي ؟ فإذا ما رحلت فهذا وقت الفناء حيث لن تعرف شعرة واحدة من شعر رأسي أي خبر عني . المقالة السابعة والعشرون عذر طائر آخر الأبيات من 2365 – 2376 قال له آخر : يا طاهر الاعتقاد لم تمر بي لحظة واحدة وفق المراد ، فقد قضيت عمري كله في غم دائم كما كنت بائساً في هذا العالم ، وكم أنا مهموم إذ غص قلبي بالأحزان وأعيش في مأتم دائم بسبب هذه الأحزان ، وعشت على الدوام في عجز وحيرة وأكون كافراً لو أني شعرت بالسرور لحظة وبسبب كل هذا عشت أسير المشقة ، وسيصيبني الفناء والضياع إن تقدمت في الطريق خطوة ، فإن لم تكن هذه الهموم قدري لكان القلب غاية في السرور بهذا السفر ، ولكن إذا كان قلبي مفعماً بالأحزان فماذا أفعل ؟ وقد قصصت عليك حالي فماذا أفعل ؟ قال الهدهد : أيها المغرور لقد أقبلت مفتوناً ولهاً وغرقت من أولك إلى آخرك في الهوى ، عليك بالتخلي لحظة عن كل ما هو مرغوب ومكروه في هذه الدنيا ، فكل من يتخلى عن هذه الأشياء لحظة فإنه يتخلى عن عمره بدون ذلك الجنون . إن تتخل عنك الدنيا فتخل عنها أنت أيضاً واتركها دون أن تعيرها اهتمامك أبداً ، وكل من يربط قلبه بشيء غير باق فلن يظل قلبه حياً على الإطلاق .. المقالة السابعة والعشرون حكاية 1 الأبيات من 2377 – 2391 كان أحد السالكين عالي الهمة لم يشرب قط من يد مخلوق أي شربة ، فسأله سائل : يا من ينتسب إلى الحضرة العلية لم لم تتولد لديك في الشرب أي رغبة ؟! قال : إنني أرى الموت يقف متأهباً فإن أشرب فسرعان ما ينقض ، ومع هذا الموت الموكل بي يوجد سمي إن أشرب ، وكيف تكون شربتي عذبة مع هذا الموكل بي ؟ إنها ليست من ماء الورد بل من نار .. كل شيء لا يبقى إلا لحظة لا يساوي نصف دانق حتى ولو كان هذا الشيء هو العالم ، لا يكون الوصال من أجل ساعة فكيف أقيم بنياناً بغير أساس ؟؟! إن كنت سيء الحال لعدم تحقيق المراد فإن البعيد عن النوال يكون في لحظة قريب المنال ، وإن يصبك مكروه أو ألم فهذا مجال فخر لك لا مجال حسرة وتألم ، وكل ما أصاب الأنبياء من بلاء لا وجه شبه بينه وبين ما حدث في كربلاء ، ما يبدو لك في صورة ألم يعد في نظر ذوي العقول كنز والعناية تحرسك في كل لحظة ، كما يملأ إحسانه عالمك كلية ولكن لا نستطيع تذكر إحسانه وإنما ترى القليل من إيلامه فأين دليل المحبة في هذه الحال ؟؟! فامض يا عديم اللب ويا من كلك قشور ، إن كانت المحبة تلزمك في طريق العشق فيلزم أيضاً الاضطراب والدوار لروحك ورأسك كذلك .. المقالة السابعة والعشرون حكاية 2 الأبيات من 2392 – 2405 كان يوجد ملك حسن الطوية وقد أنعم ذات يوم على غلام بفاكهة فكان الغلام يأكل فاكهته بنهم وقال : لم آكل ما هو أفضل منها وأطعم ، ولحسن ما كان يأكل الغلام تولدت لدى الملك رغبة في الاقتسام فقال : أيها الغلام أعطني نصفها فما أطيب ما تأكله من طعام . أعطى الغلام الفاكهة للملك وعندما تذوقها ذلك الملك وجدها مرة فقطب الجبين وقال : إن ما فعلته لا يمكن حدوثه مطلقاً إذ كيف يصبح هذا الشيء المر حلواً يؤكل ؟؟! قال الغلام : يا ملك الملوك لقد أتحفتني بآلاف التحف من يدك ، فإذا كانت الفاكهة جاءتني من يدك مرة فلا أستسيغ إعادتها ثانية ، إن كنت تنعم علي بالكنوز في كل لحظة فكيف يصيبني شيء واحد مر بأي غصة ؟ وإن كنت أعيش في كنفك فكيف أشعر بالمرارة من يدك ؟ إن أصابتك مكاره كثيرة في طريقه فاعلم يقيناً بأن ذلك كنز وكفى ، وأمره نافذ من البداية إلى النهاية فماذا أنت صانع إذا نفذ أمره ؟! وما أن عزم المحنكون على المسير فما طعموا لقمة دون غصة أو ألم ، وكلما جلسوا ليطعموا خبزاً أو ملحاً فما كسروا كسرة خبز قفار بلا حزن أو ألم . المقالة السابعة والعشرون حكاية 3 الأبيات من 2406 – 2413 قال أحد العظماء لصوفي : كيف تمضي أيامك يا أخي ؟ قال : كنت أقيم في موقد حمام وقد أقمت فيه صادي الشفة مضطرباً ، ولكنني ما قضمت رغيفاً واحداً بالموقد حتى لا تقطع رقبتي . إن كنت باحثاً عن السعادة في هذا العالم أو مستسلماً للنوم فكلاهما سواء ، ولكن إن تبحث عن السعادة فعليك بالاحتياط حتى تصل كالرجال إلى هذا الصراط ، لا وجه للمسرة في هذا العالم كله إذ لا تساوي المسرة قيمة شعرة واحدة ، أي نفس موجودة شبيهة بالنار ومن ذا عاش سعيداً في كنفها ؟؟! فإن تطف بالدنيا كالفرجار تجد السعادة نقطة واحدة لم يلحظها أحد . المقالة السابعة والعشرون حكاية 4 الأبيات من 2414 – 2419 قالت تلك العجوز لشيخ ميهنة : ادع لي بالسعادة لقد تحملت المكاره قبل هذا ولم تعد لي طاقة أكثر من هذا ، فإن تعلمني دعاء السعادة فسيكون بلا ريب ورداً لي كل يوم . قال لها الشيخ : لقد انقضت فترة من الزمن وأنا راكع على هذا الحال ، وكثيراً ما أسرعت إلى ما تطلبين فلم أر ذرة واحدة ولم أجد ما تطلبين ، فإن لم يظهر دواء لهذا الداء فكيف تبدو السعادة للمرء ؟! المقالة السابعة والعشرون حكاية 5 الأبيات من 2420 – 2431 جلس سائل أمام الجنيد وقال : يا من أصبح صيداً لله بلا أدنى قيد كيف يحصل الإنسان على السعادة ؟؟! قال : في نفس الساعة التي يكون فيها واصلاً ، وطالما لم تمتد إليك يد السلطان بالوصل فجزاؤك عدم التوفيق . إنني لا أرى ذرة هائمة تنعم بالاستقرار إذ لا طاقة لها بوصل الشمس ، وإن تغرق الذرة في بحار الدم فمتى تتحرر من هذا الهم ؟؟! الذرة ذرة مهما كان نوعها وكل من يقول بغير ذلك مغرور ، فإن يقلبوها لا تبق على حالها فهي ذرة وليست عيناً لامعة ، وكل من ينشأ من الذرة أولاً يكون أصله في الحقيقة الذرة نفسها ، وإن لم تفن كلية في شمسها فأي ذرة حظيت بخلودها ؟؟! إنها ذرة سواء أكانت غاية في الحسن أو غاية في القبح ولو تركت عمراً ما خرجت عن أصلها ، وأنت أيتها الذرة تسيرين كالثمل على أمل أن تصبحي في دورانك كالشمس ، ولكنني أتذرع بالصبر ، فيا من لا يقر لك قرار كالذرة متى ترى عجزك واضحاً جلياً ؟؟! المقالة السابعة والعشرون حكاية 6 الأبيات من 2432 – 2445 قال الخفاش ذات ليلة : إن شعاع الشمس لا ينفذ إلي من أي منفذ وأعيش عمري مشوباً بالذلة وكأني أنهيه دفعة واحدة ، فهل أقضي السنين والشهور مطبق العينين حتى أصل في النهاية إلى ذلك المكان ؟؟! ( أي حيث توجد الشمس ) . قال له من يتمتع بقوة الإبصار : أيها الثمل المفتون ، إن الطريق بينك وبينه يحتاج إلى آلاف السنين ، وكيف يكون الوصول في هذا الطريق أمراً هيناً بالنسبة لك ؟ وكيف تستطيع النملة القابعة في بئر الوصول ولو إلى القمر ؟؟! فقال الخفاش : لا خوف يعتريني وسأواصل السير حتى تتضح لي نتيجة هذا العمل . قضى الخفاش سنوات ثملاً فاقد الوعي وقد عدم القوة والجناح والريش حتى أصبح في النهاية ذابل الجسد محترق الروح وألم به الضعف والوهن ، ولما لم يصله أي خبر من الشمس قال : ربما أنني تجاوزت الشمس . قال له أحد العقلاء : إنك في سبات عميق فكيف تخطو وأنت لا ترى الطريق ؟؟! والآن تقول : لقد تجاوزتها ، لذا أبدو ضعيفاً عاجزاً . أشعر هذا الكلام الخفاش بالذلة وهذا كل ما تبقى منه ثم اتجه إلى الشمس معترفاً بعجزه ، وفي الحال بدأ يتكلم بلسان الروح حبث قال : لعلك أدركت طائراً بصره حديد فلا تبتعدي عنه قيد أنملة بعد هذا . قال هذا الكلام مما به من حرقة وألم فجادت الشمس عليه بتحقيق الأمل وأصبح الضياء من نصيب الضرير وأقبل الحظ فأحال المسكين غنياً . المقالة الثامنة والعشرون سؤال طائر آخر الأبيات من 2446 – 2456 سأله آخر قائلاً : أيها المرشد ماذا يكون الحال إن انفذ الأوامر ؟ إنني لا يمكنني العمل مع تحمل الآلام لذا سأظل في انتظار أوامره على الدوام ومهما كان الأمر فسأنفذه بروحي وأن أعص الأمر فعلي الغرم . قال الهدهد : لقد أحسنت صنيعاً أيها الطائر بسؤالك هذا ولن يبلغ إنسان مرتبة الكمال أكثر من هذا ، كيف تكون هناك صاحب روح وأنت تحتفظ بها فصاحب الروح هناك من يطيع الامر بروحه ، فمن يطع الأمر ينج من الخذلان ويتخلص بيسر من كل مشقة وساعة في طاعة الأمر بالنسبة لك أفضل من أن تقضي العمر كله في طاعة بلا أمر صادر إليك . كل من يتحمل الكثير من الشدائد دون أمر مجرد كلب وليس من بني البشر فالكلب يتحمل الكثير من الشدائد ولكن أي نفع في ذلك ؟؟! لا شيء غير الضرر لأنه لا يطيع الأمر ومن يتحمل قليلاً من الشدائد طاعة للأمر فسيملأ ثوابه عالماً واسعاً . العمل هو تصديق الأمر فامتثل للأمر وما أنت إلا عبد فلا تقدم بمفردك على التصرف . المقالة الثامنة والعشرون حكاية 1 الأبيات من 2482 – 2457 كان أحد الملوك عائداً إلى مدينته فازدان الخلق بأبهى زينة فقد استعد كل فرد بما يزدان به منذ أمد ، أما المساجين فلم يكن في حوزتهم غير السلاسل والقيود كما كانت لديهم بضعة رؤوس مقطوعة وأكباد ممزقة ثم تخلوا عن الأيدي والأرجل وتزينوا بهذا كله . وعندما عاد الملك إلى المدينة وجدها كعروس مجلوة وفي أبهى زينة وما أن وصل إلى موقع السجن فسرعان ما ترجل الحصان وسمح للمساجين بالمثول وأنعم عليهم من الذهب والفضة بالشيء الكثير . كان للملك جليس طلعة فقال : أيها السلطان لتقل لي هذا السر لقد رأيتم مئات الألوف من الزينات أو يزيد كما رأيتم المدينة مكسوة بالديباج والحرير وكانوا يلقون الجواهر والذهب على الأرض وينثرون المسك والعنبر في الهواء رأيتم كل هذا وتحرزتم ولم تعيروا أياً منها اهتمامكم ولكن لماذا طاب لكم التوقف بباب السجن ؟ ألرؤية الرؤوس المقطوعة ؟ ولم كان تصرفكم هذا ؟ فلا شيء هنا يفرح القلب ولا وجود إلا للرؤوس المقطوعة وكذلك الأيدي والأرجل ، إنهم جميعاً سفاكو الدماء وقد قطعت أيديهم فلماذا وجب التوقف في محيطهم ؟ قال الملك : إن زينة الآخرين ما هي إلا لعبة اللاعبين وإذا كان كل شخص قد عبر عن نفسه بأسلوبه فهم قد عرضوا ما لديهم ، ولقد أخطأ جميع الخلق عدا أهل السجن حيث أوفوني حقي وإن لم يكن أمري نافذاً هنا فأين إذن تفصل الرأس عن الجسد والجسد عن الرأس ؟ وقد وجدت أمري هنا نافذاً فلا جرم أن أثنيت عنان فرسي والقوم جميعاً قد ألهتهم نعمهم واستسلموا للراحة نتيجة غرورهم ، أما أهل السجن فقد اضطربوا وتملكتهم الحيرة من جراء قهري وبطشي وأحياناً يخاطرون برؤوسهم وأحياناً بأيديهم وأحياناً يكونون في شدة وأحياناً في لين وقد جلسوا منتظرين بلا عمل ولا مسئولية حتى يساقوا من السجن إلى المشنقة ، فلا جرم أن أصبح هذا السجن روضة لي لقد كانوا مخلصين في طاعتهم فلزم أن أنحاز إليهم ، وموفق أمر ذوي البصيرة بتنفيذهم الأمر فلا جرم أن يذهب السلطان إلى السجن . المقالة الثامنة والعشرون حكاية 2 الأبيات من 2483 – 2500 كان هناك أحد السادة من نسل الشيخ أكاف وكان قطب العالم وكذا طاهر الأوصاف وقد قال : لقد رأيت فجأة في المنام كلاً من بايزيد والترمذي في الطريق رأيتهما يبديان لي كل عظمة واحترام وقد اتخذتهما من قبل مرشدين لي ، بعد ذلك علمت تفسير ذلك ولماذا يكن هذان الشيخان لي المزيد من الاحترام . وتفسير ذلك أنه في وقت السحر خرجت من كبدي آهة دون قصد فواصلت آهتي المسير حتى يفتحوا الباب لي وكانت تطرق الأبواب حتى يسمح لي بدخول الأعتاب وما أن بدا لي فتح الباب حتى جاءني الخطاب بلا لسان : إن هؤلاء الشيوخ وأولئك المريدين طلبوا منا طلباً عدا بايزيد وبايزيد من زمرة الرجال الموفقين في الطريق فقد طلبنا نحن ولم يطلب منا أي شيء . ما ان سمعت هذا الخطاب في تلك الليلة حتى قلت : إن هذا وذاك ليسا على صواب . كيف أستبيح سؤالك الإحسان ولا أتقبل ألمك ؟ أو أن أبحث عنك ولا أكون رجلك ؟ كل ما تأمرني به هو عين المراد وموفق أمري بتنفيذ أمرك ولا يهمني الاعوجاج أو الاستقامة فمن أكون أنا حتى تكون لي رغبة ؟ وليس للعبد إلا السير وفق ما يؤمر به فيكفيني ما تأمرني به . لا جرم أن هذين الشيخين اعترفا بالسبق لي عليهما بهذا القول . وطالما كان العبد مطيعاً للأمر ففي استطاعته محادثة الله بالروح وليس عبداً من يتفاخر دواماً بالعبودية جزافاً فيا أيها العبد لقد أتى وقت الامتحان فتقدم حتى يظهر الدليل للعيان . المقالة الثامنة والعشرون حكاية 3 الأبيات من 2501 – 2510 قال الخرقاني ساعة خروج الروح إلى الشفة في نزعها الأخير : يا للعجب ليتهم شقوا روحي وفتحوا قلبي المشبوب ثم أطلعوا العالم عن قلبي وشرحوا لهم سبب اضطرابي حتى يعلموا أن عبادة الصنم لا تليق مع معرفة السر فلا تكن معوج السير . هكذا تكون العبودية وغيرها جنون فالعبودية تعني التخلي عن الكل يا عديم المروءة وإن تنزع إلى الألوهية لا إلى العبودية فكيف تكون لله خاضعاً ؟ فتخل عن نفسك وكن عبداً بل كن عبداً متخلياً عن الكل وعش هكذا ، فإذا أصبحت عبداً فكن ذا حرمة بل وكن ذا همة في طريق الحرمة فإن يتقدم أي عبد لسلوك الطريق بلا حرمة فسرعان ما يبعده السلطان عن بساطه ، ولقد أصبح الحرم حراماً علي من لا حرمة له فإن تتصف بالحرمة فهذه هي النعمة التامة . المقالة الثامنة والعشرون حكاية 4 الأبيات من 2511 – 2515 أنعم أحد الملوك بخلعة على أحد غلمانه فخرج الغلام بالخلعة إلى الطريق واستقر غبار الطريق على وجهه فأسرع بإزالته بكم خلعته . فقال أحد الوشاة للملك : أيها السلطان لقد نظف الغلام غبار الطريق بخلعتك . استنكر الملك منه تلك القحة وفي الحال علق ذلك المضطرب على المقصلة . ألا تعلم أن من لا حرمة له في بساط السلطان لا قيمة له . المقالة التاسعة والعشرون سؤال طائر آخر الأبيات من 2516 – 2530 قال طائر آخر : كيف يكون الطير في طريق الحق يا طاهر الرأي ؟ إن قلبي مشغول دائماً وهو علي حرام وكل ما أملكه أنثره على الدوام وكل ما يصل إلى يدي أضيعه وأصيره كالعقرب في اليد ولا أربط نفسي بربقة شيء مطلقاً وأنثر كل ما يقع في حوزتي وأتطهر في محرابه فمتى أرى وأنا في طهري هذا وجهه ؟ قال الهدهد : إذا تقدم إنسان في الطريق وجب أن يكون الزهد زاده وكل من تطهر من كل ما يملك مضى مستريحاً في طهره ، أيها الأخ لا تخط مرقعة بل أحرق كل ما تملك حتى شعر الرأس ، وعندما تحرق كل شيء بآهة محرقة ، فاجمع رماده واجلس عليه ، إذا فعلت ذلك تخلصت من الكل وإلا فتحمل الشدائد طالما تعلقت بالكل ، إن كنت لا تموت وتنفصل عن كل شيء فمتى تضع قدمك في هذا البهو ؟ إذا لم يكن في الإمكان البقاء طويلاً في هذا السجن فعليك بتخليص نفسك من الكل فما أن يقبل وقت الموت حتى يصبح جميع ما تملك سافكاً لدمائك قاتلاً لك ، فاقصر يدك عن نفسك أولاً ثم اعقد العزم على المسير ثانياً ، وإن لم يتم لك في البداية التطهر فلست أهلاً لهذا السفر . المقالة التاسعة والعشرون حكاية 1 الأبيات من 2531 – 2537 تحدث شيخ الترك عن نفسه فقال : إنني أوثر شيئين أحدهما حصان أبلق أما الثاني فهو ابني ، فإذا جاءني نعي ولدي أهب فرسي شكراً لهذا الخبر ، ذلك لأني أرى الاثنين كمعبودين أمام عين روحي . وحتى لا تحترق وتصبح كالشمع فلا تتفوه بالطهر أمام الجمع ، وكل من يكثر القول عن التطهر يتسم أمره بالاضطراب حتى يتطهر ، والمتطهر الذي يأكل بنهم جزاؤه في تلك الساعة الضرب على القفا . المقالة التاسعة والعشرون حكاية 2 الأبيات من 2538 – 2552 الشيخ الخرقاني الذي كان العرش له مقراً تشوق ذات يوم للباذنجان فتبرمت أمه برغبته الملحة وأعطته نصف باذنجانة بعد جهد ومشقة ، وما أن أكل نصف الباذنجانة حتى قطعت رأس ابنه في التو والحال ، وعندما أقبل الليل وضع القاتل رأس ذلك الابن الطاهر على أعتابه ، فقال الشيخ : ألم أقل ألف مرة بأنني منحوس ، فما أن أكل هذا المسكين نصف باذنجانة حتى وجهت ضربة قاصمة لفلذة روحه وكم كانت الروح مشبوبة في كل أوقاتي وما كان أمره معي سهلاً ميسوراً وكل من يزامله في العمل لا يستطيع أن يحادثه لحظة . أمر شاق ذلك الذي وقع على كواهلنا فقد وقع أشد قسوة من الحرب والنزال ولم يبق لدى متعلم علمه وراحته فقد سقط أمره مع كل هذا العلم ، وفي كل زمان يقبل أحد الضيوف وتصل قافلة لأداء الامتحان ، فإذا كانت مئات الهموم تصيب الروح العزيزة فماذا سيحدث بعد ذلك ؟ لقد ظهر كل ما كان في طي الكتمان وستسفك الدماء بكل شدة وعنفوان ، وقد تحمل آلاف العشاق الآلام من أجله ونثروا الأرواح إيثاراً لقطرة دم منه وتصاب الأرواح جميعها بهذا حيث تسفك أرواحها متألمة متأوهة . المقالة التاسعة والعشرون حكاية 2 الأبيات من 2553 – 2569 قال ذو النون : كنت أتجول في البادية أتجول متوكلاً بلا عصاة ولا راوية فرأيت في الطريق أربعين من لابسي الخرقة وقد أسلم الجميع أرواحهم في بقعة واحدة ، فثار الاضطراب في عقلي الولهان وثارت النار في روحي المضطربة فقلت : إلهي ما نهاية هذه الحال ؟ وما أكثر ما جندلت العظماء ! فقال هاتف : إننا ندرك هذا الأمر فنحن نقتلهم وندفع ما يستحقون من دية ، فقلت : وكم ستقتل في النهاية ؟ قال : ما دمت أملك دية فسأفعل هذا الأمر وطالما بقيت في خزانتي دية فسأقتل حتى تبقى لي التعزية ، ومن أقتله أسحبه مدرجاً وسط دمائه وأطوف به العالم منكسة رأسه وبعد أن تفنى جميع أوصاله وتفنى رأسه وجميع أجزائه أظهر شمس طلعته ومن جمالي أخلع عليه خلعته وأجعل من دمه حمرة تزين خده وأدفعه إلى الاعتكاف على تراب تلك المحلة فأجعله ظلاً في محلته بعد ذلك أظهر شمس وجهه وعندما تشرق شمس وجهه فكيف يبقى ظل في محلته ؟ وإذا انمحى الظل في الشمس فقد سار كلا والله أعلم بالصواب . كل من فنى في الحق تخلص من نفسه لذا لا يستطيع أن يكون عابداً لنفسه ، فامض إلى الفناء دون الحديث عن الفناء كثيراً وتخل عن الروح ولا تبحث عن التخلي كثيراً ، ولا أعلم سعادة لأي إنسان أكثر من أن يفنى عن نفسه . المقالة التاسعة والعشرون حكاية 3 الأبيات من 2570 – 2574 لا أعرف إنساناً في الكون وجد حظ سحرة فرعون فقد أدركوا هذا الحظ في ذلك الزمان لإيمان الناس بهم أعظم إيمان وقد استطاعوا التخلي عن الروح لحظة وما أدرك إنسان قط مثل هذا الحظ فقد وضعوا قدماً في طريق الدين وأخرجوا الثانية من طريق الدنيا فلم ير شخص قط ما هو أفضل من هذا الغدو والرواح وما رأى أحد غصناً أعظم ثمرة من هذا .. المقالة الثلاثون سؤال طائر آخر الأبيات من 2575 – 2581 قال له آخر : يا من يتصف ببعد النظر هل للهمة في هذا الطريق أي أثر ؟ فمع أنني أبدو في الصورة غاية في الضعف فإن لي في الحقيقة همة غاية في الشرف وإن لا أتسم بالطاعة الفائقة فإنني أتسم بالهمة الزائدة . قال الهدهد : إن الهمة العالية هي مغناطيس أسرار ألست وهي التي تكشف سر كل موجود وكل من يتمتع بالهمة العالية سرعان ما يجد مفتاح كلا العالمين وكل من يتمتع بذرة همة يجعل الشمس ذليلة بهذه الذرة والهمة أساس ملك العوالم والهمة جناح الروح وريش طائرها . المقالة الثلاثون سؤال حكاية 1 الأبيات من 2582 – 2596 حينما كان يوسف يعرض للبيع كان المصريون يتحرقون شوقاً إليه وعندما تزايد عدد المشترين ارتفع ثمنه إلى عشرة أمثال وزنه من الذهب فاضطربت عجوز بسبب ذلك وجدلت خيوطاً وصنعت منها حبلاً ثم جاءت وسط الجمع صائحة وقالت : لتبعه لي أيها الدلال الكنعاني لقد تملكني الاضطراب شوقاً إلى هذا الغلام لذا جدلت عشرة حبال ثمناً له فخذ مني هذه وبعه لي وبلا مناقشة ضع يده في يدي . ضحك الرجل وقال : أيتها البلهاء المعتوهة لا يليق بك أن تحوزي هذه الدرة اليتيمة إنه يفوق مائة كنز عند القوم فمن أنت ؟ وما هذا الحبل أيتها العجوز ؟! قالت العجوز : إنني على يقين من أنه لن يتقدم أحد لشراء الغلام بمثل ما تقدمت به ولكن يكفيني أن يقول الصديق والعدو إن هذه المرأة كانت من مشترييه . كل قلب خال من الهمة العالية لن يدرك السعادة اللانهائية ومن ارتفع بهمته إلى مصاف الملوك سرعان ما تشتعل النار في ملكه وإن كان أحد الملوك قد أصيب بالكثير من الخسران فما أكثر الملوك الذين أصابهم ذلك ؟ ومن تعمل همته في مجال الطهر فإنه لا يتأذى مطلقاً من هذا الملك النجس وإذا كانت عين الهمة متمتعة برؤية الشمس فكيف ترضى بمجالسة الذرة ؟ المقالة الثلاثون سؤال حكاية 2 الأبيات من 2597 – 2606 كان هناك رجل غائب عن نفسه وكان دائم الشكوى من فقره فقال له إبراهيم بن أدهم : أي بني لعلك اشتريت فقرك بثمن بخس فقال الرجل : إن هذا لقول هزل فهل يشتري إنسان الفقر ؟ لتلزم حد الخجل . قال إبراهيم بن أدهم : إنني أقبلت عليه ذات مرة بالروح ثم اشتريته بعد ذلك بملك العالم والآن اشتري منه لحظة واحدة بمائة عالم . وبهذا الثمن أقيم أي لحظة منه الآن فما أن وجدت أمتعة الدنيا رخيصة حتى ودعت السلطنة كلية . فلا جرم أنني أدركت قدره أما أنت فلا لذا ألهج في شكره أما أنت فلا . جازف أهل الهمة بالروح والجسد وقضوا سنوات عديدة في حرقة ونكد وأصبح طائر همتهم للحضرة قريناً وطرحوا عنهم الدنيا والدين فإن لم تكن خليقاً بهذه الهمة فابتعد أيها الكسول فلست ولياً للنعمة . المقالة الثلاثون سؤال حكاية 3 الأبيات من 2620 – 2626 ذهب الشيخ الغوري الذي صار بالكل كلياً مع جمع من الوالهين تحت قنطرة وقضاء وقدراً مر بهم سنجر صاحب العظمة فقال : من هؤلاء القوم الذين تجمعوا تحت القنطرة ؟ فقال الشيخ : لقد فقد الجميع رؤوسهم وأقدامهم وحالنا لا يخرج عن أحد اثنين فإن تصادقنا دواماً فسرعان ما نخلصك من الدنيا تماماً وإن تعادنا ولا تصادقنا فسرعان ما نرفع هذا الأمر عن دينك فتفحص جيداً أمر مصادقتنا ومعاداتنا وتقدم خطوة لترى نفسك مفضوحاً فإن تتقدم لحظة تحت القنطرة فسرعان ما تتخلص من هذه العظمة وتلك الأبهة . قال سنجر : إنني لست شبيهاً بكم كما أن حبي وبغضي لا يوافقكم لست صديقاً لكم ولا عدواً وإنما سرت هنا حتى لا يحترق بيدري ولن يلحقني فخر أو عار من جرائكم ولا صلة لي بحسنكم وقبحكم . أقبلت الهمة كطائر سريع الطيران وهي في سيرها غاية في السرعة في كل زمان وإن تطر فلن يكون ذلك إلا عن بصيرة وإدراك وإلا فكيف توجد بين خلقه وسيرها يعلو آفاق الوجود لأنها أسمى من الصحو والسكر . المقالة الثلاثون سؤال حكاية 4 الأبيات من 2627 – 2634 بكى رجل واله في منتصف الليل بكاء مراً وقال : من أكون في هذا العالم ؟ إننا حقة مغلقة فيه ونقبل بجهلنا على العشق فيه فإن يرفع غطاء هذه الحقة بفعل الأجل فسيظل كل من يملك جناحاً يواصل الطير حتى الأزل أما من عدم الجناح فسيكون طعمة للبلاء وسيظل مبتلياً بالبقاء داخل الحقة . لتمنح أيها السالك طائر الهمة جناحاً بالمعنى وأسلم القلب للعقل واجعل الحال للروح وقبل أن يرفع غطاء هذه الحقة كن طائر طريق وتزود بجناح وريش وإلا فاحرق جناحك وريشك وكذا نفسك حتى تكون في مقدمة الجميع كذلك . المقالة الحادية والثلاثون سؤال طائر آخر الأبيات من 2627 - 2634 قال له آخر : كيف يكون الإنصاف والوفاء ، عند المثول في حضرة ذلك السلطان ، لقد أنصفني الحق تعالى كثيرة ، كما لم أجنح إلى عدم الوفاء مع أي شخص ، فإن تجتمع لدى إنسان هذه الصفة ، فيا ذا تكون منزلته في طريق المعرفة ؟ و قال ( الهدهد ) : الإنصاف أساس النجاة ، ومن يتصف به ينج من الترهات ، وإذا وصل إنصافك إلى حيز الوجود ، فهذا أفضل من قضاء عمر مديد في الركوع والسجود . ولا أريحية لك في الدنيا والآخرة ، أفضل من الإنصاف في السريرة . ومن ينصف في العلانية ، يلزمه التخلي عن الرياء والمراءاة ، والرجال لا يطلبون الإنصاف من أحد، ولكنهم كثيرا ما يبذلونه طواعية . المقالة الحادية والثلاثون حكاية 1 الأبيات من 2635 - 2642 كان أحمد بن حنبل امام العصر، وشرح فضله يخرج عن نطاق الحصر ، وكلما كان ينتهي من درسه ، كان يسارع بالمسير صوب بشر الحافي ، فإن يجد أحدا لدى بشر، كان لا يكف عن ملامته . فكان (بشر الحافي ) يقول إنك آخر إمام للعالمين ، ولن يأتي من هو أعلم منك ، ومهما يقول العالمون فلست ملزما بساعه ، ولك أن تمضي أمامهم حاسر الرأس حافي القدم . فكان الإمام أحمد يقول : لقد حزت قصب السبق في الأحاديث و السنن ، ومع أن علمي عظيم ، فإنني أتعلم منك الحسن والطهر.   کما انك تعرف الله أفضل مني . ياعديم الإنصاف کم تتردى في الجهل ، فانظر ولو للحظة واحدة إنصاف المحنكين! المقالة الحادية والثلاثون حكاية 2 الأبيات من 2643 – 2663 كان للهنود ملك مسن وقع أسيرا في يد جند محمود "الغزنوي" ، وما أن حمله الجند إلى محمود ، حتى سارع ذلك الملك بقبول الإسلام ، ثم حصل كل أسباب المعرفة ، كما تحرر من جميع العالمين ، بعد ذلك جلس وحيدا في الخيمة ، وتخلى عن قلبه ، واستقر في محراب المحبة ، حيث كان يقضي ليله ونهاره في بكاء وعويل ، وكان نهاره أسوأ من ليله ، وليله أسوأ من نهاره . وما أن زاد عويله ونحيبه ، حتى أخبر محمود بأمره ، فاستدعاه محمود للمثول أمامه ، حيث قال : يمكنني أن أمنحك مائة مملكة أكثر مما كان لك ، وأنت ما زلت ملكا ، فلا تنعي حالك بسبب هذا الأمر ، ولا تنخرط في البكاء أكثر مما أنت فيه . قال ملك الهند : أيها السلطان العظيم ، إنني لا أبكي من أجل الملك والجاه ، ولكنني أبكي خشية أن يسألني الله عز وجل يوم القيامة سؤالا ، فيقول : أيها الجاهل سيء العهد عدیم الوفاء ، لماذا زرعت مع : من مثلي بذور الجفاء ؟ إذا لم يأتك محمود بعالم غاص بالفرسان والجنود ، ما تذكرتني ، فكيف كان هذا؟ إن هذا بعيد عن الوفاء . لذا أوجبت تحرك الجيش من أجلك ومن أجل الآخرين ، وبدون هذا الجيش ، ما جاءتك مني تذكرة ، فهل أدعوك صديقا أم عدوا ، وإلى متى يكون الوفاء مني . ومنك الجفاء ؟ فهذا الصنيع منك لا يجمل في الوفاء . إن يأتني هذا الخطاب من الحق تعالى ، فكيف أجيب على ما بدر مني من عدم الوفاء ؟ وكيف أواجه هذا الخجل ، وذلك الاضطراب ؟ ولهذا يبكي الشيخ أيها الشاب ، فاسمع كل حرف يقال عن الإنصاف والوفاء ، وأسمع جيدأ لما يلقي في محيط الدرس ، وإذا كنت وفيأ ، فاعزم على سلوك الطريق ، وإلا فارض بالقعود ، وكف يدك عن هذا الطريق ، وكل ما يخرج عن حيز الوفاء ، لا يليق بباب المروءة . المقالة الحادية والثلاثون حكاية 3 الأبيات من 2664 - 2687 طلب أحد الغزاة مهلة من كافر ذي همة، طلب مهلة ليؤدي صلاة، وما أن وافق الكافر حتى أدى الغازي الصلاة، ثم عادت الحرب بين الرجلين إلى مجراها. وكانت للكافر صلاته كذلك، فطلب مهلة هو الآخر، وانسحب من المجابهة، واختار الكافر ركناً أطهر، ثم وضع رأسه على التراب أمام الصنم. وما أن رآه الغازي واضعاً رأسه على الأرض، حتى قال: لقد واتتني الفرصة في ذلك الوقت، فأراد أن يضربه بسيفه، فجاءه هاتف من السماء صائحاً: يا من تتسم بسوء العهد، عليك بالتمسك بالوفاء والعهد، إنه لم يضربك بالسيف وقد أعطاك المهلة أولاً، فإن تضربه بالسيف فكم تكون جاهلاً! فيا من لم تقرأ «وأوفوا بالعهود» لقد أصبحت خائناً للعهد، إذا كان الكافر قد أحسن صنعاً قبل هذا، فلا تكن عديم المروءة أكثر من هذا. لقد فعل الخير وأنت تفعل السوء، فافعل مع الخلق ما تريده لنفسك. كان لك الوفاء والأمن من الكافر، فأين وفاؤك إذا كنت مؤمناً؟ فيا أيها المسلم لقد جئت بعيداً عن التسليم، حيث كنت أقل وفاء من الكافر. تحرك الغازي من مكانه بعد سماع هذا الحديث، وقد تملكه الخجل وأصبح يتصبب عرقاً من الرأس إلى القدمين. وما أن رآه الكافر منتحباً هكذا حتى وقف حائراً والسيف في يده، وقال لماذا تبكي؟ فلتقل حقيقة ما حدث؟ قال الغازي: لقد عوتبت في هذه اللحظة بسببك، ووصفت بعدم الوفاء من أجلك، لذا فأنا حائر هكذا بسبب قهرك. ما إن سمع الكافر هذا القول الصريح، حتى أطلق صيحة عالية واسترسل في البكاء وقال: أهكذا يعاتب الله الجبار محبوبه من أجل عدوٍّه البغيض؟ فإن يعاتب هكذا في الوفاء فماذا أصنع يوم الحساب، وقد عدمت الوفاء؟ لتعرض عليّ الإسلام حتى أسارع بالدخول فيه، وأحرق الشرك، وأتبع شريعة اليقين، وأسفاه أن كُبِّل قلبي، وأصبحت عديم المعرفة بربي هكذا يا عديم الأدب ما أكثر مجافاتك للوفاء مع مطلوبك طوال الليل و النهار ولكنني سأتذرع بالصبر ، حتى يواجهك طاس الفلك بأفعالك واحدا واحدا. حكاية يوسف والطاس الأبيات من 2688 – 2716 أصاب القحط الإخوة العشرة بالنفور ، فجاءوا إلى يوسف بعد طول مسير ، وشرحوا حالهم وما أصابهم من ذلة ، وطلبوا العون بسبب القحط في هذه السنة ، وكان وجه یوسف مقنعا بحجاب ، وأمامه طاس في ذلك الوقت ، فما أن طرق الطاس بيده ، حتى انهمر الطاس في بكاء ونحيب ، فقال يوسف في الحال : يا من تدركون الحكمة ، ألا يعرف أحدكم صوت هذا الطاس ؟ فنطق الإخوة العشرة أمام يوسف مقرين بعجزهم في هذا الوقت ، حيث قالوا : أيها العزيز العالم بالحق ، كيف يعرف الشخص أي صوت صادر عن الطاس ؟ فقال يوسف في التو : إنني أعرف تماما ما يقوله ، ولكنكم واهنون . فالطاس يقول : لقد كان لكم من قبل ، أخ له من الحسن أكثر مما للكل ، وكان اسمه يوسف، كما كان يفوقكم في مراتب الحسن والكمال. ثم طرق الطاس مرة أخرى ، وقال كما أنه يقول: لقد ألقيتم يوسف في البئر ، ثم اتهمتم ذئبا بريئا . وطرق الطاس مرة ثالثة ، أحدث الطاس أصواتا أخرى ، فقال يقول الطاس : إنكم أصبت الوالد بالحرقة ، حيث بعتم يوسف القمري الوجه . فهل يفعل الكفار ما فعلتموه مع أخيهم ؟ فليصبكم الخذلان من الحق ، أيها الحاضرون . تملك هؤلاء الأخوة الحيرة من هذا الكلام ، وتصبب الجميع عرقا ، مما ألم بهم من خجل ، وعلى الرغم من أنهم باعوا يوسف في ذلك الوقت، إلا أنهم أضاءوا طريق الحياة أمامه في ذات الوقت ، وما أن ألقوه في البئر ، حتى سقطوا جميعا في بئر البلاء . عديم البصيرة من يسمع هذه القصة ، ولا يأخذ منها العبرة . لا تنظر إلى هذه القصة بلا بصيرة ، فهذه كلها قصتك أنت ، أيها الجاهل . كل ما فعلته من عدم وفاء ، قد فعلته دون إدراك النور المعرفة ، وإن يطرق إنسان الطاس من أجلك، . فستجد أفعالك القبيحة تفوق كل هذا ، فلتظل كما أنت حتى يوقظوك ، ثم يأسروك وأنت في طباعك السيئة . وليبق إلى الغد كل جفائك ، وليبق لك كل كفرك وأخطائك . فسيعرض كل ذلك واحدة واحدة ، وسيحصى عليك كل ذلك واحد و أحد . وإلام بصل صوت الطاس إلى الأذن ؟ إنني لا أعلم إلى متى يبقى العقل والإدراك . با شبيهة بالنملة العرجاء في مزاولة كل أمر ، هكذا أصبحت في قاع طاس کالأسير ، وما أكثر ما طفت حول الطاس منکسا ، فامض فإن هذا .فالطست غاص بالدماء . و أن تظل وسط الطاس مبتليا ، فسيأتيك بصوت جديد في كل لحظة . فارفع الرأس وأمعن النظر يا عالما بالحق ، و إلا تصبح مفضوحا من صوت الطاس . المقالة الثانية والثلاثون سؤال طائر آخر الأبيات من 2717 - 2732 سأل آخر قائلا : أيها الرائد ، هل الجرأة مقبولة في تلك الحضرة ؟ إن كانت الجرأة متوفرة ، فمن أين يتولد الخوف والرهبة ؟ فلتقل ، كيف تكون الجرأة هناك ، وانثر در المعاني ، وأنطق بالسر . قال ( الهدهد ) : كل من تتوفر لديه القدرة والكفاءة ، يكون موضع الأسرار الإلهية ، فإن يظهر الجرأة ، فمقبولة منه ، لأنه خليق بأسرار السلطان على الدوام ، ولكن كيف يتجرأ العالم بالسر الحافظ له ، متشبها بالجسور الوقح ؟ ومن يضع الأدب في كفه الأيسر ، والحرمة في كفه الأيمن ، فمقبول منه أن يتجاسر لحظة . أما ذلك الذي يعيش في الصحراء ، كيف يمكن أن يكون لدى السلطان صاحب أسرار ؟ ولو تجرا كأهل السر ، فسيظل بعيدا عن الإيمان والروح ، وكيف يستطيع فاجر من الجند ، إعلان جرأته أمام السلطان ؟ ولو فرض أن تقدم عبد أعجمي في الطريق ، فإنه يتجرأ فرحا وتيها ، إنه يعرف الرب جملة ولكنه لا يميز ( رب ) من ( رب ) ، فإذا ما تجرأ فمن فرط الحب ، ثم يصير كالمجنون من شدة العشق ، كما يسير فوق الماء من شدة الشوق ، وما أجمل جرأته ، ما أجملها ! فقد جعلت هذا المجنون شبيها بالنار . ولكن متى وجدت السلامة في طريق النار ؟ ومتى وجه لوم لمجنون ؟ فإذا كانت آثار الجنون قد بدت عليك ، فكل ما تقوله ، يقبل سماعه منك . المقالة الثانية والثلاثون حكاية 1 الأبيات من 2733 - 2747 نالت خراسان حظا عظيما ، إذ ظهر في خراسان عميد ، وكان له من الغلمان مائة من الترك الصباح ، وكانوا ذوي قامات سروية وسواعد فضية وشعر فاحم ، وفي أذن كل غلام درة مضيئة بالليل ، ومن بريق هذه الدرر يصبح الليل شبيها بالنهار ، وكانت لهم قلانس لامعة وأطواق ذهبية ، ولهم صدور فضية وأواسط ذهبية ، وكل منهم يعقد حول وسطه حزاما مرصعا بالجواهر ، وتحت كل منهم جواد أبيض ، وكل من يحاول النظر إلى أحد الغلمان ، سرعان ما يسلم القلب ، وتفنى روحه . وقضاء وقدرا رأى وله غاية في الفقر مهلهل الثياب حافي القدمين ، ذلك العدد الكبير من الغلمان من بعيد ، فقال : من هؤلاء الحور ؟ فأجابه أحد سادة المدينة بأن هؤلاء غلمان عميد مدينتنا ، وما أن سمع ذلك الوله هذه القصة ، حتى زاد ولهه وجنونه ، وقال : يا ذا العرش المجيد ، لتتعلم تربية عبيدك من العميد ! إن كنت ولها به ، فتعلم الجرأة ، ويجب أن تكون غصنا مورقا ، فإن تعدم أوراق هذا الغصن المرتفع ، فلا تتجرأ بعد ذلك ، ولا تضحك على نفسك . ما أجمل جرأة الوالهين ، وما أجملهم وهم كفراشات يحترقون ، ولكن لن يستطيع هؤلاء إدراك الطريق ، ومعرفة أهو حسن أو سئ إلا إذا أنعم عليهم ذو العرش بالتوفيق . "" عميد خرسان : لعل المقصود عميد الملك الكندري وزير طغرل السلجوقي ، واسمه بالكامل : أبو نصر محمد بن محمد الكندري ، وهو من رجال نيسابور ، قتل عام 456 هـ أيام سلطنة ألب أرسلان . انظر : تاريخ دولة آل سلجوق : لعماد الدين الإصفهاني ، ص : 9 - 29 ."" المقالة الثانية والثلاثون حكاية 2 الأبيات من 2748 - 2753 كان وله يسير في الطريق عاري الجسد ، وقد اشتد به الجوع ، وكان البرد قارسا والمطر منهمرا ، فأصبح غريق المطر والبرد ، ولم يكن له مخبأ أو منزل ، فسار حتى التجأ إلى خرابة ، وما أن توقف عن المسير وولج الخرابة ، حتى سقطت على رأسه من السقف أجرة ، فشجت رأسه وسالت الدماء كنهير ، فرفع رأسه إلى السماء قائلا : إلى متى تدق طبول السلطنة ؟ الأفضل من هذا ألا تستطيع الضرب بالأجر ! المقالة الثانية والثلاثون حكاية 3 الأبيات من 2754 - 2765 وجد فقير معدم في بلدة كاريز ، وقد استعار حمارا من جاره ، فذهب صوب طاحونة ونام هانىء البال ، وسرعان ما ولى الحمار في الصحراء ، فمزق ذئب ذلك الحمار وأكله ، فطالبه صاحبه في اليوم التالي بديته . وأخيرا سارعا بالعودة حتى يمثلا أمام أمير كاريز ، وقصا قصتهما على الأمير بكل أمانة وصدق ، وسألاه على من تحل العقوبة ؟ قال الأمير : كل ذئب وحيد ، يعيش في الصحراء والفيافي جوعان ، ثابتة عليه هذه الخيانة بلا ريب ، فعليكما بالبحث عنه ومطالبته بالدية . فلو قدر أن وجد مائة حمار بل أكثر من مائة ، فسيمزقهم واحدا واحدا كلا في إثر الآخر ، لقد خلق اللّه الذئب لهذا البلاء ، أيها الجاهل ، فلا داعي للتعجب . إلهي ، لماذا يستبيح الجريمة من لا يدفع دية ما يفعل ؟ . وكيف كانت حالة نساء مصر ، عندما مر بهم أحد مخلوقيك ؟ وأي عجب أن يدرك مجنون حالا من السعادة ؟ لأنه إذا ظل فاقد الوعي في تلك الحال ، فلن ينظر مطلقا إلى الأمام أو إلى الخلف ، ولكن يظل الكل يتكلمون عنه ويجادثونه ، كما أنهم يواصلون البحث عنه ، ومن أجله يبحثون . المقالة الثانية والثلاثون حكاية 4 الأبيات من 2766 - 2771 عم مصر قحط فجائي ، فتساقط الناس صرعى وهم يطالبون بالخبز ، وتساقط الناس موتى في كل طريق ، حتى كان أنصاف الاحياء يطعمون أجساد أنصاف الموتى ، وعندما رأى أحد العلماء الولهين هذا الفعل من القضاء ، ورأى الناس يموتون بلا طعام ، قال : يا مالك الدنيا والدين ، إن كنت لا تملك رزقا ، فقلل من الخلق . كل من يتجرأ في هذه الأعتاب ، سيطلب المعذرة عندما يثوب إلى رشده ، وإن يخطئ القول ، ولم يوفق في تلك الأعتاب ، فإنه يعرف كيف يعتذر ، حيث يقدم اعتذاره برقة ولطف . المقالة الثانية والثلاثون حكاية 5 الأبيات من 2772 - 2785 كان هناك شخص قلبه كله هموم ، إذ كان الأطفال يقذفونه بالأحجار ، فذهب في النهاية إلى ركن بموقد الحمام ، حيث توجد كوة هناك ؛ فتناثر البرد من خلال تلك الكوة على رأس ذلك الواله ، ولأنه لم يعرف البرد من الأحجار ، فقد أكثر من الهراء والثرثرة ، كما أطلق العديد من السباب ، قائلا : لم تقذفونني بالأحجار والمدر ؟ وفجأة فتحت الريح بابا للموقد ، فعم الضياء جميع أرجاء الموقد ، وهنا عرف البرد من الحجر ، فانقبض قلبه لما أصدره من سباب ، وقال : إلهي ، كم كان الحمام مظلما ، لذا بدرت السباب مني سهوا ، فإن يصدر هذا القول عن واله ، فلا تعاقبه بسبب رعونته هذه ، ومن كان ثملا لا يعقل ، فلا قرار له ، كما أنه بلا راحة ، فاحفظ لسانه عن التفوه بهذه الأساليب ، والتمس المعذرة للعاشق المجذوب ، فإن تنظر إلى سر من أظلمت قلوبهم ، ستجدهم جميعا ممن تلتمس المعذرة لهم . المقالة الثانية والثلاثون حكاية 6 الأبيات من 2786 - 2792 سار الواسطي حيران مشوش الخاطر والبال ، حتى أصبح لشدة حيرته عديم المأوى والمال ، سار حتى وقع نظره على مقبرة لليهود ، فأدام النظر إليها ، وقال : إن هؤلاء اليهود معذورون جدا، ولكن لا يمكنهم قول هذا السر لأحد أبدا. سمع أحد القضاة هذا القول ، فبدا عليه الغضب . ولما كان القول لا يروق للقاضي فقد استنكره ، فقال له الواسطي : إذا كان هؤلاء الموتى ، غير معذورين أمام حكمك ، فهم جميعا معذورون في هذا الزمان أمام حكم اللّه علام الغيوب . "" الواسطي : اسمه محمد بن موسى ، وكان يعرف بابن الفرقاني ، من أصحاب الجنيد والنوري . ومن علماء قومه . كان مبرزا في علوم التصوف ، كما كان عالما بأصول العلوم الظاهرة وفروعها ، رحل في شبابه من بغداد إلى مرو ، وظل بها حتى توفي عام 320 هـ . انظر نفحات الأنس لجامي : طبع طهران 1336 ص ص ؛ 175 - 177 ."" المقالة الثالثة والثلاثون سؤال طائر آخر الأبيات من 2793 - 2805 قال آخر له : ما دمت حيا ، فإن عشقه يظل لائقا ومحببا إليّ . لقد قطعت صلتي بالكل ، وأفتخر دواما بعشقه المتصل . وما أن رأيت جميع الخلق في هذا العالم ، حتى أسرعت بقطع صلتي عن كل ما اتصلت به ، وشغلي الشاغل هو عشقه فقط ، وهذا العشق ليس في مقدور كل إنسان ، ولقد أقبلت على عشق الحبيب بكل روحي ، وإذا حدث وتقاعست الروح عن العشق ، فقد جاء الوقت لأوقفها عند حدها ، حتى أحظى بكأس أحتسيه على طلعة الأحبة ، وبجماله أضيء عين الروح ، وأعانقه في وصال . . قال ( الهدهد ) : لا يمكن الادعاء والكذب بمجالسة السيمرغ على جبل قاف ، فلا تتشدق بعشقه تيها في كل لحظة ، إن ذلك ليس في متناول أحد من البرية ، ولكن إذا ما هبت نسائم الحظ ، فإنها تطرح الحجب عن وجوه الأعمال . والأفضل لك أن تسلك الطريق إليه ، وأن تجلس وحيدا في خلوته ، فإن كان لك ادعاء في هذا المكان ، فلب تلك الدعوى هو المعنى الحقيقي لك . أما صداقتك هذه ما هي إلا أذى وحرقة ، فلتكن محبته شغلك الشاغل . . المقالة الثالثة والثلاثون حكاية 1 الأبيات من 2806- 2820 عندما ودع با يزيد دار الحياة ، رآه مريد في منامه في نفس الليلة ، وسأله : أيها الشيخ الكبير ، كيف استطعت المرور بمنكر ونكير ؟ قال : عندما وجه هذان الشهيران إلي أنا المسكين سؤالا صادرا من الخالق تعالى. قلت لهما : لا داعي لهذا السؤال ، فلن تصلا أنتما ولا أنا إلى حد الكمال ، لذا فإن أكتف بالقول بأنه إلهي ، لعد هذا القول مني ضربا من الجنون ، ولكن عودا إلي ذي الجلال وأسألاه عن الحال ، فإن يدعني عبدا ، فهذا عين المراد ، وكفاني أن أكون عبدا للّه المتعالي ، أما إذا لم يجعلني من عبيده ، فإنه سيتركني مكبلا بقيود نفسي ، فإن لم تكن الصلة به ميسورة ، فما جدوى أن أدعوه إلهي ، وإن لم أكن أسير عبوديته ، فكيف أتباهى بألوهيته ؟ ولقد طأطأت رأسي اعترافا بألوهيته فوجب عليه أن يدعوني عبده . . إن يبادر بالعشق من جانبه ، فإنك تكون جد لائق بعشقه ، أما العشق الصادر عنك ، فاعلم أنه يليق بوجهك فقط . وإن يتلاطف معك ، فلك أن تكون كالنار من عشقه ، الأمر له وليس لك ، يا عديم البصر ، وأنّى للجاهل أن يدرك عنه أي خبر ؟ . . المقالة الثالثة والثلاثون حكاية 2 الأبيات من2821 - 2834 كان هناك شيخ يبكي من فرط العشق ، وكان كالنار لا يقر له قرار من شدة المحبة ، وقد احترقت روحه من حرارة العشق ، كما انعقد لسانه من حرقة الروح ، وسرت النار من روحه إلى قلبه ، فأصبح أمره غاية في الشدة ، وأخذ يمشي في الطريق لا يقر له قرار ، وظل ينتحب ، وينطق بهذه الأقوال : " لقد أحرقت الروح والقلب بنار وقاحتي ؛ وطالما بكيت حتى نضبت مياه مدامعي " . فجاءه صوت الهاتف قائلا : لا تتحدث هكذا وكف عن التباهي ؛ ولم ألقيت إليه بكل قول جزاف ؟ قال : عندما أحادث أحدا ، فإنه يحادثني بلا شك ، ولكن طالما كان لمن مثلي هذا اللب والقشور ، فكيف أستطيع عشق من هو مثله ؟ ماذا فعلت أنا ؟ إن كل شيء قد فعله هو ، لقد أصبح القلب كالدم بسببه ، فهو من أهاج القلب وأدماه وحده . . إذا كان قد لا طفك مرة ، فلا تكن أسير الكبر ، بل كن حذرا ، فمن تكون حتى تستطيع وأنت في هذه البئر السحيقة ، أن تخرج قدمك ولو للحظة من تحت لحافك ؟ وإن كان يعشقك أيها الغلام ، فهو يمارس العشق مع صنعه على الدوام ، أما أنت فلا شيء على الإطلاق ، ولا سند لك ، فكف عن هذا ودع الصنع للصانع ، فإن بدا لك وجود في الوسط ، فإنك تكون خارج نطاق الروح وكذا بعيدا عن الإيمان . . المقالة الثالثة والثلاثون حكاية 3 الأبيات من 2835- 2861 ذات ليلة كان قلب محمود مفعما بالحرقة ، فنزل ضيفا على عامل موقد الحمام المتصف بالفطنة ، فأجلسه العامل على الرماد وهو غاية في السرور ، وكان يقذف بالنشارة في الموقد وكله حبور ، ثم وضع كسرة خبز جافة أمامه ، فمدّ السلطان محمود يده وأكلها ، وقال : إن يطلب الوقاد عطاء مني في هذه الليلة ، فسرعان ما أقطع رأسه عن جسده . . وأخيرا ، عندما عزم السلطان على الرحيل ، قال له الوقاد : لقد رأيت هذا المكان ، كما رأيت مرقدي ومطعمي وإيواني ، فقد نزلت علي ضيفا بلا دعوة ، فإن فكرت في ذلك مرة أخرى ، فلتسرع بالقدوم ، وأسرع الخطى ، وعجل بالمجيء ، أما إذا كانت رؤوسنا غير جديرة بك ، فلا تقم لذلك بالا ، وقل : أيها الوقاد ، أنثرها كالنشارة في الموقد ، فأنا بالنسبة لك لست شيئا تافها أو عظيما ، ومن ذا أكون حتى أمثل أمامك ؟ . . سر سلطان الدنيا من حديثه ، ونزل ضيفا سبع مرات عليه ، وفي اليوم الأخير قال السلطان للوقاد : ألا تطلب شيئا من السلطان بعد كل هذا ؟ قال : إن يقل المسكين حاجته ، فلن يستسيغ السلطان منه تلك الحاجة . . فقال السلطان : لتقل حاجتك ، أتريد أن تكون ملكا ، لتقل إنك تبغي التخلي عن موقد الحمام ! قال : بل حاجتي تتمثل في مجيء السلطان ، ضيفا علي من آن إلى آن ، فملكي في لقائك وكفى ، وتاج مفرقي يتمثل في تراب طريقك وكفى . وما أكثر من نصبتهم ملوكا ، ولكن موقد الحمام لا يليق بهذا المنصب ، وإن يجالسك الوقاد في الموقد خير له من أن يكون سلطانا بدونك في روضة . وإن يتحقق وصالي معك في هذا الزمان ، فكيف أستبدل ذلك بملك العالمين ؟ وإذا كان حظي قد أقبل من موقد الحمام ، فرحيلي عن هذا المكان يعد كفرا . وما أكثر أن عم الضياء الموقد بنورك ، فماذا يفضله حتى أطلبه منك ؟ فليكن موت الروح لهذا القلب الولهان ، إن يفضل عليك أي شيء مطلقا . وأنا لا أطلب جاها ولا سلطانا ، وكل ما أطلبه منك هو أنت. فأنت السلطان وحدك ، فلا تنصبني سلطانا ، بل تعال لزيارتي كل فترة من الزمان . . عشقه ضرورة لك ، وهذه هي الحقيقة ، أما عشقك له فغم وهم ، إن كان لك عشقه ، فاطلبه هو أيضا ، ولا تكف يدك عن هذا الطلب مطلقا ، فالعشق القديم يرغب في عشق جديد ، كما تطالب الكنوز بالمزيد من الدراهم ، والقلب يحرص على كل ما يخصه بلا شك ، كما أن البحر المتلاطم الأمواج يرغب في كل قطرة جديدة . . المقالة الثالثة والثلاثون حكاية 4 الأبيات من 2862 - 2871 سار أحد السقاة حاملا الماء على الكف ، فرأى ساقيا آخر يتقدم الصف ، وفي الحال ، ذهب من يحمل الماء على كفه ، إلى الساقي الآخر وطلب منه ماء . فقال له الرجل : أيها الجاهل ، ما دمت تملك هذا الماء ، فاشرب منه هنيئا ، فقال : حذار أيها العاقل ، وأعطني الماء ، فقد عاف قلبي ما معي من ماء . كان لآدم قلب شبع من كل قديم ، وأملا في الجديد تعلق بحب حبة ، فباع كل قديم لديه بحبة قمح واحدة ، وأحرق كل ما يملك رغبة في حبة قمح واحدة ، وتعرى ، وسيطر الحزن على قلبه ، وجاء العشق ، فطرق حلقة بابه ، وعندما تلاشى كل شيء في ضياء العشق ، تلاشى القديم والجديد ، كما تلاشى هو أيضا ، ولما لم يبق له شيء ، توافق مع العدم ، وأسلم كل ما كان في حوزته إلى العدم ، وكثيرا ما كان انتزاع القلب من النفس والموت ، ليس أمرنا ولا أمر أي شخص ! . المقالة الرابعة والثلاثون سؤال طائر آخر الأبيات من 2872 - 2893 قال آخر له : يجول في ظني وخيالي ، أنني وصلت إلى حد الكمال ، فقد فعلت كل ما يؤدي إلى الكمال ، وأكثرت من ممارسة الرياضات الشاقة ، فإن كنت قد حصلت على مرادي هنا ، فذهابي من هذه الدار ليس أمرا هينا ، وهل رأيت شخصا يتخلى عن كنز ، ليتحمل المشاق في الجبل والصحراء ؟ . قال ( الهدهد ) : يا إبليس الطبع ، ويا شديد الغرور ، تخل عن أنانيتك وانفر من رغباتك ، لقد أقبلت مغرورا سابحا في خيالك ، كما أقبلت محلقا خارج فضاء المعرفة ، وسيطرت نفسك على روحك ، وتسلط الشيطان على عقلك ، كما أصبحت أسير ظنونك ؛ إذ اكتنفتك الظنون من أولك إلى آخرك . وإن كان لك نور ، فهو نارك بالطريق ، وإذا كان لك ذوق فهو ظنونك ، لذا فإن وجدك وذوقك ليسا أكثر من خيال ، وكل ما تقوله ليس أكثر من محال . . لا تكن مغرورا ببريق الطريق هذا ، وطالما كانت نفسك قرينة لك فلا تكن إلا حذرا ، إذ كيف يستطيع أي شخص الجلوس آمنا ، وفي مواجهته خصم عنيد شاهر سيفه ؟ وإذا بدا لك نور نابع من النفس ، فقد ظهر الكرفس من أجل لدغة العقرب ، فلا يتملكك الغرور بهذا النور النجس ، وإن لم تكن شمسا ، فلا تكن إلا ذرة . ولا تيأس من ظلمة الطريق ، ولا تحاول بنوره أن تتساوى مع الشمس . . ""يقال إن الكرفس تصنع منه بعد الأدوية ذات الطعم والرائحة الشديدة والنفاذة فإذا اقتربت العقرب من هذه المادة ، تأثرت برائحتها وبطعمها وأصابتها العلل والأمراض التي تودي بحياتها . نقلا عن تعليقات محمد جواد مشكور ص 330 نقلا عن كتاب غيات اللغات."" طالما تتردي في ظنونك أيها العزيز ، فكل جهدك لا يساوي دانقا ، وعندما تتخلى عن ظنون الوجود ، فسيبتعد عنك فرجار الوجود ، وإذا توفر لديك ظن الوجود ، فهو عدم ، ولن يكون لك من العدم إلا العدم . وإذا كان لك أن تطمع في الوجود لحظة ، فما لك إلا الكفر وعبادة الصنم ، وإن تبد في عالم الوجود لحظة ، تصبك السهام والطعان من كل ناصية ، وما دمت حيا ، فليتحمل جسدك آلام الروح ، وليتلق عنقك لطمات الزمن . وإن كان لك وجود في عالم الوجود ، فسيصيبك الزمن بالعديد من اللطمات . المقالة الرابعة والثلاثون حكاية 1 الأبيات من 2894 - 2912 خرج الشيخ أبو بكر النيسابوري ، مع أصحابه من الخانقاه إلى الطريق ، وكان الشيخ يمتطي حمارا ، ومن خلفه الأصحاب ، وفجأة ضرط الحمار ، فأصيب الشيخ من هذه الضرطة بحالة هياج شديد ، وصاح بأعلى صوت ، كما مزق الأردية . أما جميع المريدين ومن رأوه على هذه الحال ، فلم يتقبل أحدهم منه هذا العمل . ثم وجه أحدهم إليه هذا السؤال : أيها الشيخ لم فعلت في النهاية هكذا ؟ قال : كثيرا ما تحرزت وتمنعت ، ثم سلكت الطريق بمفردي بعيدا عن الأصحاب؟ وقبل أن أكون مريدا ، وبعد ذلك ، كنت أقول في نفسي . « حقا إنني لست أقل من بايزيد . إنني اليوم أخرج إلى الطريق متبوعا بالمريدين ، وقد بدوت في أبهى زينة ، أما في الغد ، فسأكون بلا ريب ، متمتعا بالسعادة والعز ، إذ سأمضي في صحراء الحشر مرفوع الرأس . والآن عندما فكرت هذا التفكير ، اتفق أن ضرط الحمار ، ويعني أن كل من يتشدق بهذه الطريقة ، سيجيبه الحمار هكذا على الهراء ، واضطرمت النار في روحي حيث كان الوقت وقت حالي ، واستغرقت في الحال. طالما كنت في عجبك وغرورك ، فستظل جد بعيد عن الحقيقة ، فتخلص من عجبك وأحرق غرورك ، وإذا كان حضورك وليد نفسك ، فأحرق حضورك ، يا من تتلون بلون مغاير في كل لحظة ، إن في داخل كل شعرة منك فرعون آخر ، وطالما بقيت منك ذرة واحدة ، فألوان النفاق العديدة فيك باقية ، وإذا كان لك أن تجد الأمن من الأنانية ، فلك أن تعادي كلا العالمين ، وإن تفن نفسك ذات يوم ، فستصبح ذا بريق وضياء مهما أظلمت الليالي ، فلا تقل ( أنا ) ، يا من وقعت من الأنانية في مئات البلايا ، حتى لا تصبح بإبليس مبتليا . المقالة الرابعة والثلاثون حكاية 2 الأبيات من 2913 - 2918 قال الحق تعالى في الخفاء لموسى ، ابحث عن رمز لدى إبليس . فما أن رأى موسى بالطريق إبليس ، حتى بحث عن السر لديه ، فقال له إبليس : تذكر دائما هذه العبارة ، لا تقل « أنا » حتى لا تصبح على شاكلتي ، وإن كنت متعلقا بالحياة ولو قيد شعرة ، فأنت أسير الكفر لا العبودية ، وللطريق نهاية عمادها اليأس ، وسيتردى طيب السمعة في سوء السمعة ، لذا فمن يرغب أن يكون موفقا في هذا الطريق ، عليه أن يحطم الأنانية في لحظة واحدة . المقالة الرابعة والثلاثون حكاية 3 الأبيات من 2919 - 2925 قال أحد المتقين : الأفضل للمبتدىء أن يتردد في الظلمة ، ثم يفني كلية في بحر الجود بعد أن يتخلى عن كل قيد في الوجود . وذلك لأنه إن يظهر عليه شيء ، يتملكه الغرور ، وفي ذلك الوقت يصبح كافرا . كل ما لديك من حسد وغضب ، تراه أعين الناس ، لا عينك أنت وفي داخلك موقد حمام مليء بالتنانين ، ولكنها في غفلتك انطلقت من جحرها ، وكنت طوال الليل والنهار تربيها ، كما كنت مفتونا بأكلها ونومها ، فإن كنت ترى سوء طويتك ، فلم كنت تجلس هكذا غافلا ؟ المقالة الرابعة والثلاثون حكاية 4 الأبيات من 2926 - 2931 مر كلب نجس بأحد الشيوخ ، فلم يتحرز الشيخ من ذلك ، فسأله سائل : يا عظيم الطهر ، لم لم تحترز من الكلب ؟ قال : يبدو هذا الكلب في الظاهر نجسا ، ولكنه في الباطن لا يبدو لي هكذا ، فذلك الذي له في الظاهر عيان ، له خفي في الباطن ، وما في دخيلتي مثل ما للكلب في ظاهره ، فكيف أهرب منه وهو ملازمي . مهما كانت النجاسة قليلة في داخلك ، فهذه القلة تساوي مائة نجاسة بلا غش ، وإذا قطع شيء تافه عليك الطريق ، فسواء بالنسبة لك أن كان شيئا عظيما أو تافها . المقالة الرابعة والثلاثون حكاية 5 الأبيات من 2945– 2932 وجد عابد في عهد موسى الكليم ، وكان مشغولا بالعبادة ، والقيام بالليل والنهار على الدوام ، ولكنه لم يدرك ذرة ذوق واحدة أو توفيق ، ولم يدرك صدره ضوءا من نور الشمس ، وكانت لهذا الرجل العابد لحية كبيرة ، وكان يمشطها من آن إلى آن . ما أن رأى العابد موسى من بعيد ، حتى أقبل صوبه قائلا : يا عظيم الطور استحلفك باللّه ، أن تسأل لي الحق سؤالا ، وهو لماذا لا يكون لي ذوق أو حال ؟ وأخيرا عندما صعد موسى جبل الطور ، أعاد توجيه هذا السؤال ، فقال الحق : كف عن السؤال ، فمتى كان من أصبح مسكينا بسبب آلام وصلنا ، مشغولا بلحيته على الدوام ؟ جاء موسى ، وأخبره مضمون القصة ، فنتف العابد لحيته وانهمر في البكاء ، ولكن جبريل سارع بالمجيء إلى موسى قائلا : إنه مشغول بلحيته في هذا الوقت أيضا ، فهو عندما يزين لحيته ، يكون أسير الاضطراب ، وعندما ينتف لحيته ، فهو مشغول باللحية كذلك . إخراج زفرة واحدة بدونه خطأ وأي خطأ ، سواء كنت بسببه في اضطراب أو سعادة . يا من لم تفرغ من لحيتك ؛ لقد غرقت في خضم بحار الدماء الواسعة ، إن تتحرر من لحيتك أولا ، سيصدق عزمك في هذا الخضم ، وإن تسلك هذا الخضم في معية لحيتك ، فسرعان ما تفنى بسبب لحيتك . المقالة الرابعة والثلاثون حكاية 6 الأبيات من 2959- 2946 كان لذلك الأبله لحية كثة ، وفجأة سقط في مياه البحر ، فرآه رجل فاضل يقف على الشاطى ، فقال له : اطرح المخلاة عن رأسك ، قال : إنها ليست مخلاة ، بل لحيتي ، إنها ليست لحية ، بل سبب اضطرابي . قال الرجل : أحسنت ، لك اللحية ولك الأمر ! فاطرح الجسد ، إذ سيصيبك بالألم والتحسر . يا شبيها بالتيس ، ألا تخجل من لحيتك ؟ لتحلق لحيتك ، ألا تستحي ؟ وما دامت لك نفس وشيطان ، ففي داخلك فرعون وهامان ، وتخل عن لحيتك كما تخلى موسى عن الدنيا ، ثم أمسك بلحية فرعون ، وعاركه في تجاذب اللحى عراك الرجال . اسلك الطريق وتخل عن اللحية ، وامض قدما فإلام تهتم باللحية ؟ إذا كانت اللحية تصيبك دواما بالاضطراب ، فلا ينبغي أن تهتم بها لحظة . ومن لا يملك مشطا للحيته ، يكن حصيفا في طريق الدين ، فكن حذرا من لحيتك ، بل اجعلها مفرشا لخوان الطريق ، ولن تدركه إلا بالدمع المنهمر ، ولن تدركه إلا بحرقة القلب ، فلن يرى أحد الشمس ، حتى ولو كان غسالا ، ولن يرى أحد صفحة الماء ، حتى ولو كان دهقانا المقالة الرابعة والثلاثون حكاية 7 الأبيات من 2960 - 2965 كان أحد الصوفية كلما غسل ثوبه بين الجين والحين ، اكفهر وجه العالم وتكاثر السحاب ، وذات مرة ازداد الثوب اتساخا ، كما بدا السحاب وقد أصيب بالعديد من الهموم ، وما أن توجه الصوفي صوب البقال لشراء الصابون ، حتى تلبد الجو في الحال بالغيوم ؛ فقال :لم بدوت أيها الغمام ؟ امض ، فإنني ذاهب لأشتري زبيبا . إنني اشتري الزبيب ولست أشتري الصابون ، فلم تأت ؟ كم من صابون تساقط مني على الأرض بسببك ؟ وها قد غسلت يدي بالصابون ، فأنا أطهر منك . المقالة الخامسة والثلاثون سؤال طائر آخر الأبيات من 2966 - 2974 قال له آخر : خبرني أيها المشهور ، ما الذي يجعلني أشعر في السفر بالسرور ؟ فإن تخبرني ، قل اضطرابي ، وبقي لي بعض الرشد في سيري ، إذ لابد من الرشد للرجل في الطريق الطويل ؛ حتى لا ينفر من المسير ، وإن حرمت من القبول ورشد الغيب ، فإنني أرد الخلق عن نفسي بكل عيب . قال ( الهدهد ) : ما دمت موجودا معه ، فلتستشعر السرور ، وكن حرا ، حتى ولو كان الجميع عبيدا ، فإن تستطع روحك أن تسعد به ، فسارع بجعل روحك المفعمة بالغم سعيدة به ، وسرور الناس في كلا العالمين متعلق به ، وانتصاب قبة الفلك متعلق به ، ولتعش بعد ذلك متمتعا بسعادته ، وكن كالفلك دوارا شوقا إليه . تكلم يا عديم المروءة ، فأي شيء أعظم منه ، حتى تكون سعيدا معه ولو للحظة واحدة . المقالة الخامسة والثلاثون حكاية 1 الأبيات من 2975 - 2981 عجبا ! لقد كان أحد المجانين يعيش في القفار ، وكان يستقر مع النمور بالليل والنهار ، وأحيانا كانت تسيطر عليه حالة جنونه ، فيفني عن نفسه . وذات مرة استمرت هذه الحالة عشرين يوما ، وتبدلت حالته إلى حالة أخرى ، وقد قضى العشرين يوما من الصباح حتى المساء في رقص دائم وحديث لا ينقطع ، حيث كان يقول :كلما كنا نحن الاثنين بمفردنا بعيدا عن الجميع ، ساد السرور كله واختفت الهموم . كيف يموت من قلبه متعلق به ، فأسلم القلب له ، فهو يحب حبيب القلب ، وإذا ابتلي قلبك بالشوق إليه ، فلن يكون الموت من نصيبك مطلقا . المقالة الخامسة والثلاثون حكاية 2 الأبيات من 2982 - 2990 كان أحد العاشقين يبكي ساعة موته ، فسئل : لم هذا البكاء ؟ قال : إنني أبكي بكاء سحابة الربيع ، إذ يجب الإحساس بالألم في هذه اللحظة ، كما يجوز لي النواح الآن ، إذ كيف يموت قلبي وهو متعلق به ؟ قال له أحد جلسائه : إذا كان قلبك متعلقا به ، فإن تمت ، كان الموت فضلا وخيرا . . . فقال العاشق : كيف يموت كل من تعلق قلبه باللّه ؟ وكيف يكون الموت من نصيبه ؟ وإذا كان قلبي في وصال دائم معه ، فإن موتي يكون غاية في المحال . إن سررت بهذا السر لحظة ، فليس لهذا الكنز مثيل في هذه الحياة ، وكل من تملكه السرور من وجوده ، انمحى من الوجود وتحرر منه ، ولكن ليتملكك السرور من حبيبك على الدوام ، حتى لا تتساوى مع الطين في داخلك . . . المقالة الخامسة والثلاثون حكاية 3 الأبيات من 2991 - 2997 قال العزيز : لقد مضت سبعون سنة ، حتى عمني السرور والغبطة ، إذ كان هذا الحسن هبة لي من اللّه ، وذلك لأنني على وصال مع اللّه . . إن كنت مشغولا بالبحث عن العيب ، فكيف تستطيع أن تكون مسرورا بمحاسن الغيب ؟ فيا باحثا عن العيب ؛ كيف تستطيع رؤية الغيب بعين منقبة عن العيب ؟ فتحرر من عيبك أولا ، ثم أنعم بالسرور بالعشق المطلق للغيب . إنك تدقق في تقصي عيوب الآخرين ، ولكنك في عمى عن إدراك عيوبك ، فإن تشغل بعيوب نفسك ، فستتقبل كل معيب مهما كانت عيوبه ! . المقالة الخامسة والثلاثون حكاية 4 الأبيات من 3007- 2998 كان هناك ثمل غاية في السكر ، وقد خرجت كل شؤونه بفعل السكر ، ومن كثرة تعاطيه الخمر الصافية المعتقة ، فقد وعيه كلية مما سيطر عليه من سكر ، فتضايق منه رجل عاقل ، ووضعه داخل غرارة ، وأمسك به حتى يسوقه إلى داره ، فتقدم إليه ثمل آخر في الطريق ، وكان الثمل الآخر يشيع الاضطراب مع الجميع ، وعندما رأى الثمل الموجود في الغرارة ذلك الثمل الآخر ، تملكه الهم والاضطراب ، وقال :أيها الثمل قلل ما أنت فيه ، حتى لا تفقد حريتك مثلي ! فما رآه ! وما لم يره ، هو حالنا ، وليس أكثر منه ! أنت تبحث عن العيب لأنك لست عاشقا ، ولهذا لا تليق بك هذه الخصال ، ولكنك إذا خبرت العشق ولو قليلا ، فسترى العيوب كلها أفضالا . المقالة الخامسة والثلاثون حكاية 5 الأبيات من 2008 - 3019 كان هناك رجل شجاع القلب شديد البأس عشق امرأة طوال خمس سنوات ، وكان على عين تلك المرأة الفاتنة الشبيهة بالصنم غشاوة بيضاء ، ومع أن الرجل قد أكثر من النظر إليها ، إلا أنه لم ير تلك الغشاوة على عينها ، لأن العاشق إذا كان ولها في عشقه ، كيف يتأتى له أن يدرك عيب معشوقه ؟ وبعد فترة ، أصاب الرجل في عشقه الفتور ، ووجد الدواء ، وضعف عشق تلك المرأة في قلبه ، وهان أمرها على نفسه ، وهنا رأى الرجل عيب عين المعشوقة ، فقال : متى بدت هذه الغشاوة ؟ قالت له : في تلك الساعة التي قل فيها عشقك ، أصاب العيب عيني في التو والحال ، وما أن أصاب النقصان عشقك ، حتى بدا العيب في عيني ، ولقد فعلت ذلك لما سيطر على قلبك من اضطراب ، فلتنظر إلى عيب واحد لك ، يا أعمى القلب ما أكثر ما بحثت عن عيوب الآخرين ، فلتبحث ذات مرة عن عيوبك أولا ، وما دام عيبك عليك ثقيلا ، فليس لك أن تهتم بعيوب الآخرين . . "" تشبيه المرأة بالصنم في الأدب الفارسي ، تشبيه جميل يعبر عن جمال أخاذ ، وحسن يفوق كل وصف ."" المقالة الخامسة والثلاثون حكاية 6 الأبيات من 3020 - 3023 كان المحتسب يضرب ذلك الرجل الثمل أيما ضرب ، فقال الثمل :قلل أيها المحتسب ، فكم أنت مضطرب . ولكثرة المال الحرام في هذه الأعتاب ، جئت ثملا تلهث ثم سرت في الطريق ، لذا فأنت أكثر سكرا مني ، ولكن لم ير أحد هذا السكر ، فلا تتماد في الجفاء معي أكثر من ذلك أيضا ، وكن عادلا معي ولو قليلا أيضا . . . المقالة السادسة والثلاثون سؤال طائر آخر الأبيات من 3024 - 3030 قال له آخر : يا قائد الطريق ، ماذا أطلب منه ، إن أصل إلى أعتابه ؟ وعندما تشرق الدنيا أمامي بفضله ، فلا أعرف ماذا أطلب منه ، فإن تبصرني بأفضل شيء ، أطلبه منه عندما أصل إليه . . قال « الهدهد » : أيها الجاهل ، أنت لست عالما به ، فإن ترغب في شيء ، اطلبه منه . ومن يحظ بنفحة من أريج تراب داره ، كيف يرتد عن داره مقابل رشوة ؟ وكل من يحظى بالمثول في خلوته ، يحظى بالمعرفة ، فالأفضل للرجل أن يطلب المعرفة ، لأنها أفضل من أي شيء يطلبه . فإن وجدت المعرفة منه في كل العالم ، فإنك ستطلب منه ما تريد أن تعرفه . . المقالة السادسة والثلاثون حكاية 1 الأبيات من 3044 - 3031 عندما حانت وفاة أبي علي الرودباري ، قال : وقفت روحي على شفتي انتظارا للرحيل ، ففتحت أبواب السماء على مصراعيها ، ووضع لي مسند في الجنة ، كما غنى الملائكة بأعذب الألحان وصاحوا : "أقبل أيها العاشق ، وألهج بالشكر ، ثم سر متبخترا سعيدا ، فما رأى أحد قط هذا المقام " . ومع كل هذا الإنعام وذلك التوفيق ، فإن روحي لا يد طولى لها في التحقيق . . لذا كان يقول دائما : لم أبقيتني عمرا طويلا في خضم هذا العمل ، وأطلت انتظاري ؟ إنني لست واهنا حتى أطأطىء الهامة كأهل الشهوة أمام أقل رشوة . فقد امتزج عشقك بروحي ، لذا لا علم لي بالنار ولا بالجنة . وإن تحرقني كالرماد ، فلن يكون لي معين آخر غيرك ، وأنا أعرفك أنت ، ولا علم لي بالدين أو الكفر ، ولن أحيد عن ذلك ، وأنت ما أعرف ، وأنت مني بمثابة الروح ، وروحي خالصة لك . وأنت حاجتي في كلا العالمين ، وأنت دنياي في الأولى والآخرة ، فحقق لهذا القلب الرقيق كالشعرة حاجته ، وكن معي على وفاق ، ولو للحظة ، وإن ترتفع روحي فمن أجلك ، وليس تحررها مني إلا أملا في وصالك . . "" الرودباري : اسمه أحمد بن محمد بن القاسم بن المنصور من أبناء رؤساء الوزراء ، ويصل نسبه حتى كسرى استمع إلى الجنيد ذات مرة في المسجد فتخلى عن كل ما يملك وانقطع للطريق ، حفظ الحديث كما كان عالما فقيها وإماما وسيد قومه ، حتى قال أبو علي الكاتب عنه : ما رأيت أجمع لعلم الشريعة الحقيقية من أبي علي الرودباري رحمة اللّه عليه . أقام في مصر واعتبر شيخ شيوخها . توفي عام 321 هـ. ( انظر : نفحات الأنس لجامي س : 200 - 203 ) ."" المقالة السادسة والثلاثون حكاية 2 الأبيات من 3045- 3056 قال الحق تعالى : يا داود الطاهر ، قل لعبادي : يا حفنة التراب ، إن لم تكن لي جنة أو نار ، لما كانت العبودية مستهجنة لدي . ولو انعدم النور والنار ، لما كان لكم أي عمل معي ، ولأنني أستحق هذه المنزلة الرفيعة ، فأنتم تعبدونني لا رغبة ولا رهبة ، وإذا لم يكن الرجاء والخوف يكمنان خلف ذلك ، فكيف يكون لكم معي أي صلة بعد ذلك ؟ وما دمت أنا الإله ، فجدير بكم عبادتي بأرواحكم على الدوام . أيها العبد ، كف يدك عن الغير ، واعبدني بكل استحقاق وتقدير ، واطرح بعيدا كل ما عداني ، وحطم كل ما تطرح ، وبعد أن تحطم كل العلائق تخلص منها وأحرقها ، ثم اجمع رمادها ذات يوم وانثره ، حتى لا تبقى رياح الحق لها أي أثر ، وإذا فعلت ذلك فسيخرج لك من بين الرماد ما تطلبه ، أما إن كنت مشغولا بالخلد والحور ، فاعلم يقينا بأنها أبعدتك عن نفسك . المقالة السادسة والثلاثون حكاية 3 الأبيات من 3057 - 3081 نادى محمود اياز ، وأجلسه على عرشه ونصبه ملكا ، وقال : منحتك الملك كما أن الجند لك ، فكن ملكا ، فهذا الإقليم لك ، إنني أرغب في أن تكون سلطانا وتسيطر على البر والبحر . ما أن سمع الجند هذا القول ، حتى اكفهرت عينا كل واحد منهم حسدا وغيرة ، وقالوا : ما احترم سلطان غلاما في الدنيا هكذا مطلقا . أما اياز فقد انخرط في بكاء كله حرقة من فعلة السلطان هذه ، فقال له الجميع : هل أصابك مس من الجنون ؟ أم أنك جاهل خرب العقل ؟ لقد وصلت إلى مرتبة السلطنة أيها الغلام ، فلم هذا البكاء ؟ يجب أن يعمك الفرح والسرور . وفي الحال أجابهم اياز قائلا : كم أنتم عن طريق الصواب بعيدون ، ولستم مدركين أن سلطان الجميع قد أقصاني بعيدا عنه ، فقد أعطاني منصبا حتى أشغل بالجند بعيدا عنه ، فلن أغيب عنه لحظة واحدة ، حتى ولو جعل ملك الدنيا بأسرها تحت إمرتي ، وكل ما يأمر به يمكنني تنفيذه ، إلا أن أبعد عنه لحظة ، وماذا أصنع بملكه ، فكفاني طلعته من ملك . إن كنت طالبا وللّه عارفا ، فتعلم كيف تكون العبودية من اياز . ويا من بقيت في خمولك ليلا ونهارا ، وبقيت أسير خطوتك الأولى ، في كل ليلة تتنزل عليك اللعنات من اللّه يا أبا الفضول . إنك كمن لا خلاق له حيث لا تتقدم خطوة من مكانك لا بالليل ولا بالنهار ، لقد جئت من أوج العزة ، ولكنك تقهقرت إلى الوراء ، ملتزما حد الاحتراز . وا أسفا ، إنك لست خليقا بهذا ، وإلى من تستطيع التحدث عن هذه الآلام في النهاية ؟ وما دامت الجنة والنار ماثلتين في طريقك ، فأنّى لروحك أن تدرك هذا السر ؟ ولكنك إن تخرج من كلا العالمين تماما ، فسيشرق صبح هذا الحظ من بين ظلمة الليل ، وليست الجنة من نصيب هؤلاء الأصحاب ، وإنما هي للعليين أولى الألباب ، فأسرع بالتخلص من الخمول في هذا وذاك ، وامض ولا تعلق قلبك بهذا ، وروحك بذاك . وإذا عبرت كلا العالمين بمفردك ، فستكون شبيها بالرجال حتى ولو تكون امرأة ؛ وستكون جديرا برؤيته دواما ، كما تكون في قربه صباح مساء . المقالة السادسة والثلاثون حكاية 4 الأبيات من 3082 - 3089 كانت رابعة تقول : يا عليما بالأسرار ، لتسهل أمور الأعداء في الدنيا ، أما الأصدقاء ، فامنحهم الآخرة على الدوام . وذلك لأني أتحرر من كلا الاثنين على الدوام ، وإن كنت قد أفلست من الدنيا والآخرة ، فإن غمي يتلاشى إن أصبح أنيستك ولو للحظة ، ويكفيني هذا الإفلاس منك ، إذ أنك تكفيني على الدوام وحدك . وكم أكون كافرة إن أنظر صوب كلا العالمين ، أو أن أطلب شيئا سواك . إنه للكل والكل له ، والبحار السبعة تحت قنطرته ، وكل ما كان ، وما سيكون ، له شبيه إلا اللّه العزيز ، وكل ما تبحث عنه ، تجد له نظيرا إلا هو ، فهو دائم بلا نظير ، ولابد من وجوده هو . المقالة السادسة والثلاثون حكاية 5 الأبيات من 3090 - 3099 وجه خالق الآفاق من فوق الحجاب ، إلى داود النبي هذا الخطاب ، فقد قال : كل شيء في هذه الدنيا ، سواء أكان حسنا أم قبيحا أو كان ظاهرا أم باطنا ، له عوض إلا أنا ، فلن تجد لي عوضا ولا قرينا . ولما كنت بلا عوض فلا تكن بدوني ، ويكفيني روحك ، فكن روحا ولا تكن جسدا ، وأنت ، أيها الأسير ، لا غنى لك عني مطلقا ، فلا تكن غافلا عمن هو واجب الوجود ، ولا تطالب بالبقاء لروحك ولو للحظة بدوني ، وكل ما يعرض أمامك غيري ، لا تطلبه . يا من أقبلت طالبا الدنيا ، ستظل مشغولا بآلام هذا العمل ليلا ونهارا ، إنه مقصودك في كلا العالمين ، كما أنه معبودك من قبيل الامتحان ، وأجبك أن تبيع الدنيا الفانية ، لا أن تبيعه مقابل أي شيء في هذه الفانية ، وصنم كل ما تفضله عليه ، وكافر أنت إن تفضل الروح عليه . المقالة السادسة والثلاثون حكاية 7 الأبيات من 3116 - 3100 وجد عسكر محمود في معبد سومنات ، ذلك الصنم المعروف باسم اللات . وقد هب الهنود من أجل الصنم ، وطلبوا دفع دية له تساوي وزنه ذهبا ، ولكن السلطان رفض بيعه بأي ثمن، وأشعل فيه النار ، وأحرقه في الحال. فقال له الجميع ؛ لا يجب إحراقه ، بل يجب بيعه ، لأن الذهب أفضل منه؛ فقال: كم أخشى أن يقول الخالق ، أمام الجميع يوم الحساب ، أصغوا جميعا إلى آزر ومحمود ، فذاك ناحت الصنم ، وهذا بائعه . وما أن أشعل محمود النار حتى أحرق صنم عبّاد النار ، وتساقط من داخله عشرون منّا في الذهب ، وهكذا نال ما عرض عليه بلا مشقة أو عوض ، فقال السلطان : هذا الإحراق يليق باللات ، أما هذه المكافأة فنعمة من اللّه . لتحطم كل ما تملك من أصنام ، حتى تجد بحارا من الجواهر عوضا عنها ، وأحرق نفسك الشبيهة بالصنم ، شوقا إلى المحبوب ، فما أكثر الجواهر التي ستتساقط من جرابها ، وإذا ما ترامى إلى أذن الروح صوت ألست ، فلا تقصر في التصديق ، واجعل عهد ألست ماثلا أمامك ، ولا تشح عن « بلى » أكثر من هذا . إن كنت أقررت به أولا ، فكيف يصح الإنكار به بعد ذلك ؟ ويا من أقررت بـ « أَلَسْتُ بربكم »أولا ، أتنكر ألست آخرا ؟ وإن كنت قد عقدت ميثاقا أولا ، فكيف تصبح عاقا أخيرا ، إنه لا غنى لك عنه ، فكن ملازما له على الدوام ، وكن وفيا لكل ما قطعت من وعود ، ولا تكن ناشزا معوجا . . "" سومنات : أكبر أصنام الهند ، حرص الهنود على ألا يحطمه محمود الغزنوي ولكن محمودا صمم على تحطيمه لأنهم كانوا يعتقدون أن جميع الأصنام التي حطمها محمود تم تحطيمها لأن سومنات غاضب عليها ، فتقدم محمود بجيش كثيف العدد والعدة ، وعندما أدرك الهنود أن محمودا منتصر لا محالة ، عرضوا عليه الكثير من الذهب والأموال ولكنه رفضها ، وشدد من حصاره حتى تغلب على الهنود وحطم سومنات فوجد بداخله من الذهب أضعاف ما عرضه الهنود وبذلك حقق نصرا دينيا ودنيويا عظيما ، وكان ذلك عام 416 هـ. ( راجع ابن الأثير ، حوادث عام 416 هـ)."" المقالة السادسة والثلاثون حكاية 8 الأبيات من3117 - 3138 قيل ، عندما تقدم محمود شيخ الملوك ، من غزنين قاصدا محاربة الهنود ، رأى جيشا عظيما للهنود ، فامتلأ قلبه بالغم من هذا الحشد ، ونذر السلطان العادل في ذلك اليوم نذرا ؛ حيث قال : إن أظفر بهذا الجيش ، فكل غنيمة اغتنمها في هذا المكان ، سأوزعها كلها على فقراء الطريق . . في النهاية أدرك السلطان النصر ، وأحاط بغنائم تفوق الحصر ، فكل جزء واحد من الغنيمة ، فاق كل ما يجول بخاطر أي حكيم مائة مرة ، وما أن غنموا غنائم تفوق كل الحدود ، ولحقت الهزيمة بأولئك السود ، حتى قال السلطان لأحد معاونيه في الحال : احمل هذه الغنائم للفقراء والمساكين ، حيث نذرت ذلك للحق منذ البداية ، وذلك لأكون صادقا في عهدي وفيا به . . قال الجميع : كيف يمكن إعطاء هذا الذهب الوفير وذلك المال الكثير لحفنة من الصعاليك ؟ . إما أن تعطيها للجنود حتى يكفوا عن الغضب ، وإما أن توضع في الخزانة . ظل السلطان يفكر مليا في ذلك وتملكته الحيرة بين هذا وذاك ، وكان أبو الحسين رجلا حكيما ، كما كان ولها مجذوبا . وكان يمر بين الجند فما أن رآه السلطان من بعيد ، حتى قال : إنني أطلب استدعاء هذا المجذوب ، لأسأله ، وسأفعل ما يفتي به . فهو متحرر من السلطان والجند ، وما يقوله سيكون بعيدا عن الأغراض ، وهكذا استدعى السلطان الرجل المجذوب ، وطرح القصة عليه أمام الجمع . قال المجذوب : أيها السلطان ، فقد وصل أمرك إلى هذه الديار بدانقين ، فإن ترغب في ألا تكون على صلة به ، فلا تفكر في هذين الدانقين أيها العزيز ، وإن ترغب في أن يكون لك به صلة مرة أخرى ، فلا تقلل من أمر الدانقين بعد ذلك ، وليتملكك الخجل . وإذا كان الحق قد نصرك ، وجعل أمرك موفقا ، فقد فعل ما خصه ، فأين ما يخصك أنت ؟ وفي النهاية نثر محمود ذلك الذهب ، وفي النهاية أصبح محمود ذلك السلطان الموفق . "" أبو الحسين : لعله شيخ الشيوخ أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعفر النيسابوري المعروف بابن سالبه ، وكان من كبار مشايخ الصوفية في فارس في أواخر القرن الرابع الهجري وأوائل القرن الخامس توفي عام 415 هـ ( مما يجعله معاصرا للسلطان محمود الغزنوي 387 - 421 هـ ) ودفن في بيضاء فارس .انظر : شد الإزار في حط الأوزار عن زوار المزار . معين الدين أبو قاسم جنيد الشيرازي ، تصحيح محمد قزويني وعباس اقبال طهران 1247 هـ . حواشي ، ص 476 ."" المقالة السابعة والثلاثون سؤال طائر آخر الأبيات من 3139 - 3148 قال آخر له : يا من سلكت الطريق إلى الحضرة ، أي بضاعة تكون في ذلك المكان رائجة ؟ فإن تخبرنا ، فإننا سنحمل ما هو أكثر رواجا هناك ما دمنا قد تعلقنا بهذا الشوق . ويجب أن تكون التحفة نفيسة تلك التي تقدم للملوك ، ومن يتقدم بلا هدية ، فهو بلا ريب غاية في البخل والخسة . . . قال ( الهدهد ) : أيها السائل ، إن تطع الأمر ، فلن يكون هناك شيء ناقص حتى تحمله ؟ وإذا كان كل ما تحمله من هنا موجود هناك ، فكيف يكون حمله جميلا منك ؟ هناك العلم والأسرار ، كما أن طاعة الملائكة هناك متوفرة ، فكفاك حمل حرقة الروح وآلام القلب ، وليس لشخص أن يعطي غير هذا ، فإن تصعد زفرة واحدة من الألم ، فإنها توصل رائحة الكبد أمام الحضرة . ولب روحك هو المكان الخاص ، أما نفسك العاتية فما هي إلا قشور لروحك ، فإن تخرج زفرة واحدة من المكان الخاص ، فسرعان ما يصيب الفناء الرجل في التو والحال . المقالة السابعة والثلاثون حكاية 1 الأبيات من 3149 - 3167 لما كانت زليخا تنعم بالصولة والعزة ، فقد ذهبت واعتقلت يوسف بالسجن ، ثم قالت لأحد الغلمان : اطرحه أرضا في هذه الآونة ، ثم اضربه خمسين عصا محكمة وارفع عليه ذراعك بكل قسوة ، حتى أسمع آهاته من مكان بعيد في تلك الآونة . أقبل الغلام وامتنع عن تنفيذ المهمة مدة طويلة ، فعندما رأى وجه يوسف ، لم يطاوعه قلبه ، وأخيرا رأى ذلك الرجل الخيرّ معطفا ، فهوى بيده بكل شدة ، وضرب المعطف ، وكلما ضرب الرجل المعطف ضربة قوية ، تأوه يوسف وناح بشدة ، وعندما كانت زليخا تسمع النواح من بعيد ، كانت تقول : اضربه واحدة أخرى أشد أيها الغلام الجلد . قال الرجل : يوسف ، يا من له طلعة الشمس ، إن تلق زليخا نظرة عليك ، ولا ترى عليك أي جرح من أثر العصا ، فلا ريب أنها ستسلمني إلى العدم ، فاكشف عن كتفك وتمسك بالشجاعة ، وتحمل ضربة عصا مبرحة ، حتى ولو أصابتك الضربة بجرح ، فإن تنظر إليك ، تجد أثرا للضرب . تعرى يوسف في ذلك الوقت ، فثارت الاضطرابات في السماوات السبع ، ثم رفع الرجل يده وهوى بضربة قوية ، طرحته أرضا . وعندما سمعت زليخا الآهة هذه المرة ، قالت :كفى ، فهذه آهة صادقة ، قبل هذه كانت الآهات مصطنعة ، أما هذه الآهة فصادرة عن روح مضطربة . إذا كان بالمأتم مائة باك ، فاهة صاحب المصاب هي المؤثرة وحدها ، ولو تحلق في مأتم مائة محزون ، فصاحب المأتم هو فص تلك الحلقة ، وإن لم تكن رجل آلام ، فلن تكون رجلا في مصاف الرجال ، وكل من تسيطر عليه آلام العشق وحرقته ، كيف يجد الراحة والسكينة في ليله أو نهاره ؟ . . المقالة السابعة والثلاثون حكاية 2 الأبيات من 3168 - 3176 كان لأحد السادة غلام زنجي جميل المحيا ، وقد طهر يده من أمور الدنيا ، وكان الغلام الطاهر في كل ليلة ، منهمكا في الصلاة حتى الصباح ، فقال له سيده : أيها الغلام الحصيف ، أيقظني عندما تستيقظ بالليل ، حتى أتوضأ وأصلي معك . . . أجابه الغلام قائلا : إن الراغب في آلام الطريق ، لا حاجة به لمن يوقظه ، فإن تكن ذا ألم فأنت في يقظة ، كما أنك في عمل متصل طوال الليل والنهار ، ولست متعطلا ، وإن كان يلزمك أحد ليوقظك ، فيلزمك آخر ليكمل لك عملك . كل من لم تصبه هذه الحسرة وتلك الآلام ، فليخسأ ، لأنه ليس رجلا . وكل من عجن بآلام القلب ، فقد انمحت النار بالنسبة له وكذلك الجنة . . . المقالة السابعة والثلاثون حكاية 3 الأبيات من 3177 - 3195 كان أبو علي الطوسي شيخ زمانه ، كما كان سالكا لوادي الجد والجهد ، وما وصل إليه من عز ودلال ، لا أعرف أحدا وصل إليه بأي حال ، وقد قال : غدا يتأوه أهل النار بكل شدة وحرقة ، عندما يرون أهل الجنة ماثلين أمامهم ، وسيكثرون من الحديث عن حالهم وكذا عن جمال الجنة ، وذوق الوصال ، أما أهل الجنة فيقولون في ذلك الزمان : لقد انمحى جمال الفردوس ، ففي الجنة المليئة بالكمال ، بدت لنا شمس ذات الجمال ، وما أن اقترب منا جماله ، حتى أظلمت الجنات الثماني خجلا منه ، ولم يبق للخلد أي اسم أو أثر أمام نور هذا الجمال الذي تقدم الروح نثارا له . . . بعد أن شرح أهل الجنة حالهم ، يجيبهم أهل النار قائلين : يا من فرغوا من فردوس الجنان ، كل ما قلتموه هو هكذا ، وحيث أننا من أصحاب المكان المذموم فنحن غارقون في النار من أولنا إلى آخرنا ، وعندما بدا وجه الحبيب واضحا أمامنا ، تملكتنا الحسرة والعجز من وجه الحبيب. وما أن أدركنا أننا قد أخطأنا ، وعن مثل هذا الوجه افترقنا ، حتى أنستنا نار الحسرة المتأججة في قلبنا المحزون نار جهنم ، وتلاشت من ذاكرتنا . في أي مكان تضطرم هذه النار ، فإنها تحرق أرواح العشاق وأكبادهم ، وكل من أصيب بالحسرة في طريقه ، قلما استطاع التخلص من الغيرة ، وتلزمك الحسرة والآهة والجراح ، كما يلزمك الذوق والراحة في الجراحة ، فإن كنت قد جرحت في هذا المنزل ، فإن روحك تكون محرما للخلوة ، وإن كنت مجروحا ، فلا تنطق بكلمة واحدة عن الدواء واكو جرحك ، ولا تنطق بحرف . "" أبو علي الطوسي الفارمدي : شيخ حجة الإسلام الغزالي اسمه الفضل بن محمد بن علي الفارمدي ، وفارمد من قرى طوس ، لذا عرف بالفارمدي أو بالطوسي وكان شيخ شيوخ خراسان ، وتلميذا للإمام القشيري ، ومريدا للشيخ أبي القاسم الجرجاني توفي عام 477 هـ . وقبره في طوس انظر سفينة الأولياء ، ص 75 . ونفحات الأنس، ص 370 "" المقالة السابعة والثلاثون حكاية 4 الأبيات من 3169 - 3201 طلب رجل غاية في العجز من الرسول ، أن يسمح له بأداء الصلاة على مصلى الرسول ، فلم يسمح الرسول له بذلك ، وقال له : إن الرمل والتراب ساخنان في هذا الوقت ، فضع وجهك على الرمل المتقد وعلى تراب المحلة ، فلكل عاشق إلهي أثر جرح في وجهه ، فإن تر جراحة الروح فمن الأفضل أن يكون الوسم باديا على وجهك ، وإن كنت لا تستطيع تحمل حرقة القلب ، فكيف تجذب أنظارنا نحوك ؟ ولتظهر وسم القلب ، ففي ميدان الألم ، يعرف أهل القلوب ، الرجل مما به من ألم . . . المقالة الثامنة والثلاثون سؤال طائر آخر الأبيات من 3202 - 3212 قال آخر : يا عالما بالطريق ، إن العين لتسود في هذا الوادي ، والطريق يبدو كأنه مليء بالأهوال ، فما طول هذا الطريق ، أيها الرفيق ؟ قال ( الهدهد ) : إن لنا في الطريق سبعة أودية ، فإذا عبرت الأودية السبعة كانت الأعتاب العلية ، ولم يعد من سلوك الطريق أحد في الدنيا حتى الآن ، لذا فلا أحد يعرف طول هذا الطريق ، فإن كانوا يفنون فيه كلية ، فكيف يخبرونك بحقيقته ، أيها الجاهل ؟ أول الأودية هو وادي الطلب ، ثم يأتي بعده مباشرة وادي العشق ، ثم الوادي الثالث وهو وادي المعرفة ، ويأتي بعده الوادي الرابع وهو وادي الاستغناء عن الصفة ، وبعده الوادي الخامس وهو وادي التوحيد الطاهر ، ثم الوادي السادس وهو وادي الحيرة الصعب ، أما الوادي السابع فهو وادي الفقر والفناء ، وبعد ذلك لن يكون لك سلوك بالطريق ، فإن تدرك نهايته ، يتلاش مسيرك ، وإن تكن لك قطرة ماء ، فإنها تصبح بحرا خضما . . . المقالة الثامنة والثلاثون بيان الوادي الأول وادي الطلب الأبيات من 3213 – 3228 عندما تتقدم إلى وادي الطلب ، سيعترض طريقك في كل زمان مائة تعب ، فهناك مائة بلاء في كل لحظة ، وهناك تصبح ببغاء الفلك مجرد ذبابة ، وهناك يلزمك الجد والاجتهاد عدة سنوات ، وذلك لأن الأحوال انقلبت رأسا على عقب ، وهناك يلزمك طرح المال جانبا ، كما يجب عليك هناك أن تدع الملك جانبا . . . عليك أن تتقدم مخضبا بالدماء ، بل عليك أن تتقدم متخليا عن الكل ، وإن لم يبق لك علم بشي ، فواجبك أن يتطهر قلبك من كل شي ، فإن يتطهر قلبك من الصفات ، فسرعان ما يستمد من الحضرة نور الذات ، وما أن يتضح هذا النور للقلب ، يصبح الطلب مرة واحدة في قلبك ألفا ، وإن تبد النار في طريقه ، أو تبد مائة واد رهيب ؛ فستجد نفسك من الشوق إليه كالمجنون ، وتلقي بنفسك في النار وكأنك فراشة ، ويصبح طلبك نابعا من اشتياقك إليه ، فتطلب جرعة من ساقيه ، وعندما تتيسر لك شربة من خمره ، يتم لك نسيان كلا العالمين ، وتبقى صادي الشفة وأنت غريق في البحر ، كما ستطلب من الحبيب سر الأحبة ، ولن تخشى التنانين الفتاكة في اندفاعك لمعرفة السر ، وإن يجتمع الكفر والإيمان أمامك فستقبل كليهما حتى يفتح لك الباب ، وحينما يفتح لك الباب ، يتساوى الكفر والدين ، حيث لن يبقى هذا ولا ذاك . . . المقالة الثامنة والثلاثون حكاية 2 الأبيات من 3229 - 3253 قال عمرو بن عثمان المكي الذي دون كتابه « كنج نامه » في الحرم : عندما نفخ اللّه الروح الطاهرة في جسد آدم المكون من ماء وتراب ، طلب ألا يدرك الملائكة كلهم أي خبر عن الروح أو أي أثر ، ثم قال : يا ملائكة السماء اسجدوا لآدم في هذا الزمان ، فسجد الجميع حيث وضعوا جباههم على الأرض ، لذا فما أدرك أحد منهم ذلك السر الأكبر ، ولكن إبليس قال في التو والحال ، لن يرى مني أي شخص سجدة . فإن يقطعوا رأسي عن جسدي ، يكن ذلك أهون عليّ من السجود ، إنني أعرف أن آدم ليس ترابيا ، لذا فأنا على استعداد لأن أضحي برأسي لأعرف السر ، مهما كانت العواقب . وهكذا أدرك إبليس السر الخفي ، لأنه لم يضع رأسه على الأرض . فقال الحق تعالى له : يا جاسوس الطريق ، لقد كنت لصا سارقا في هذا المجال ، وبما أنك رأيت ذلك الكنز الذي أخفيته ، فسأقتلك حتى لا تفشي في الدنيا سره ، وذلك لأن الملك إن أراد إخفاء كنز بعيدا عن علم جيشه ، فلا شك أنه يقتل ذلك الذي يطلع على مكان كنزه . وأنت رأيت الكنز فمن الضروري مجازاتك بقطع الرأس . فإن لم أفصل رأسك عن جسدك في هذه اللحظة ؛ فسوف يكون العالم بلا ريب تحت إمرتك . قال إبليس : يا إلهي ، لتمهل هذا العبد ، والتمس الحيلة لمن سقط . فقال الحق تعالى : لقد أمهلتك ولكنني طوقت رقبتك بطوق اللعنة ، وسأطلق عليك لقب « الكذاب » ، حتى تظل إلى يوم القيامة متهما . قال إبليس بعد ذلك : إن كان الكنز الطاهر قد بدا لي واضحا ، فأي خوف يعتريني بعد ذلك ؟ اللعنة صادرة عنك وكذا الرحمة ، والعبد عبدك ومنك الحظ والقسمة ! فإن كانت اللعنة من نصيبي ، فلا خوف يعتريني ، وما دام الترياق موجودا ، فلابد من وجود السم . فما أن رأيت الخلق يطلبون رحمتك ، حتى آثرت أن أحظى أنا عديم الخلق الغيب مرة أخرى ، أصبحت ذرات الدنيا قرينة لك . إن تنظر إلى الأمور بعين العقل ، فسترى العشق لا أول له ولا آخر ، وهو ضرورة لك حصيف ؛ كما أن العشق ضرورة لكل حر ، ولكنك لست حصيفا ولا عاشقا وإنما أنت ميت ، فكيف تكون للعشق لائقا ؟ ولابد من رجل حي القلب لهذا الطريق ، حتى يقدم مائة روح نثارا في كل لحظة. "" عمرو بن عثمان المكي : كنيته أبو عبد اللّه ، وكان أستاذ الحسين بن منصور الحلاج ، اتصل بالجنيد وصحب الخراز ، وكان من أقرانهما ، كان عالما في علوم الحقائق ، أصله من اليمن ، وأقام فترة في مكة ثم رحل إلى بغداد حيث توفي فيها عام 296 هـ أو 297 هـ . ( انظر نفحات الأنس لجامي طبعة طهران 1335 ش ، ص 84 - 85 ) . كنج نامه : أي كتاب الكنز "" المقالة الثامنة والثلاثون حكاية 3 الأبيات من 3335 - 3344 هام أحد السادة على وجهه بعيدا عن أسرته ، وساءت حالته من عشق صبي يبيع الفقاع ، ومن فرط عشقه ، ذاعت قالة السوء عنه ، وكانت له ممتلكات وضياع ، فباعها واشترى بثمنها الفقاع ، وعلى الرغم من تخليه عن كل ممتلكاته وترديه في الفقر ، إلا أن عشقه كان يزداد ويتضاعف ، وعلى الرغم من توفيرهم الخبز له على الدوام ، إلا أنه كان في جوع دائم ، حيث كان شبعه من الروح دواما ، وذلك لأنه كان يشتري فقاعا بكل ما يصله من خبز وفير ، وكان يمضي وقتا طويلا أسير الجوع ، وذلك حتى يتجرع مائة كأس من الفقاع . وسأله سائل : أيها الحزين المضطرب ، ما هو العشق ؟ لتوضح لي سره . فقال : هو أن تبيع مائة عالم من المتاع ، مقابل كأس واحدة من الفقاع ، وإذا لم يرق هذا العمل للآدمي ؛ فكيف يعرف العشق والألم ؟ المعشوق النشوان بحجر ، فهذا أفضل من أن تنال جوهرة من غيره ، وعلى الرجل أن يكون في مجال الطلب والانتظار ، ناثرا روحه في الطريق في كل زمان ، وألا يسكن لحظة عن الطلب ، وألا يستريح لحظة ، وإذا وهن عزمه عن الطلب زمنا ، فهو في هذا الطريق يكون مرتدا ، عديم الأدب . المقالة الثامنة والثلاثون حكاية 4 الأبيات من 3269 - 3273 رأى العزيزي المجنون مهموما ، حيث كان ينخل التراب في الطريق ، فقال : أيها المجنون ، عم تبحث هنا ؟ قال : أبحث عن ليلى ها هنا فقال ( العزيزي ) : وأنّى لك أن تجدها في التراب؟ ومتى كان الدر الطاهر كامنا في تراب الطريق ؟ قال : إنني أبحث عنها في كل مكان ، لعل يدي تصادفها بغتة في أي مكان . "" يقصد بالمجنون قيس بن الملوح وهو من يعرف باسم « مجنون ليلى » وشخصيته تكاد تكون خرافية . ويقول بروكلمان : انه توفي فيما يظن عام 70 هـ ( 689 م ) . . انظر تاريخ الأدب ج 2 لبراون - ترجمة د . الشواربي ص 516 - 518 طبع القاهرة 1954 م . ."" المقالة الثامنة والثلاثون حكاية 5 الأبيات من 3273 - 3283 كان يوسف الهمداني إمام العصر ، كما كان عليما بأسرار الروح ، بعيد النظر . قيل إنه كلما نظر إلى شيء من أعلى إلى أسفل ، تحولت كل ذرة فيه إلى يعقوب آخر ، يسأل عن يوسف الذي افتقده . لابد من الألم في طريقه وكذلك الانتظار ، حتى ينقضي عمر في هذين الأمرين . وإن لا تجد لك عملا في هذين الأمرين ، فحذار أن تخلي فكرك من هذه الأسرار. إذ لابد للرجل من الصبر في الطلب ، ومتى كان صبرك لائقا بأهل الألم ؟ ولتزد من صبرك، سواء أكنت راضيا أم لا ، فلعلك تدرك الطريق بمساعدة آخر. أنت شبيه بطفل في بطن أمه ، فاجلس وحيدا وسط خضم الدماء ، ولا تخرج عن طبيعتك لحظة . وإذا كان الخبز ضرورة ، فاطعم الدم لحظة ، فطعام الجنين الدم وكفى ! إنه أفضل من كل ما هو خارج البطن ، فاطعم الدم وتحمل الآلام وتذرع بالصبر كالرجال ، حتى تحقق الأيام ما تصبو إليه من آمال . "" يوسف الهمداني : امام عالم عارف رباني ، صاحب الأحول والمواهب الجزيلة والكرامات والمقامات الجليلة . وتوجه في البداية من همدان إلى بغداد ولزم مجلس الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، وعلا نجمه على كل أقرانه ، ثم تنقل بين مجالس العلم في كل من بغداد وأصفهان وسمرقند ، وأخيرا تخلى عن الكل واتخذ طريق العبادات والرياضات والمجاهدات . توفي وهو في الطريق من هراة إلى مرو عام 335 هـ . ( انظر : نفحات الأنس لجامي ، طبع طهران ص 1336 ش : 375 - 377 ). "" المقالة الثامنة والثلاثون حكاية 6 الأبيات من 3284 - 3300 ألمّ بشيخ مهنة ضيق عظيم ، فمضى إلى الصحراء بقلب مفعم بالألم ، وعين دامية الدمع ، فرأى من بعيد شيخا قرويا ، يسوق ثورا ، ويشع منه النور ، فاتجه صوب الشيخ وقرأه السلام ، ثم شرح له حال ضيقة بالتمام ، وما أن سمع الشيخ ذلك ، حتى قال : يا أبا سعيد ، إن يمتلئ العالم من الأرض المنخفضة إلى العرش المجيد بالذرة ؛ لا بكومة واحدة ، بل بمئات من الكومات ، وإن يوجد طائر يلتقط ذلك الذرة لمدة ألف عام ، وحتى ولو تكرر ذلك لأزمنة عديدة ، وجاءت مئات الطيور ، فلن تجد الروح ريحا من بابه حتى ذلك الوقت ، فلم العجلة يا أبا سعيد الآن ؟ إذ لابد من الصبر المديد للصابرين ، وليس كل طالب يتذرع بالصبر ، وإن لا ينبع الطلب من الأعماق ، فلن يظهر المسك من الدم في السرة ، وإن ينبع من الأعماق ، فمهما كانت الأفلاك فستغوص في الدماء . من لا طلب له ، يظل أسير الحيرة ، بل حاشي للّه أن تكون له صورة حيوان ، ومن عدم الطلب ، فهو جيفة ، وليس على قيد الحياة ، بل مجرد حائط أصم ، وإن يصلك كنز من الجواهر ، فلتكن أكثر حماسة في الطلب ، أما من قنع بالكنز والجوهر ، فقد أسر نفسه بقيد الكنز والجوهر ، ومن تعلق بأي شيء في الطريق ؛ أصبح صنمه ذلك الشيء ، فليهنأ بصنمه ، وإن كنت واهي اللب ضعيفا ، فسرعان ما تصبح ثملا بالشراب ، فاقدا عقلك ، فحذار ! ولا تسكر في النهاية بكأس واحدة ، بل دوام الطلب ، ما دام الطلب بلا نهاية . "" يقصد بذلك : الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير ."" المقالة الثامنة والثلاثون حكاية 7 الأبيات من 3301 - 3310 ذات ليلة سار محمود بلا جند ، فرأى رجلا ينخل التراب على قارعة الطريق ، وقد كوم أمامه عدة كومات من التراب ، فما أن رآه السلطان حتى ألقى بسواره ، ألقاه وسط كومة من التراب ، ثم ساق حصانه الشبيه بالريح في السرعة ، وفي الليلة التالية عاد محمود ، فوجده مشغولا كالبارحة ، فقال له :إن ما عثرت عليه البارحة ، يساوي عشرة أضعاف خراج الدنيا ، فلم تعود اليوم لتنخل التراب ثانية ؟ لتكن سلطانا ، فقد أصبحت بلا فاقة . فقال ناخل التراب له : إن ما وجدته بين التراب يعد كنزا خفيا عظيم القيمة ، فإذا كان حظي أصبح مواتيا من هذا العمل ، فلن أتخلى عنه ما دامت روحي في جسدي ، فكن رجل هذا الباب حتى يفتح لك ، ولا تشح برأسك عن الطريق حتى يتضح لك ، وليس لك إلا إغلاق عينيك على الدوام ، وامض مجتهدا في الطلب ، فما أغلق الباب بعد . المقالة الثامنة والثلاثون حكاية 8 الأبيات من 3311 – 3312 قال أحد الوالهين مخاطبا اللّه : إلهي ، لتفتح بابا أمامي في النهاية ! لعل رابعة كانت تجلس هناك ، فقالت : أيها الغافل ، ومتى أغلق هذا الباب ؟ إن الباب مفتوح ، أيها الغلام ، وعليك أن توجه وجهك تجاهه وتبحث عن مرادك على الدوام . المقالة التاسعة والثلاثون في وصف وادي العشق الأبيات من 3313 - 3334 بعد ذلك يتضح وادي العشق ، ومن يصل هناك يغرق في الحرقة ، فلا تجعل يا إلهي أي فرد في هذا الوادي بلا حرقة ، ولا تجعل عيش من لا يتردى في الحرقة سعيدا مسرورا ، فالعاشق من يكون في نار وحرقة ، كما يكون متقد القلب ملتهبا ثائرا . العاشق من لا يفكر لحظة في العاقبة ، إنما يكون غارقا في النار كبرق الدنيا ، وفي لحظة لا يعرف الكفر ولا الدين ، كما لا يعرف ذرة من شك أو يقين ، الخير والشر متساويان في طريقه ، فإذا جاء العشق نفسه ، فلا وجود لهذا أو ذاك . يا من تكترث ، إن هذا الكلام ليس لك ، فأنت مرتد ، وهذا الذوق لم يتوفر لروحك ، فكل من يتطهر ، يطرح المادة جانبا ، ثم يقامر بروحه في وصال الحبيب ، لقد وعد الآخرون بالغد ، أما هو فيأخذ حسابه في التو والحال ، وطالما لم يحرق نفسه دفعة واحدة ، فكيف يستطيع التخلص من الآلام والهموم ؟ وطالما لم يحرق الجواهر في وجوده ، فكيف يمكن أن يضيء قلبه فرحا وسرورا ، إنه يختلج دائما في حرقة وانصهار ، حتى يعود أدراجه مرة أخرى ، كالسمكة إذا ما انتزعت من الماء إلى اليابسة ، تملكها الاضطراب ، لعلها تلقى في البحر ثانية . العشق نار هناك ، أما العقل فدخان ، فما أن يقبل العشق حتى يفر العقل مسرعا ، والعقل ليس أستاذا في مجال العشق ، وليس العشق وليد العقل ، وحتى لو منحت حق الاطلاع على عالم الغيب ، فلن تدرك من أين ينبت هناك أصل العشق ، وكل ورقة في عالم العشق ، ستطرح رأسها على كتف أختها ثملة بالعشق ، وإن منحت فرصة الاطلاع على الغيب مرة أخرى ، أصبحت ذرات الدنيا قرينة لك . إن تنظر إلى الأمور بعين العقل ، فسترى العشق لا أول له ولا آخر ، وهو ضرورة لك حصيف ؛ كما أن العشق ضرورة لكل حر ، ولكنك لست حصيفا ولا عاشقا وإنما أنت ميت ، فكيف تكون للعشق لائقا ؟ ولابد من رجل حي القلب لهذا الطريق ، حتى يقدم مائة روح نثارا في كل لحظة . المقالة التاسعة والثلاثون حكاية 1 الأبيات من 3335 - 3344 هام أحد السادة على وجهه بعيدا عن أسرته ، وساءت حالته من عشق صبي يبيع الفقاع ، ومن فرط عشقه ، ذاعت قالة السوء عنه ، وكانت له ممتلكات وضياع ، فباعها واشترى بثمنها الفقاع ، وعلى الرغم من تخليه عن كل ممتلكاته وترديه في الفقر ، إلا أن عشقه كان يزداد ويتضاعف ، وعلى الرغم من توفيرهم الخبز له على الدوام ، إلا أنه كان في جوع دائم ، حيث كان شبعه من الروح دواما ، وذلك لأنه كان يشتري فقاعا بكل ما يصله من خبز وفير ، وكان يمضي وقتا طويلا أسير الجوع ، وذلك حتى يتجرع مائة كأس من الفقاع . وسأله سائل : أيها الحزين المضطرب ، ما هو العشق ؟ لتوضح لي سره . فقال : هو أن تبيع مائة عالم من المتاع ، مقابل كأس واحدة من الفقاع ، وإذا لم يرق هذا العمل للآدمي ؛ فكيف يعرف العشق والألم ؟ المقالة التاسعة والثلاثون حكاية 2 الأبيات من 3345 - 3367 لم يكن أهل ليلى يسمحون للمجنون ، بالحضور إلى قبيلتهم ولو للحظة ، وتصادف أن كان أحد الرعاة يجلس في تلك الصحراء ، فأخذ المجنون الثمل منه فرو خروف ، ثم انحنى وألقى الفرو على رأسه ، فبدا شبيها بالخروف ، وقال للحارس استحلفك باللّه ، أن تتركني أسير وسط القطيع ، ثم سق القطيع وأنا وسطه صوب ليلى ، حتى أجد - ذات لحظة - ريح ليلى ، وإنني أتخفى عن الغير تحت هذا الفرو ، لكي أنعم بالحبيب ساعة . إن يصبك ألم مثل هذا ولو للحظة ، تكن رجلا ونعم الرجل ، وللأسف لم تصبك آلام الرجال ، إذ لابد من الألم للرجل ، أما أنت فلا علم لك به . وأخيرا تخفى المجنون تحت الفراء ، وسار إلى محلة المحبوبة مع القطيع ، سار غاية في السرور بعد أن تملكه الاضطراب أول الأمر ، سار وقد فقد عقله واتزانه نشوة في نهاية الأمر ، وما أن هاج عشقه ، حتى تصبب عرقه ، فأخذه الراعي وحمله إلى الصحراء ، وألقى الماء على وجه ذلك الثمل النشوان ، حتى ينطفئ أوار تلك النار بفعل الماء . بعد ذلك ، جالس المجنون الثمل ذات يوم ، جمعا من الأهل بالصحراء ، فقال أحد أقربائه : لقد ظللت عاريا فترة طويلة ، يا عالي الهمة . . . أي رداء تفضله ، آتيك به في التو إن تطلبه . قال ( المجنون ) : ليس كل رداء يليق بالحبيب ، ولا رداء عندي أفضل من الفرو ، إنني أطلب ردائي من ذلك الخروف ، كما أحرق البخور من أجل عين السوء ، وعلى الرغم من أن المجنون جدير بأن يرتدي الأطلس والحرير ، إلا أنه يطلب أي رداء تفضله ليلى . لقد رأيت وجه الحبيب وأنا في هذا الفرو ، فكيف اتخذ رداء غير هذا الفرو ؟ لقد أدرك القلب سر الحبيب عن طريق الفرو ، فليكن لي رداء إن أفقد العقل . العشق ضرورة حتى يحررك من عقلك ، ثم يبدل صفاتك ويمحوها ، وأقل شيء في محو الصفات ، هو هبة الروح وترك الترهات ، فاسلك الطريق إن كنت ذا همة ، إذ لا مجال فيه للعب ، بل كله مخاطرة . المقالة التاسعة والثلاثون حكاية 3 الأبيات من 3368 - 3405 أصبح ذلك المعدم عاشقا لاياز ، وانتشر هذا القول في كل مجلس ، فإذا مضى اياز ممتطيا جواده ، أسرع وراءه ذلك المسكين العارف لقدره ، وإن أقبل ذلك المسكي الرائحة إلى الميدان ، ما نظر المجنون إلا صوبه فقط ، فأخبر محمود ، بأن هذا المسكين أصبح عاشقا لاياز ، وفي اليوم التالي عندما حضر الغلام ، أسرع صوبه ذلك الواله وهو متيم في العشق ، فكان يديم النظر إلى كرة اياز ، وكان في متابعته ككرة ضربها الصولجان . وفي الخفاء أمعن السلطان النظر إليه ، فرأى وجهه كذرات تبن ، وروحه كحبة شعير ، وكان ظهره مقوسا كعصا الصولجان ، كما كان كالكرة مضطربا ، وكان يسرع الخطى نحو كل مكان في الميدان كالكرة ، فناداه محمود قائلا : أيها المسكين ؛ أترغب في أن تكون نديما للسلطان ؟ قال المعدم : سواء أكنت مسكينا أم لا ، فلست أقل منك في مضمار العشق ، العشق والإفلاس قرينان ، وهما ثروة من لا ثروة له ، فالعشق يستمد ملحه من الإفلاس ، والعشق يليق بالمفلس بلا شك . أنت سلطان الدنيا ولك قلب مشرق فرح ، ولكن يلزم العشق مشبوب القلب مثلي ، إن أسباب الوصل وفيرة لديك ، وكفى ، فلتصبر لحظة على آلام الهجر ، وما أكثر ما تفعله من أجل الوصل ، فيجب عليك أن تتحمل الهجر إذا كنت عاشقا . قال له السلطان : أيها الجاهل بفعل السكر ، لماذا تديم النظر إلى الكرة ؟ قال : إن الكرة حائرة مثلي ، وأنا مثلها مضطرب ، إنها تعرف قدري كما أعرف قدرها ، فكل منا كرة في صولجانه . وكل منا قد وقع أسير الحيرة والاضطراب ، وقد وقفنا على روحينا ، حيث عدمنا الأرجل والرأسين . إنها تعرفني ، وأنا أعرفها ، ونقول دواما : مرحى بالمزيد من الغم . ولكن كرة الطريق أسعد حظا مني ، فالحصان أحيانا يقبّلها بنعله ، ومع أنني عدمت الرأس والقدمين كالكرة ، إلا أنني أفوق الكرة في تحمل المحن ، فإذا كانت الكرة تتحمل الجروح من الصولجان ، فإن هذا المسكين انفطر قلبه من آلام روحه ، وإن تجرح الكرة كثيرا ، فإن اياز يسرع صوبها في النهاية ، ومع أنني أجرح أكثر منها ، فهو لا يسعى في إثري على الرغم من أنني قريب منه . وكثيرا ما نعمت الكرة بالحضور معه ، أما أنا المسكين فمبعد عنه على الدوام ، فإن تنعم الكرة بالحضور فإنها تشعر بالسرور من خمر الوصال ، وأنا لا أستطيع عقد الأمل في وصاله ، بينما يتم الوصال للكرة ، لذا فهي تفضلني . قال له السلطان : أيها المفلس ، لقد ادعيت الإفلاس أمامي ، وإن لم تكن تتحدث كذبا ، أيها العاجز ، لكان لك من إفلاسك خير شاهد . قال : ما دامت الروح باقية ، فلست مفلسا ، وإن كنت مدعيا ، فلست رجلا جديرا بهذا المجلس، ولكن إذا نثرت روحي في العشق ، فإن نثر الروح علامة المفلس. أما أنت يا محمود ، ما معنى العشق لديك ، عليك بنثر روحك ، وإلا فلا تدع العشق . قال هذا وفاضت روحه من الدنيا ، وأسلم روحه للأحبة ، وما أن أسلم ذلك المعدم روحه على تراب الطريق ، حتى اسودت دنيا محمود من الغم . إذا كان قد خاطر بروحه على مقربة منك ، فتقدم أنت لترى هل توفق . وإذا قيل لك تقدم ساعة ، فتقدم طالما تسمع أصواتا نابعة من الطريق ، وهكذا تظل لا أول لك ولا آخر على الدوام ، حيث تقامر به كله على الدوام ، فإن تندرج فيه وتتم لك المعرفة ، فسرعان ما يضطرب العقل والروح ويصبحان في ارتفاع وانخفاض . المقالة التاسعة والثلاثون حكاية 4 الأبيات من 3406 - 3427 رحل أحد الأعراب إلى بلاد العجم ، فتملكه العجب من تقاليد العجم ، وتجول هذا الجاهل لمشاهدة الخلق ، فوقع بصره على بيت القلندرية ، فرأى جماعة السكارى لا أول لهم ولا آخر ، وقد تخلوا عن كلا العالمين بلا كلمة واحدة ، كما أهمل كل منهم ماله وتخلى عن كل ما يخصه ، وكم كان كل منهم يفوق الآخر في التكاسل والتراخي ، وقد أمسك كل منهم بكأس خمره ، وتجرع الجميع ما بها من خمر ، فحل بهم السكر . وعندما رأى هؤلاء القوم ، مال إليهم ، وانحاز عقله وروحه إلى شارع سيلهم . عندما وجده القلندرية وسطهم ، وقد سلبت الخمر عقله وروحه ، قالوا جميعا له : تقدم يا مجهول الهويّة ! فدخل ! وهذا ما حدث دون نقص أو زيادة . فثمل الأحمق من كأس واحدة ، وفقد وعيه وخارت عزيمته ، وكان معه الكثير من المال والمتاع والفضة والذهب ؛ فسلبه إياها رجل في لحظة ، ثم جاءه قلندري آخر ، وزاده سكرا ، ثم ألقى به خارج دار القلندرية . فسار الأعرابي حتى بلاد العرب ، سار عاري الجسد مفلسا صادي الروح جاف الشفة ،  فقال له أهله : أي اضطراب هذا أصابك ؟ وأين ذهبك وفضتك ؟ لعلك غفلت عنها ! لقد ولى ذهبك وفضتك وحل مكانها الاضطراب ،  فهل كان ذهابك إلى بلاد العجم شؤما عليك ؟ وهل قطع لص الطريق عليك ؟ وإلا ، فأين مالك ؟ اشرح ما حدث حتى نعرف حقيقة حالك . قال : لقد سرت متبخترا في الطريق ، وفجأة ملت إلى دار القلندرية ، ولا أعلم شيئا بعد ذلك ، إلا أن ولي الذهب والفضة ، وأصبحت محطما . . . فقال ( أحد أهله ) : صف لي جماعة القلندرية ،  قال : هذا هو الوصف ،  ثم قال : هيا ادخل . . . وقد ظل الأعرابي في فنائه ،  وأخذ يردد قولة : هيا ادخل . . . تقدم ! وإلا فالو رأسك وامض ، وانثر روحك ! وإلا فاحرص على روحك وامض ، وإن تتقبل بروحك أسرار العشق ؛ فانثر الروح في مضمار العشق ، وليكن لك نثر الروح ، ثم تعر بعد ذلك ، وليبق لك قولة « هيا ادخل » من جميع الأقوال . . . "" القلندرية : المراد من القلندرية التجريد من الكونين والتفريد من الدارين ، والفرق بين القلندري والملامتى والصوفي هو أن القلندري يعتبر الكمال في التفريد والتجريد ، ويجتهد في تخريب العادات ، والملامتي يجتهد في كتم العبادات . أما الصوفي فقلبه أصلا غير مشغول بالخلق . ( فرهنك مصطلحات عرفا ، نقلا عن تعليقات الدكتور جواد مشكور . انظر منطق الطير نسخة طهران 1341 ش ص : 334 )"" . المقالة التاسعة والثلاثون حكاية 5 الأبيات من 3428 - 3442 عشق شخص يتسم بالهمة والكمال ، فتاة غاية في الجمال ، وقضاء وقدرا دهم المرض قلب المعشوقة ، فأصبحت نحيلة كعود الزعفران ، مصفرة الوجه ، وأصبح النهار المشرق مظلما على قلبها ، وجاءها الموت من بعيد ، واقترب منها . . . خبّر العاشق بذلك ، فهرول مسرعا وبيده سكين ، وقال : أريد قتل الحبيبة ، حتى لا تموت المعشوقة بفعل الموت نفسه . . . فقال له الخلق : إنك في غاية الاضطراب ، وأي حكمة تراها في هذا القتل ؟ لا تسفك دمها ، وكف يدك عن هذا القتل ، لأنها ستموت ميتة طبيعية هذه الساعة ، فإن لم تمت ، فليكن القتل ، ولا يقطع رأس الميت إلا جاهل ! قال : إن أقدم على قتل المعشوقة بيدي ، فسأقتل قصاصا لها ، وعندما تقوم الساعة ، فأمام الجميع يحرقونني كالشمع ، فإما أن أقتل اليوم بسبب تعلقي بها ، وإما أن أحرق غدا بسببها ، فكل رغبتي هنا أو هناك أن يكون اسمى المحروق أو المقتول بسببها . يتقدم العشاق إلى الطريق مضحين بأرواحهم ، يتقدمون وقد قصروا أيديهم عن العالم ، وتحملوا وسط ذلك آلام الروح ، كما خلصوا القلب من الدنيا كلية ، وما أن خلصوا أرواحهم من الكل ، حتى أصبحوا في خلوة مع الحبيب . . . المقالة التاسعة والثلاثون حكاية 6 الأبيات من 3443 - 3455 عندما كان خليل اللّه في النزع الأخير ، لم يسلم الروح لعزرائيل بسهولة ويسر ، فقد قال له : عد مرة أخرى ، وقل للّه : لا تقبض في النهاية روح خليلك . فقال الحق تعالى : إن تكن الخليل حقا ، فاترك الروح تسلك طريقها إلى خليلك ، لا يليق بك أن تقبض روحك بحد السيف ، ومن ذا يندم على تسليم روحه لخليله ؟ وقال له أحد الحاضرين : يا شمع الدنيا ، لم لا تسلم روحك لعزرائيل ؟ إن العشاق يضحون بأرواحهم في الطريق ، فلم تحافظ أنت على روحك في النهاية ؟ فقال : كيف أقول بترك الروح الآن ، وقد تدخل عزرائيل بيننا ، فقد جاءني جبريل ساعة إلقائي في النار ، وقال : أيها الخليل ، قل لي حاجتك ، فلم أعره إلتفاتة في ذلك الوقت ، لأن طريقي أغلقت تجاهه ، ولم تفتح إلا في اتجاه اللّه ، فإذا كنت قد أشحت برأسي عن جبريل ، فكيف أسلم الروح لعزرائيل ؟ لذا لا أستطيع نثر الروح ، حتى أسمع من اللّه الأمر بتسليم الروح . فإذا جاءني الأمر بتسليم الروح ، فإن الدنيا لا تساوي بالنسبة لروحي نصف دانق ، وكيف أسلم روحي لأي شخص في كلا العالمين ؟ إنني لن أسلمها إلا بأمره ، وهذه هي القصة ، وكفى . . ! المقالة الأربعون بيان وادي المعرفة الأبيات من 3456 - 3481 بعد ذلك يتضح أمام نظرك وادي المعرفة ، وهو واد لا بداية له ولا نهاية ، ولا يوجد شخص قط في هذا المقام يشك في طول الطريق ، وفيه يختلف كل طريق عن الآخر ، وفيه يختلف السالك بالجسد ، عن السالك بالروح ، وفيه تداوم الروح والجسد الترقي والزوال ، وذلك عن طريق النقصان والكمال . . . فلا جرم أن وضح الطريق لكل سالك قدر طاقته إذ كيف يكون العنكبوت المبتلي رفيقا للفيل في هذا الطريق الجليل ؟ فسلوك كل شخص مرهون بكماله ، ويتم قرب كل شخص حسب حاله ، فإن تطر بعوضة هناك بكل قوتها ، فكيف تستطيع أن تساوي الريح الصرصر في قوتها ، فلا جرم إن كان السير فيه مختلفا ، فلن يصير كل طائر فيه سالكا . . . وهنا تتفاوت المعرفة ، حيث يدرك هذا المحراب ، ويدرك ذاك الصنم ، وعندما تضيء شمس المعرفة من فلك هذا الطريق العالي الصفة ، فسيصبح كل فرد مبصرا قدر استاطعته ، ثم يجد صدره في الحقيقة ، وعندما يشرق سر ذاته عليه ، يصبح موقد حمام الدنيا روضة لديه ، ويرى لبه في دخيلته لا في جسده ، كما لن يرى نفسه لحظة ، حيث يرى الحبيب وحده ، ومهما يرى ، فسيرى وجهه على الدوام ، وسيرى محلته ذرة ذرة على الدوام ، وستظهر مئات الألوف من الأسرار وجهها له كالشمس من تحت النقاب ، وسيفني آلاف الخلق دواما ، حتى يتضح سر واحد تماما . . . لابد لهذا الطريق من إنسان كامل ، حتى يغوص في هذا البحر العميق ، وإن يظهر ذوق من الأسرار لك ، فسيتولد في كل زمان شوق جديد لديك ، وسيسود الظمأ الكل هنا ، وستسفك مئات الألوف من الأرواح حلالا هنا . . . كي تصل إلى العرش المجيد ، لا تكف مطلقا عن ترديد : هل من مزيد ؟ وأغرق نفسك في بحر العرفان ، وإلا ، فأقل شيء هو أن تنثر التراب على مفرقك . وإن لم تكن أيها الغافل من أهل التهنئة ، فلم لا تعزي نفسك ؟ وإن تعدم السعادة في وصل الحبيب ، فلا أقل من أن تقيم مأتم الهجران ، وإن تحرم من جمال محبوبك ، فانهض ولا تجلس ، وداوم الطلب بحثا عن الأسرار ، وإن تجهل الطلب ، فليتملكك الخجل ، وإلام تظل كالحمار بلا زمام ؟ . . المقالة الأربعون حكاية 1 الأبيات من 3482 - 3498 كان بجبال الصين رجل مشغول بتحطيم الأحجار ، وكانت عيناه تذرفان الدمع على الثرى ، وكانت دموعه تتساقط على الأرض بغزارة ، ثم تتحول إلى حجارة ، ولو سقط حجر منها في يد السحاب ، لما ظهر منه غير الأسى حتى يوم الحساب ، ولدى هذا الرجل الصادق علم نافع ، فابحث عنه حتى ولو تسافر إلى الصين ، وكل شيء في هذه الدنيا الفانية ظلام في ظلام ، ولكن العلم لديه يشبه مصباح الهداية . في هذه الدنيا المظلمة ، الروح هي المرشد ، وجوهر العلم يسمو بروحك ، وأنت في هذه الظلمة قد عدمت الرأس والقدم ، كما أصبحت كالإسكندر عديم المرشد ، وإن تجمع الكثير من الجواهر ، فستجد نفسك أكثر الناس ندما ، وهذه الدنيا وتلك لا قيمة لهما في عالم الروح . فالروح خفية عن الجسد ، والجسد خفي عن الروح . وعندما خرجت من القلة انتقلت إلى القلة أيضا ، لأن هذه المنزلة خاصة بالآدمي فقط . . إن تصل هناك إلى هذا المكان الخاص ، فستجد في كل لحظة مئات الأسرار ، وإن تظل في هذا الطريق ، فالويل لك ، حيث تفنى في البكاء من أولك إلى آخرك ، لا تنم بالليل ، ولا تشغل بالأكل في النهار ، فربما يظهر هذا الطلب فيك ، فاطلب حتى يصيبك الطلب بالفناء ، وإلا فسيصيبك الأكل نهارا والنوم ليلا بالفناء ! المقالة الأربعون حكاية 2 الأبيات من 3499 - 3509 أصيب عاشق بالاضطراب من فرط العشق ، فنام على التراب في ذلة وانكسار ، ثم مر به معشوقه وهو في مرقده هذا ، فرآه نائما وقد غاب عن وعيه ، فكتب وريقة تليق به وربطها على كم عاشقه ، وما أن استيقظ عاشقه من نومه ، وقرأ الوريقة ، حتى سيطر الحزن عليه ، وكان المكتوب يقول : أيها الرجل الخامل ، إن كنت تاجرا للفضة ، فانهض ، واسع ، وإن كنت زاهدا ، فتهجد بالليل ، وعش في تضرع حتى النهار ، وكن للّه عابدا ، وإن كنت عاشقا ، فليعترك الخجل ، فمتى جاز لعين العاشق أن تنام ؟ فالعاشق كالريح بالنهار ، وفي الليل يبدو في حرقته كالقمر ، ولما كنت يا عديم الضياء لا هذا ولا ذاك ، فقلل من التفاخر الكاذب بعشقنا ، فإذا نام العاشق ففي الكفن ، أما أنت فعاشق لنفسك . وإن كنت بالعشق جاهلا ، فاهدأ بالنوم لأنك لست للعشق أهلا . المقالة الأربعون حكاية 3 الأبيات من 3510 - 3537 كان أحد الحراس عاشقا ولها ، لا ينام الليل ولا يقر له قرار بالنهار ، فقال صديق حميم للعاشق المسهد : يا من لا تنام ، لتنم في النهاية لحظة من الليل . فقال ( العاشق ) : لقد أصبح العشق قرين الحراسة ، فكيف ينام من له هذان الأمران ؟ ومتى كان النوم بالحارس لائقا ، وبخاصة إذا كان هذا الحارس عاشقا ؟ فإن كان الإنسان يخاطر أبدا ، فكثيرا ما يدفع كل أمر الإنسان إلى أمر آخر ، وكيف أستطيع النوم لحظة ، وأنا لا أستطيع استعارة النوم من أحد ؟ في كل ليلة كان العشق يعقد للحارس امتحانا ، حيث يجعله مشغولا بالحراسة ، فكان يمضي هنا وهناك ضاربا بالعصا ، وأحيانا يضرب وجهه ورأسه حزنا ، وإذا غفا لحظة هذا المسهد الجائع ، رأى العشق في منامه ، فكان الخلق جميعا في سبات طوال الليل ، أما هو فأسير النواح والأنين . فقال له حبيبه : يا من قضيت الليل كله في حرقة واضطراب ، لم لم تنم لحظة ؟ قال : ليس للحارس أن ينام ، ولا رواء لوجه العاشق إلا بالدمع ، فطبيعة الحارس عدم النوم ، وطبيعة العاشق شحوب الوجه ، وإذا كان الدمع ينهمر من العين وهي موضع النوم ، فكيف يمكن لها أن تكتحل بالنوم ؟ لقد اتفق العشق والحراسة ، وسلبا النوم من عينيه ، وألقياه في البحر . وقد خاطب العاشق الحارس بكلام عذب ، فوقع أمر سهده موقعا حسنا في عقله . فمن يسر للسهاد ويطرب ، لا يمكن للنوم أن يسيطر على رأسه ولبه ، فلا تنم أيها الرجل إن كنت طالبا ، أو لينعم عليك اللّه بالنوم الهانىء ، إن كنت بالقول متشدقا . وكن على الدوام حارسا في محراب القلب ، فما أكثر اللصوص المتربصين بالقلب ، وقد انتزع القلب الطريق من أيدي اللصوص ، فإذا تم لك التحلي بصفة الحراسة ، فما أسرع ظهور العشق في المعرفة ، ففي هذا البحر الملئ بالدم ، ستنبثق المعرفة للرجل من عدم النوم ، وكل من يتحمل كثرة السهاد ، سيمضي إلى الحضرة متيقظ القلب . فقلل من النوم وكن وفي القلب ، إذا كنت من السهاد يقظ القلب ، ويجب القول أنه حينما يغرق جسدك ، لن تخلصك الاستغاثة من الغرق . لقد مضى العشاق السابقون ، ورقدوا جميعا سكارى بالمحبة ، فاضرب رأسك ، حيث استعذب السابقون كل ما وجب فعله ، ومن بدا له ذوق العشق ، فسرعان ما وجد مفتاح العالمين ، فإن توجد امرأة في طريق العشق ، تصبح رجلا مهيبا ، وإن يوجد رجل في هذا الطريق ، يصبح بحرا عميقا . المقالة الأربعون حكاية 4 الأبيات من 3539 - 3550 قالت العباسة لأحد الرجال : ليس العشق إلا ذرة تقع على من يشرق عليه ألم العشق ، فإن كان رجلا تنجب المزأة منه ، وإذا كان امرأة ، فحسبها أنها تنجب الرجل ، لقد علمت أن المرأة من نسل آدم ، وألم تعلم أن الرجل من نسل مريم ؟ وإذا لم يظهر ما يجب أن يكون تاما ، فإن الأمر لا يمكن أن يتضح لك تماما ، وعندما يتضح الملك ، ويتم تحصيله لك ، فسيتم كل ما يصبح حاصلا في قلبك ، واعلم أن هذا هو الملك ، وتلك هي السعادة ، واعتبر أن ذرة من هذا العالم ، ما هي إلا قبس من الدين ، وإن تقنع بملك هذه الدنيا ، فستظل ضائعا إلى الأبد ، أما السلطنة الدائمة ففي المعرفة ، فاجتهد حتى تحصل على هذه الصفة ، وكل من يكون ثملا بعالم العرفان ، يكون بالنسبة لخلق الدنيا جميعا بمثابة السلطان ، ويصبح ملك العالم ملكا له ، وتصبح الأفلاك التسعة فلكا في بحره ، وإن يدرك ملوك الأرض طعم جرعة واحدة من ذلك البحر اللانهائي ، فإنهم يجلسون جميعا في مأتم ، لما اعتراهم من ألم ، وما رأى بعضهم وجوه بعض من شدة هذا الألم . المقالة الأربعون حكاية 5 الأبيات من 3557 - 3551 مضى محمود صوب خرابة ، فرأى هناك مجنونا ولها ، وقد طأطأ الرأس مما به من غم ، وقصم ظهره من كثرة ما اعتراه من هم . وما أن رأى السلطان ؛ حتى قال : ابتعد ، وإلا ألحقت بك أدى كثيرا ، فابتعد ! أنت لست سلطانا ، لأنك عديم الهمة ، كما أنك كافر بما منحك اللّه من نعمة . قال له محمود : لا تتهمني بالكفر ، وقل لي لفظا واحدا ولا تكثر . فقال : لعلك تعلم أيها الجاهل ، عن من ابتعدت ، يا عديم النظر ، فأنت لست إلا ترابا ورمادا بالتمام ، وستصب النار على رأسك على الدوام . المقالة الحادية والأربعون في وصف وادي الاستغناء الأبيات من 3558 - 3580 بعد ذلك يأتي وادي الاستغناء ، وهو خال من كل دعوى ومعنى ، وفيه تسرع الريح العاتية مما بها من قوة ، حيث تشمل كل إقليم في لحظة . والبحار السبعة ما هي إلا بركة ماء هنا ، والكواكب السبعة ما هي إلا ومضة ضوء هنا ، وتكون فيه الجنات السبع في موت مطبق ، كما تصبح النيران السبعة فيه كالثلج المتجمد ، وفيه تصبح للنملة ويا للعجب ، قوة مائة فيل بلا أدنى سبب ، ولكي يصبح الغراب ممتلئ الحوصلة ، فلن يبقى أحد قط على قيد الحياة من مائة قافلة ، ولقد احترق مئات الألوف من الملائكة حتى أضاء مصباح لآدم . وخلت آلاف الأجسام من الروح ، حتى أصبح نوح نجارا في تلك الحضرة . وهجم العديد من البعوض على الجيش ، حتى سما إبراهيم فوق الجميع . وسفك دم العديد من الأطفال ، حتى أصبح كليم اللّه صاحب رؤية . وعقد مئات الألوف من البشر الزنار ، حتى أصبح عيسى محرم الأسرار . واضطرت مئات الألوف من الأرواح والقلوب ، حتى أدرك محمد ذات ليلة المعراج . الجديد والقديم هنا لا قيمة لهما ، فلا ترغب في شيء هنا مطلقا ، وإن كنت قد رأيت الدنيا مكتوبة القلب ، فما رأيته ليس إلا حلما ، وإذا سقطت آلاف الأرواح في هذا البحر ، فكأنها قطرة ندى سقطت في هذا البحر اللانهائي ، وإذا استسلم مئات الألوف إلى النوم ، فإنهم يصبحون بفعل الشمس كذرة مع الظل، وإذا تساقطت الأفلاك والأنجم قطعة قطعة ، فكأنما سقطت ورقة شجر واحدة في هذه الدنيا ، وإذا أصبحت الدنيا من البحر إلى القمر عدما في عدم ، فكأنما عرجت نملة في قاع بئر ، وإذا خرب العالمان دفعة واحدة ، فهب أن حبة رمل قد انعدمت من الأرض . وإذا لم يبق أدنى أثر للناس والشيطان ، فكأنما سقطت قطرة مطر واحدة ، وإذا سار الكل إلى التراب ، فأي بأس إن اختفت شعرة كائن حي واحدة ، وإذا ضاع الجزء والكل هنا ، فقد نقصت ورقة تبن واحدة من على وجه الأرض ، وإذا نقصت هذه الأفلاك التسعة مرة واحدة ، فما نقصت غير قطرة ماء من البحار السبعة . المقالة الحادية والأربعون حكاية 1 الأبيات من 3581 - 3594 كان في قريتنا شاب في جمال البدر ، فسقط هذا البدر الشبيه بيوسف في البئر ، وانهال عليه الكثير من التراب ، وأخرجه في النهاية أحد الأشخاص ، فاضطرب حاله ، كما أصابه الزمان بالعديد من المصائب . كان اسم هذا الشاب الطيب المحتد « محمدا » وهكذا تسمى بعد قدومه إلى الحياة مباشرة . وقد قال له الوالد حين رآه مضطربا : يا ولدي ، ويا نور العين ويا روح الوالد ، ويا محمد ، تلطف مع أبيك ، وانطق بكلمة واحدة ! فقال في النهاية : ما الكلمة ؟ ومن محمد ؟ ومن الغلام ؟ ومن الإنسان ؟ قال هذا وأسلم الروح . وهذا ما حدث .وكفى . انظر أيها السالك ، يا من يتصف ببعد النظر ، أين محمد ؟ وأين آدم ، وتنبه ! ثم أين آدم ، وأين ماله من ذريات ؟ وأين أسماء الجزئيات والكليات ؟ وأين الأرض ؟ وأين الجبال والبحار ؟ وأين الفلك ؟ وأين الملائكة والشياطين ؟ وأين الخلق والملك ؟ وأين الآن الألوف المؤلفة التي واراها التراب ؟ وأين الآن الملائكة الأطهار ؟ وأين من أسلموا الروح في اضطراب ؟ وأين الإنسان ؟ وأين الروح والجسد ؟ وأين العدم ؟ فإن تنخل كلا العالمين ومائة مثليهما ، وتغربلهما ، فلن تجد أي شيء في الغربال ، ما دامت الحياة قد أقبلت عليك مضطربة مختلة . المقالة الحادية والأربعون حكاية 2 الأبيات من 3595 - 3615 كان يوسف الهمداني يأمل في المسير ، وكان له صدر طاهر وقلب كبير ، وقد قال : لتسم دائما فوق العرش ، ثم اهبط بعد ذلك تحت الفرش . فكل ما كان وما يكون وما سيكون سواء أكان حسنا أو سيئا ، فليس إلا ذرة تافهة ، وهذا كله مجرد قطرة من بحر الوجود ، فلا جدوى من وجوده أو عدمه ، وليس هذا الوادي هكذا بسيطا سهلا ؛ يا سليم العقل ، بل أنت الذي تعتبره سهلا بجهلك ، يا سليم العقل ، حتى ولو أصبح البحر غاصا بدماء قلبك ، فلن تستطيع قطع سوى منزلة واحدة منه فقط ، وإن تتخل عن الدنيا في كل لحظة ، فستكون لك الخطوة الأولى إن تمعن النظر ، وما رأى شخص قط نهاية لهذه الطريق ، وما رأى شخص قط دواء لهذا الداء . فإن تتجمد كالحجر في الحياة . فأنت جيفة أو ميت ، وإن تسرع وتظل في عدو دائم ، فلن تسمع صوتا يدعوك للدخول مطلقا ، وليس الإسراع مقبولا منك ، ولا التوقف كذلك ، وليس الموت أفضل لك ، ولا الولادة كذلك . صعب ذلك الأمر الذي حل بك ، فما الفائدة ؟ إن أمرك صعب مشكل ، فما جدوى توقفك ؟ وسواء أكنت جامحا أو مطيعا ، أيها الخامل ؛ وسواء تخليت عن العمل أو اجتهدت فيه ، وسواء قلت بترك العمل أو بالسعي فيه ، وسواء أكان عملك قليلا أو كثيرا ؛ فلعلك تزاول العمل طالما العمل موجود ، حيث يلازمك العمل على الدوام ، وإن لا يتقدم أي شخص لمعالجة الأمر ، فما أطول ما أنت فيه من بطالة . واترك الأعمال التي كنت تعملها سلفا ، فسواء فعلتها أو امتنعت عنها . وكيف تدرك العمل ، وهو أمر لا يمكن إدراكه ، حتى ولو أدركته فمتى تستطيع مزاولة العمل ؟ تبين حقيقة عدم الاحتياج ، وأمعن النظر إلى الاستغناء ، سواء كنت فرحا أو نائحا . وما أن أضاء برق الاستغناء هكذا ، حتى أحرق لهيبه مائة دنيا في لحظة واحدة ، وستنهار المائة دنيا ، وتخلد إلى التراب ، وأي خوف لو تلاشت الدنيا في هذا الوادي ؟ المقالة الحادية والأربعون حكاية 3 الأبيات من 3616 - 3626 لعلك رأيت ذلك الحكيم ذا العقل الكبير ، وقد أحضر أمامه لوحة ترابية ، وقد أخذ يزين اللوحة بالكثير من النقوش والرسوم ، حتى بدت عليها الثوابت والسيارة ، وبين عليها كذلك الأفلاك والأرض ، فكان يوجه أوامره لهذه تارة ولتلك تارة أخرى ، وأظهر عليها النجوم والبروج كذلك ، كما وضح عليها الأفول والعروج ، ورسم عليها علامات النحس والسعادة ، وصور فيها مرتبة الموت والولادة ، وعندما يحسب النحس يتولد السعد منه ، لذا لزم جوار هذه اللوحة . إنك تقول : دع هذا الهراء الذي لا يحدث مطلقا ، فهذه النقوش والرسوم لا توجد مطلقا . إن صورة هذا العالم المضطرب شبيهة بصورة تلك اللوحة ، ولن تستطيع تحمل كل هذا فتخير الكنز ، وقلل الطواف حول العالم ، والزم ركنك . فقد أصبح جميع الرجال نساء هنا ، بعد أن عجزوا عن معرفة أي شيء عن هذين العالمين ، وإن تعجز عن سلوك هذا الطريق فلن تساوي قشة تبن حتى ولو تزن جبلا . ! المقالة الحادية والأربعون حكاية 4 الأبيات من 3627 - 3638 قال ذلك الرجل الذي يعد من أهل السر ؛ لقد أنكشف النقاب عن عالم الأسرار ، وجاء الهاتف قائلا : أسرع أيها الشيخ ، واطلب كل ما تبغي ، وانطلق بسرعة ، فقال الشيخ : إنني أرى الأنبياء مبتلين دائما ويحيط بهم البلاء ، وأينما تكثر الهموم والبلايا تجد الأنبياء سباقين إليها ، فإذا كان البلاء من نصيب الأنبياء ، فكيف تدرك الراحة هذا الشيخ الغريب ؟ فلست بطامع في عزة أو ذلة ، وليتك تتركني أسير عجزي ! إذا كان نصيب العظماء المصائب والنوائب ، فكيف يستطيع الصغار إدراك الكنز؟ الأنبياء دائما في اضطراب ، أما أنا فلا أستطيع تحمل كل هذا ؛ فارفع يدك عني . إذا كان كل ما أقوله نابعا من روحي ، فأي جدوى منه ؟ وإن لم يرق لك الأمر ، فأي جدوى مما يصدر عني ؟ لو كنت قد سقطت في بحر الخطر ، فأنت تشبه بطة ضعيفة الجناح ، وإن يتملكك الخوف من تمساح القهر ، فكيف يروق لك سلوك هذا الطريق ؟ وستظل في البداية لا يقر لك قرار مما بك من تفكير وخوف ، فإن تسقط ، فكيف تستطيع روحك الوصول إلى الشاطئ ؟ المقالة الحادية والأربعون حكاية 5 الأبيات من 3639 - 3652 كانت ذبابة تطير باحثة عن طعام ، فرأت خلية عسل في زاوية ، فاضطرب قلبها شوقا إلى العسل ، وصاحت قائلة : أين ذلك الرجل الحر ؟ لعله يأخذ دانقا مني أنا المسكينة ، ويجلسني داخل الخلية ، وإن يثمر فرع وصلي هذا ، فما أجمل أن تكون جذوره في العسل . أخيرا يسر شخص لها ما أرادت ، وأدخلها الخلية بعد أن أخذ منها دانقا ، وما أن دخلت الذبابة إلى العسل ، حتى كبل العسل يديها ورجليها ووهنت مفاصلها من الاختلاج ، واشتد قيدها كلما زادت حركتها ، فصاحت قائلة : يا سوء ما وقع لي ، لقد أصبح العسل أثقل على نفسي من السم ، إن كنت قد أعطيت دانقا ، فالآن أعطي دانقين ، لعلي أخرج من هذا المأزق ، وأتخلص من هذه الذلة . إلهي ، لا تجعل إنسانا في فراغ لحظة في هذا الوادي ، ولا تحرم إنسانا من بلوغ المراد ، لقد اضطربت زمنا أيها القلب ، فإلام تقضي العمر غافلا ؟ فانهض واقطع هذا الوادي الصعب ، وتخلص من الروح ، واقطع صلتك بالقلب ، وذلك لأنك إن تظل رفيقا للقلب والروح ، فإنك مشرك ، بل أكثر غفلة من المشركين . فابذل الروح في الطريق ، وقدم قلبك نثارا ، وإلا فابعد عن طريق الاستغناء . المقالة الحادية والأربعون حكاية 6 الأبيات من 3653 - 3669 كان هناك شيخ صوفي مشهور ، قد شغفته بنت الكلّاب حبا ، وأصبح واهنا في عشق تلك المعشوقة ، كما تلاطمت الدماء في قلبه كأمواج البحر ، وأملا في رؤية وجهها ، كان ينام ليله مع كلاب محلتها ، ففطنت والدة الفتاة لتلك الحيلة ، وقالت للشيخ أي ضلال هذا ؟ إن كنت صادقا في هذا الحب ، فعملنا هو تربية الكلاب ، وحسب . فإن تكن على شاكلتنا ، وتقم بتربية الكلاب ، نعقد قرانك بعد عام ونقم حفل العرس . ولما كان العشق متمكنا من قلب الشيخ ، فقد ألقى الخرقة ، وبادر إلى مزاولة العمل ، وذهب إلى السوق بمصاحبة كلب ، وقضى قرابة عام على هذا العمل . وكان يصادقه صوفي آخر ، فعندما رآه هكذا ، قال له : يا عديم المروءة ، لقد قضيت ثلاثين عاما رجلا ، ونعم الرجل ، فلم فعلت هذا ؟ ومن فعل هذا ؟ قال : أيها الغافل ، لا تطل الحديث ، حتى لا يرتفع الستر عن هذه القصة . إن الحق تعالى يعلم بهذه الأسرار ، وبإمكانه إصابتك بمثل ما أصابني ، فإن يستمر لومك لي ، فقد ينقل الكلب من يدي إلى يدك . ما أكثر ترديدي الأقوال حتى دمى قلبي من آلام الطريق ، وما تقدم أحد للسلوك ، وما أكثر ما تكلمت دون جدوى ، حيث لم يتقدم واحد منكم باحثا عن الأسرار ، فإن تصبحوا عالمين بأسرار الطريق ، تدركوا في هذا الوقت مقدار آلامي . حتى ولو تكلمت أكثر من هذا في وصف الطريق ، فالجميع في سبات عميق ، وأين السالك الحق ؟ . المقالة الحادية والأربعون حكاية 7 3670 - 3672 قال مريد لشيخه : لتقل لنا نكتة عن الحضور ، فقال الشيخ ابتعد ، فإن تغسلوا وجوهكم في هذا الزمان ، أقدم النكتة أثناء ذلك . ولكن أي جدوى من العطر في النجاسة ؟ وأي جدوى من أن تقول نكتة أمام السكارى ؟ المقالة الثانية والأربعون في وصف وادي التوحيد الأبيات من 3673 - 3680 بعد ذلك يأتيك وادي التوحيد ، فيقبل عليك منزل التجريد والتفريد ، وعندما تسحب الوجوه من هذه الدنيا إلى صحراء التيه ، فسيرفع الجميع رؤوسهم من فتحة واحدة ، وسواء رأيت كثرة أم قلة ، فسيكون الكل واحدا بلا شك ، فإن يكثر تداخل الواحد في الواحد دواما ، فسيتوحد الواحد في الواحد تماما ، ولن يتم لك هذا الفرد الأحد لأن ما يتم لك هو الفرد المتعدد ، وإذا خرج ذلك عن الحد والعد ، فاقطع النظر عن الأزل والأبد ، وإذا تلاشى الأزل ، فالأبد خالد ، ولا أهمية لهما معا في حد ذاتهما ، فإذا كان الكل عدما ، فهذا كله عدم أيضا ، وما هذه كلها إلا عدم في الأصل . المقالة الثانية والأربعون حكاية 1 الأبيات من 3681 - 3685 قال رجل عظيم لذلك الواله : ما هذا العالم ؟ وما تلك الدار كذلك ؟ قال : إن هذا العالم غاص بالشهرة والسمعة ، وهو كنخلة من شمع مزدانة بألوان عدة ، فإن يحك أحد هذه النخلة بيده ، فإنها تتحول إلى قطعة شمع بلا شك . وإذا كان الجميع شمعا ، ولا شيء غير ذلك ، فامض لأن هذه الألوان لا تساوي درهما ، فإذا كان أحديا ، فلا يمكن أن يكون ثنائيا ، كما لا يخرج من هذا الأنية ولا الأنتية . . المقالة الثانية والأربعون حكاية 2 الأبيات من 3686 - 3718 مضت تلك العجوز إلى أبي علي ، وكانت تحمل صحيفة من ذهب ، فقالت : خذ هذه مني ، فقال الشيخ : إنني على عهد ، وهو ألا أخذ شيئا قط إلا من اللّه لا من أحد ، فقالت العجوز في الحال : يا أبا علي ، من أين لك في النهاية هذا الحول ؟ إنك لست رجل حل وعقد في هذا الطريق ، فكيف ترى الغير إن لم تكن أحول ؟ ليس في عين الإنسان هنا إلا شيء واحد ، حيث لا وجود هنا للكعبة أو الدير . إذا وصل السالك إلى حد القلب ، ووصل في الطريق إلى تلك المرتبة ، فإنه يسمع منه كلاما بينا ، ويبقى وجوده به دواما ، ولن يرى أحدا قط غيره لحظة ، ولن يعرف أحدا خالدا سواه ، ويكون دائما فيه ومنه ومعه ، ولكنه خارج عن نطاق الثلاثة كلها . كل من لا يفنى في بحر الوحدة ، غير خليق بالآدمية ، حتى ولو كان آدم نفسه ، وكل من كان من أهل الفضل ، أو من أهل العيب ، له شمس في جيب الغيب ، وسيأتي يوم في النهاية ، وتضمه الشمس إلى حوزتها وترفع النقاب ، وكل من وصل إلى شمسه ، اعلم يقينا أنه تخلص من كل حسن وقبيح . إن فنيت أدركت العشق والمحبة ، كما تدرك الحسن هناك ، وتتخلى عن السوء هنا ، لكن إن تظل في وجودك ، فسترى الحسن والسيء في هذا الطريق الطويل ، فما أن جئت من العدم إلى الوجود ، حتى جئت أسير وجودك ، فيا ليتك تكون الآن كما كنت أولا ، حيث كنت عن الوجود معطلا ، فطهر نفسك كلية من الدنية ، ثم أسلم هذه النفس إلى. الريح بعد ذلك وارها التراب ، وما بداخلك من حسد وضجر تراه أعين الرجال ، لا عينك أنت ، ومن أين لك أن تعلم ما بداخلك ، سواء أكان مبردا أو موقدا ؟ ففي داخلك موقد مليء بالتناين ، وقد حررتها وأنت في غفلة ، ثم اختفى التنين والعقرب تحت حجبك ، حيث ناما وأخفيا نفسيهما ، فإن تفسح لهما المجال قيد شعرة ، فإنك تجعل كل واحد منهما بمثابة مائة تنين . لكل فرد نار مليئة بالتنانين ، فطالما تتوقف عن العمل ، فالنار تواصل العمل . وإن تتخلص منها وتتطهر ، تصبح سعيدا في رقدتك بين الثرى ، وإلا فستظل العقارب والتنانين تلدغك تحت التراب لدغا شديدا حتى يوم الحساب . وأنت يا عطار ، متى تتخلص من هذا الكلام المجازي ، وتعود إلى سر أسرار التوحيد ؟ فعندما يصل السالك إلى ذلك المكان ، يتلاشى الرجل والمكان من الطريق ، يتلاشى لأنه هو وحده الظاهر والبادي ، ويلزم الصمت ، لأنه وحده المتكلم والناطق ، ويفني الجزء ، ويبقى الكل ، ثم يفنى الكل والجزء معا ، وتبدو الصورة مثيرة للعجب ، وقد فنى العضو ، كما فنت الروح ، وتتولد كل أربعة ، من كل أربعة وتخرج مائة ألف من مائة ألف ، وترى في مدرسة هذا السر العجيب أنه قد صديت شفاه مائة ألف نجيب . ما قيمة العقل هنا وقد وقف بالباب عاجزا ؟ كما ظل كطفل ضرير أصم ، وقد ضاع منه كل سر حصله عن هذين العالمين ، ولست إلا شعرة من هذا الشخص ، فكيف يتأتى سر من شعرة في الدنيا ، فإن انعدم هذا الشخص بالكل ، فالكل هم هذا الشخص ، وسواء كان العدم أو الوجود ، فهذا الشخص موجود . المقالة الثانية والأربعون حكاية 3 الأبيات من 3719 - 3730 قال لقمان السرخي : إلهي ، إنني شيخ هرم ولهان ضللت الطريق ، وإن العبد الطاعن في السن يكافأ بوثيقة عتقه وإطلاق سراحه ، أما أنا فما زلت عبدا لك يا إلهي ، وقد ابيض شعري الأسود . إنني عبد تحمل الكثير من الغم ، فامنحني السعادة ، لقد أصبحت شيخا ، فانعم علي بوثيقة العتق والحرية . قال له هاتف : يا من يعد من خواص الحرم ، إن كل من يطلب الخلاص من العبودية ، عليه أن يفني عقله وتكليفه معا ، فتخل عن كلا الاثنين ، وسر في الطريق . فقال : إلهي ، إنني أطلبك أنت على الدوام ، وليس لي بالعقل والتكليف أي اهتمام . وأخيرا خرج عن حدود العقل والتكليف ، وظل يرقص مما تملكه من جنون ، ويقول : إنني لا أعرف الآن ، من أنا ، فإن لم أكن عبدا ، فمن أنا ؟ لقد انمحت العبودية ، وانعدمت الحرية ، وما تبقت ذرة هم أو بارقة سعادة في القلب ، وهل عدمت الصفة ؟ أم أنني أتسم بأي صفة ؟ وهل أنا عارف ؟ أم أنني عدمت المعرفة ؟ ولا أعلم أأنا أنت ، أم أنت أنا ؟ فقد فنيت فيك وتلاشت الأنية . "" لقمان السرخسي : جاهد كثيرا في بداية سلوكه الطريق ، وفجأة أنعم عليه بالكشف وولى منه العقل ، وقد وردت هذه الحكاية في ( أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد ) وذكرت : أن لقمان سمع بعد تضرعه من يقول له : " يا لقمان قد اعتقناك " . ويقول مؤلف أسرار التوحيد ، إن الدليل على عتقه أن أخذ منه العقل والتكليف . انظر : أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد لمحمد بن المنور بن أبي سعيد ترجمه : إسعاد عبد الهادي قنديل ؛ القاهرة : ص 40 – 41. "" المقالة الثانية والأربعون حكاية 4 الأبيات من 3731 - 3739 ما أن وقع أحد المعشوقين قضاء وقدرا في الماء ، حتى أسرع عاشقه وألقى بنفسه في الماء ، وعندما اقترب كل منهما من الآخر ، سأل المعشوق العاشق قائلا : أيها الجاهل إذا كنت قد سقطت أنا في هذا الماء الجاري ، فلم ألقيت بنفسك في لجته ؟ فقال : لقد ألقيت بنفسي في الماء ، لأنني لم أعرف نفسي من نفسك ، فقد مضى وقت بلا ريب حتى أصبحت أنا أنت ، وأنت أنا ، وأصبحنا واحدا ، فهل أنت أنا ، أم أنا أنت ؟ وإلام كانت الثنائية ؟ فإما أنني أنت ، أو أنك أنا ، أو أنك أنت أنت ، وعندما تكون أنت أنا ، وأنا أنت على الدوام ، يكون جسدانا واحدا والسلام . وإذا كانت الثنائية بيننا ، فالشرك قد أصابك ، وإذا انمحت عنا الثنائية ، فالتوحيد قد أدركك . أفن نفسك في اللّه ، فهذا هو التوحيد ، وافن الفناء نفسه ، فهذا هو التفريد . المقالة الثانية والأربعون حكاية 5 الأبيات من 3740 - 3778 كان يوما كله يمن وسعادة ، يوم أن قام جيش محمود بالعرض ، فقد سار صوب الصحراء عدد وفير من الفيلة والجنود ، وكانت هناك ربوة اعتلاها السلطان محمود ، ومضى في رفقته إياز وحسن ، واستعرض ثلاثتهم ذلك الحشد ، وأصبح وجه العالم من كثرة الفيلة والجند ، كطريق سدته النمال والجراد ، وما رأت عين العالم مثل ذلك الجيش ، وما رأى شخص قط جيشا كثيف العدد كهذا الجيش ، وبدأ السلطان الحديث قائلا لغلامه إياز : أيها الغلام ، لتكن هذه الفيلة وأولئك الجند تحت إمرتك ، فأنت السلطان بالنسبة لهم ولي . ومع أن السلطان العظيم قال هذا الكلام ، فإن إياز لم يأبه به ، ولم يحرك ساكنا ، ولم يوجه أي شكر للسلطان ، ولم يقل غير : ماذا قال لي السلطان ؟ "" حسن الميمندي : وزير السلطان محمود الغزنوي ."" اضطرب حسن ، وقال : أيها الغلام ، إن كان السلطان يبالغ في احترامك ؛ فلم تجلس هكذا بلا أدب ؟ ولم لم تحن ظهرك وتقدم للسلطان الشكر ؟ ولم لا تحترمه الاحترام اللائق به ؟ فما فعلته لا يليق أمام السلطان . عندما سمع إياز هذا الخطاب كله ، قال : إن القول يرد عليه بجوابين ، أما الجواب الأول : إن هذا الشخص الوقح ، إذا أراد أن يقدم الشكر للسلطان ، فإما أن يركع بخضوع أمامه ، وإما أن يتكلم بذلة أمامه ، وسواء أكثر من هذا أمام السلطان أو قلل ، فإن ذلك سيكون نابعا من جهله أمام السلطان ، فمن أكون أنا حتى أقوم بهذا العمل ؟ ومن أكون حتى أشعر بأنني جدير بتقديم الشكر ؟ فالعبد عبده ، والتشريف تشريفه ، فمن أكون أنا وأمر الجميع أمره ؟ إن ما يظهره السلطان المظفر كل يوم لإياز ، ومنه ذلك الكرم الذي أظهره اليوم لإياز ، لا أعلم كيف يكافأ عليه ، غير أن كلا العالمين يدعوان له ، وأي مكانة لي في هذا العرض حتى أبدو فيه ؟ ومن أكون حتى أظهر فيه ؟ ولا أستطيع تقديم أي خدمة له أو شكر ، كما لا أمثل أمامه ، فمن أكون حتى أكون جديرا به ؟ إنني لا أستطيع تقديم أي خدمة له ، حيث قد قدمت كل ما عندي وهو أني ربيت قلبي وروحي في مضمار عشقه . عندما سمع حسن هذا القول من إياز قال : أحسنت يا إياز يا عالما بالحق ، ومن الإنصاف القول بأن كل لحظة من أيام السلطان ، جديرة بمئات الإنعام لهذا السلطان ، ثم قال له حسن : لتقل الجواب الثاني . فقال : ليس من الصواب قوله أمامك ، حيث لا أقوله إلا إذا انفردت بالسلطان ، إذ لابد لهذا القول من محرم يحافظ عليه ، ولما كنت غير محرم لذلك ، فكيف أقوله لك ، ولست أنت السلطان ؟ ثم أبعد السلطان حسنا عن مجلسه ، فمضى حسن حتى توسط الجند ، ولما خلت الخلوة ، من ( نحن ) ومن ( أنا ) ، ولما كان حسن كشعرة ، فقد ولى ، فقال السلطان : إننا في خلوة فقل السر ، وقل لي ذلك الجواب الخاص . قال ( اياز ) : في كل آونة يشملني السلطان بلطفه وعطفه ، وينعم علي أنا المسكين بنظرة ، ففي ضياء شعاع تلك النظرة يمحى وجودي كلية ، وقد تطهرت في تلك الساعة من الطريق حياء من شمس عظمة السلطان ، وما دمت سأفنى كلية من عالم الوجود ، فكيف أشكرك بالانخراط في السجود ؟ فإن تر أحدا في ذلك الزمان ، فليس هذا الشخص أنا ، إنما هو السلطان ، وإن تتلطف معي مرة أو مائة مرة ، فأنت تفعل هذا مع نفسك ، والظل الذي يختفي في الشمس كيف يقدم أي خدمة من أي صنف ؟ وإياز ظل في محرابك ، وهو يتلاشى أمام شمس طلعتك ، فإذا فنى عبد عن نفسه ، فهو فان ، وافعل ما يعن لك ، فأنت تعلم أنه فان . المقالة الثالثة والأربعون في صفة وادي الحيرة الأبيات من 3779 - 3791 بعد ذلك يأتيك وادي الحيرة ، وفيه تصاب بالعمل المتواصل والألم والحسرة . وهنا يكون كل نفس سيفا مصوبا إليك ، وهنا تحمل كل لحظة الأسى إليك ، وفيه تكثر الآهات والحركة والآلام ، ويكون النهار والليل لا ليلا ولا نهارا كذلك ، وفيه يتخيل الشخص أنه يقطر دما ، لا من السيف ، ولكن من جذر كل شعرة ، ويا للعجب ! والنار تؤلم رجل هذا الوادي ، فيحترق في الحيرة من آلام هذا الوادي ، وعندما يصل الرجل الحيران إلى هذه الأعتاب ، يظل في حيرة ويضيع منه الطريق ، كما يضيع منه كل ما حصلته روحه من توحيد . وإذا قيل له : أأنت موجود أم لا ؟ ألا يليق بك أن تقول ، أموجود أنت أم لا ؟ أأنت بين الخلق أم خارج عنهم ، أم تتخذ منهم جانبا ؟ أأنت خفي أم ظاهر ؟ أأنت فان أم باق ، أم كلاهما معا ؟ أم أنك لست الاثنين ؟ أأنت أنت ، أم أنك لست أنت ؟ فإنه يقول : إنني - في الحقيقة - لا أعرف كنهي . كما أنني لا أعرف نفسي ، إنني عاشق ، ولكن لا أعرف من أعشق . ولست مسلما ولا كافرا . فماذا أكون ؟ ولكنني لست عالما بعشقي ، ولا أعرف أقلبي مليء بالعشق أم أنه خلو منه . المقالة الثالثة والأربعون حكاية 1 الأبيات من 3792 - 3871 ذلك الملك الذي كانت الآفاق تحت إمرته ، كانت لديه فتاة جميلة كالقمر تعيش في بلاطه ، كانت كملاك رائع الجمال في الحسن ، أو كالربيع والسرو في الملاحة والحسن ، وكم جرحت مئات القلوب بطرتها ، فكل شعرة منها عرق ترتبط به روح ، ووجها يبدو كالفردوس ، كما يبدو حاجبها وكأنه القوس ، ولما كانت السهام تنطلق من هذا القوس ، فقد أقبل قاب قوسين مثنيا عليها ، أما عينها الشبيهة بالنرجسة الثملة المحاطة بأهداب شوكية ، فقد أردت الكثيرين من أهل الحجا والعقل ، ووجه الشبيهة بالعذراء هذه ، في جمال شمس الفلك ، بل إنه يفوق في الحسن بدر الفلك ، ودرها وياقوتها وهما قوت الروح ، قد جعلا روح القدس في دهشة على الدوام ، وإذا تبسمت شفتاها ، مات ماء الحياة صاديا ، وطلب الإحسان والإنعام من شفتيها ، وكل من أدام النظر إلى ذقنها ، سقط منكس الرأس في قعر نونها ، وكل من أصبح أسير وجهها القمري ، سرعان ما تردى في نونها بلا رسن . . أخيرا مثل أمام السلطان غلام في جمال البدر ، ليتولى الخدمة ، وما كان يتمتع به هذا الغلام من الجمال ، قد أصاب الشمس والقمر بالمحاق والزوال ، وفي بسيط عالمه لا قرين له ، وفي الحسن الفتان لا مثيل له ، ومئات الألوف من الخلق في السوق والمحلة ، قد بهرهم ذلك الوجه كالشمس . وقضاء وقدرا رأت تلك الفتاة ذات يوم وجه غلام السلطان ، ففقدت السيطرة على قلبها وغاصت في الأحزان ، وتوارى عقلها وراء الحجب ، لقد ذهب العقل واشتد بها العشق ، وأصيبت روحها بالمرارة والألم ، وتملكها التفكر والتدبر وقتا من الزمن ، وفقدت في النهاية الراحة والاستقرار . وذابت شوقا ، كما احترقت بألم الفراق ، وغص قلبها بالألم بسبب الذوبان والحرقة والاشتياق ، وكان لها عشر مطربات من الجواري الحسان ، وكن على مرتبة عالية في ترديد الأغاني ، فكن في العزف كالبلبل الصداح ، ولحنهن الداودي كان يسعد الأرواح ، فشرحت لهن حالها في التو والحال ، وأقرت بفناء الاسم والشهرة والروح ، فكل من يتضح له عشق الأحبة ، كيف تستطيع روحه الاستقرار في موضعها ، وقالت : إن أفصح للغلام عن عشقي ، يكن خطأ كبيرا ، لأن هذا بعيد عن الصواب . كما أن الحشمة تصيبني بالكثير من المضار ، وأنى لهذا الغلام أن يصل من مثلي ؟ وإن لم أفصح عن قصتي ، أمت خلف الحجب متألمة متأوهة ، لقد قرأت زهاء مائة كتاب أملا في الصبر ! فماذا أفعل ؟ لقد نفذ صبري كما أصبحت عاجزة . وما أبغيه من سروي القد ، أدرك أنه لا علم له به ، فإن يتم تحقيق مقصودي هذا ، فإن أمر روحي يكون وفق مرادي . عندما سمعت المطربات هذا القول ، قلن لها : لا تحزني ! بالليل نحضره خفية أمامك ، ولن يكون لديه أي خبر عن ذلك . وأخيرا ذهبت إحداهن متخفية أمام الغلام ، وقالت : الآن أقدم له الخمر والكأس وأضع في الخمر دواء مذهبا للعقل ، فلا جرم أن يسري في أوصاله فقدان الشعور . ما أن احتسى الغلام ذلك الخمر ، حتى فقد صوابه ، وهكذا كلل سعي تلك الجارية الفاتنة بالنجاح ، وظل الغلام الفضي الصدر ثملا لا يعرف شيئا عن كلا العالمين ، وذلك طوال اليوم حتى المساء . ما أن أقبل الليل حتى جاءت الجواري صوبه في حذر واضطراب ، ثم وضعنه في فراشه ، وحملنه خفية إلى تلك الفتاة ، وبسرعة أجلسنه على عرش ونثرن عليه ماء الورد والمسك . وفي منتصف الليل عندما بات الغلام نصف مفيق ، فتح عينيه الشبيهتين بالنرجسة عن آخرهما ، فرأى قصرا يشبه الفردوس في روائه ، ورأى عرشا ذهبيا يحيط به ، وقد اشتعلت عشر شموع عنبرية أكثر مما تشتعل أعواد الحطب ، وشغلت الفتيات بالطرب والإنشاد ، حتى ودع العقل الروح ، وودعت الروح الجسد . وكانت الفتاة تجلس وسط الجمع كأنها الشمس بفعل نور الشمع ، فجلس الغلام يتملكه السرور والفرح ، وفقد نفسه أمام طلعة الفتاة ، وظل حائرا فاقدا العقل والروح ، بعيدا عن إدراك هذا العالم أو ذاك ، وامتلأ قلبه عشقا ، وعجز لسانه عن النطق ، وأدركت روحه الحال من الذوق ، وتعلقت عيناه بوجه الفتاة وأنصتت أذناه إلى صوت الألحان ، وتنسمت مشامه رائحة العنبر . وأخيرا خرجت أنفاسه أكثر لهيبا من النار ، فأسرعت الفتاة وأعطته كأس خمر في الحال ، كما جعلت القبلة نقل الشراب "" كما يقول الشاعر العربي : وشربنا من المدام كئوسا * وجعلنا التقبيل نقل الشراب "" ، فظلت عينه معلقة بطلعتها ، ودهمته الحيرة من التطلع إلى وجهها ، ولما لم ينطق لسانه بكلمة ، ذرفت الفتاة الدمع ، وحكت رأسها جزعا ، وهكذا ظلت الفتاة الفاتنة تذرف الدمع غزيرا منسابا على وجنتيها ، كما كانت تقبله قبلة كالسكر أحيانا أو تضع الملح في القبلة بلا شفقة أحيانا ، وأحيانا تداعبه بطرتيها المضطربتين ، وأحيانا تفقد نفسها في عينيه الساحرتين . ظل الغلام الثمل أمام الفتاة الجذابة محدقا عينيه ، لكنه ليس في صحو ولا غيبة ، وظل الغلام على هذه النظرة ، حتى أقبل الصبح بإشراقة تامة . وما أن أقبل الصبح وهبت نسائم الصباح ، حتى فقد الغلام كل وعيه مما به من سكر ، وما أن نام الغلام العالي المنزلة ، حتى أسرعن بحمله إلى مكانه مرة أخرى . ما أن ثاب الغلام الفضي الصدر إلى رشده آخر الأمر ، حتى تملكه الاضطراب ولم يعلم حقيقة ما حدث له ، وكيف حدث ما حدث ، ولكن أي جدوى له من الاضطراب ؟ وعلى الرغم من أنه لم يصب بأي آلام أو مضرة ، فقد تصبب عرقا من الرأس إلى القدم ، فضرب بيده ثوبه ومزقه ، واقتلع شعره ، ونثر التراب على رأسه ، فسألوه عن القصة فقال : إنني لا أستطيع ترديد ما حدث ، لأن ما رأيته وأنا ثمل نشوان ، لا يمكن أن يراه في منامه أي انسان . وتلك الأمور التي تركتني في وحدتي حيران ، لا أعلم أنها حدثت لإنسان ، وما رأيته لا أستطيع التعبير عنه ، ولا يوجد سر أعجب مما حدث . فقال الجميع : ثب إلى رشدك في النهاية . واذكر ولو قليلا من الكثير الذي رأيته . فقال : لقد ألم بي العجز كأي مضطرب ، ولا أعلم هل رأيت كل ذلك ، أم رأيت شيئا آخر ؟ كما أنني لا أعلم هل رأيته مما بي سكر ، أم سمعته وأنا في صحو ورشد ؟ وهل سمعت كل شي أم لم أسمع شيئا ؟ وهل رأيت كل شي ، أم لم أر شيئا ؟ فقال له أحد العقلاء : لقد رأيت حلما ، فلم يتملكك الاضطراب والجنون ؟ قال : لا أعلم إذا كان ما رأيته في عالم الوهم أو في عالم اليقظة ، ولا حال أعجب من هذا في الدنيا ، فهذه حالة لا واضحة ولا خفية ، ولا أستطيع القول ، كما لا أستطيع الصمت ، وأنا في دهشة بين هذا وذاك . ولن يمحى ذلك الزمان من روحي ، كما أنني لا أجد ذرة تدلني عليه ، لقد رأيت صاحبة جمال ، لا يضاهيها أحد في كمالها بأي حال ، وليست الشمس أمام طلعتها إلا ذرة ، واللّه أعلم بالصواب ، وكيف أتكلم أكثر من هذا وأنا لا أعرف حقيقة ما حدث ، وعلى الرغم من أنني قد وأيتها من قبل ، ولكن لا أعلم هل رأيتها أو لم أرها ؟ وها أنذا مضطرب بين هذا وذاك ! المقالة الثالثة والأربعون حكاية 2 الأبيات من 3872 - 3884 كانت إحدى الأمهات تقف على قبر ابنتها تبكيها ، فنظر إليها أحد السالكين ، وقال : لقد أحرزت هذه المرأة السبق على الرجال ، إنها ليست مثلنا ، بل إنها تعرف تمام المعرفة من الذي افتقدته وأصبح بعيدا عنها ، ومن الذي سبب لها هذا الجزع الشديد . إنها موفقة لأنها تدرك حالها ، وتدرك من أجل أي شي يجب البكاء . أما أنا فقد اعتراني الهم ، وقد جلست أكابد الأحزان طول الليل والنهار ، ولا أعلم لماذا يتملكني الغم ، وعلى من أبكي وأذرف الدمع . ولست أعلم شيئا ، لذا وقعت في الحيرة ، ولا أعلم عن من ابتعدت ، وأصبحت روحي واهنة . إن هذه المرأة لها السبق على ألف من أمثالي ، لأنها تعرف جيدا من افتقدته ، أما أنا فلا أعلم شيئا ، وهذا يسبب لي الحسرة ، بل يكاد يقضي علي ويقتلني بالحيرة. في مثل هذا المنزل لا يظهر أثر للقلب ، بل إن المنزل لا يظهر هو الآخر كذلك ، وقد أصيب العقل بالزوال ، ومنى التفكير بالاضمحلال ، ومن يصل إلى هنا يدركه الفناء ، ويفقد أطرافه الأربعة ، وإذا أدرك أحد طريقا هنا ، فقد أدرك سر الكل في لحظة واحدة . المقالة الثالثة والأربعون حكاية 3 الأبيات من 3885 - 3898 كان أحد الصوفية يمضي في طريق ، فسمع صوت شخص يقول : لقد فقدت مفتاحا ، فمن ذا وجد مفتاحا في هذا المكان ؟ إن الباب مغلق ، وقد جلست على تراب الطريق . ماذا أفعل ، لو ظل الباب موصدا أمامي ؟ وكيف أتصرف ، لو استمرت هذه الآلام ؟ فقال له الصوفي : من قال لك ابتئس ؟ فما دمت تعرف الباب ، فامض إليه ، وقل : لتظل مغلقا . فإن تكثر الجلوس أمام الباب المغلق ، فسيفتحه شخص ما بدون أدنى شك ، أن أمرك يسير ، أما أمري فعسير ، لأن روحي تشتعل من التحير ، وليس لأمري بداية ولا نهاية ، ولا باب له ولا مفتاح على الإطلاق . ليت هذا الصوفي قد أسرع ، ووجد بابا مغلقا أو مفتوحا ، فليس للآدميين سوى الخيال ، وليس لأي انسان أن يعلم حقيقة هذا الحال . كل من تردى في وادي الحيرة ، تردى كل آونة في مائة عالم من الحسرة ، فإلام أتحمل الحسرة والاضطراب ؟ وإذا كان هؤلاء قد ضلوا الطريق ، فكيف أدركه أنا ؟ ولا أعلم وليتني أعلم ! فإن أعلم أسقط في الحيرة ، وهنا يحق للرجل أن يستعذب الشكاية ، فقد صار الكفر إيمانا ، وصار الإيمان كفرا . المقالة الثالثة والأربعون حكاية 4 الأبيات من 3899 - 3912 أصابت الآلام الشيخ نصر آباد ، وقد حج أربعين حجة متوكلا على اللّه ، فما أعظمه من رجل ! وبعد ذلك ابيض شعره ونحل جسده ، ثم رآه أحد الأشخاص عاري الجسد إلا من إزار ، حيث كان قلبه مفعما بالحرقة ، وروحه غاصة باللهيب ، فعقد الزنار ، وبسط كفه ، وأقبل متخليا عن كل كذب ورياء ، وانهمك في الطواف حول معبد النار . فقال ذلك الشخص : يا عظيم العصر ، أي فعلة هذه تبدر منك ؟ ألا يتملكك الخجل في آخر الأمر ؟ لقد أديت فريضة الحج كثيرا ، وحزت أسباب السعادة ، فهل يكون الكفر هو النهاية ؟ إن هذا العمل لا يتم إلا عن جهالة ، وبسببك أصيب أهل القلوب بسوء السمعة ، وأي شيخ طاف بهذا الطريق ؟ ألا تعلم أن هذا هو معبد النار ؟ فقال الشيخ : لقد اشتد بي الحال ، وأصابت النار جسدي وكل ما أملك ، وأسلمت النار كل حصادي للريح ، كما أسلمت إليها كل شهرتي وسيرتي ، وتملكتني الحيرة والوله من أمري ، ولا أعلم حيلة لما اعتراني . وإذا كانت تلك النار قد سيطرت على روحي ، فكيف يبقى لي اسمي وشهرتي لحظة واحدة ؟ وعندما أصبحت أسير هذا العمل ، مللت كل من الكعبة والكنيسة ، وإن تصبك ذرة من الحيرة هكذا ، فستصاب بمئات الحسرات مثلي ! "" الشيخ نصر آباد : اسمه إبراهيم بن محمد بن محمويه ، ولد في نيسابوري وأقام بها ، وكان شيخ زمانه في الحقائق وعلوم التصوف . تتلمذ على إبراهيم الشيباني ، ورأى الشبلي والواسطي ، وصادق كلا من أبي علي الرودباري والمرتعش وأبي بكر طاهر الأبهري ، وفي نهاية عمره رحل إلى مكة واستقر بها حتى فاضت روحه هناك عام 371 هـ. (انظر نفحات الأنس طبعة طهران ص 230 ) ."" المقالة الثالثة والأربعون حكاية 5 الأبيات من 3913 - 3919 كان لمريد حدث قلب وضاء كالشمس ، فرأى شيخه ذات ليلة في منامه ، فقال له : لقد سيطر الحزن على قلبي من الحيرة ، فخبرني كيف مضى أمرك هناك ؟ لقد احترق قلبي لفراقك ، واحترقت من الحسرة لبعادك ، وأصبحت من حسرتي أبحث عن السر ، فخبرني كيف يكون أمرك هناك ؟ فقال الشيخ : لقد بقيت حائرا ثملا ، وأعض أناملي غيظا ، وما أكثر ما وقعنا في قعر هذا السجن والبئر ، فنحن في هذا المكان أكثر حيرة منكم وذرة واحدة من الحيرة في العقبى ، تكون عندي أكبر من مائة جبل في الدنيا . المقالة الرابعة والأربعون في صفة وادي الفقراء والفناء الأبيات من 3920- 3936 وبعد ذلك يأتي وادي الفقر والفناء ، ومتى جاز الكلام هنا ؟ فعين هذا الوادي هي النسيان والبكم والصم وذهاب العقل والوجدان ، وسترى مئات الظلال الخالدة تتلاشى أمام شعاع واحد من شمسك الوضاءة ، وإذا هاج وماج البحر الكلي ، فهل تبقى نقوش على صفحة ذلك البحر ؟ وكلا العالمين مجرد نقش على سطح هذا البحر ، فكل من يقول لا ، كلامه هراء ، وكفى . وكل من أصيب بالفناء في بحر الكل ، فقد فني تماما وأصابه البلى ، والقلب في هذا البحر الملئ بالفناء ، لا يجد شيئا سوى الفناء ، فإذا منح الفناء ثانية ، أحاط علما بالخلق ، وتكشفت له أسرار كثيرة . حينما يمضي السالكون المجربون ، وعظام الرجال إلى ميدان الألم ، يفنون في أول خطوة ، وأي تقدم بعد ذلك ؟ لا جرم ألا يكون للإنسان خطوة ثانية بعد ذلك . وإن أصابهم الفناء من أول خطوة ، فاعتبرهم من الجماد ، ولو كانوا من الخلق ! فعندما تلقى الأعواد والحطب إلى النار ، تتحول كلها معا إلى رماد ، ويظهر لك الاثنان صورة الواحد ، مع ما يبدو لك من فروق في صفاتها . وإن يفن نجس في بحر الكل ، يسقط إلى القاع ذليلا بصفاته ، ولكن إن ينزل إلى هذا البحر رجل طاهر ، فسيفنى فناء حقيقيا ، ولن يبقى له أثر ، حيث تصبح حركته هي حركة البحر . وعندما يفنى ، يكون غارقا في مجال الحسن والطهر ، وإن يحدث هذا ، يكن فانيا وهو موجود ، وهذا يخرج عن نطاق الخيال والعقل . المقالة الرابعة والأربعون حكاية 1 الأبيات من 3937 - 3957 ذات ليلة كان الشيخ معشوق الطوسي بحر الأسرار يقول لأحد المريدين : لتذب دائما ، حتى تفني نفسك في العشق تماما ، وتصبح كالشعرة مما بك من ضعف ووهن ، وعندما يصبح شخصك نحيلا كالشعرة ، فالمكان الأليق بك طرة المعشوق ، فكل من يصبح شعرة في محرابه ، يكون بلا ريب شعرة من شعره . . . إن كنت مبصرا نافذ البصيرة ، فلتدرك هذه الشعرة من تلك الشعرة . وكل من مضى من بين الجمع ، فهذا هو الفناء ، وإذا فنى عن الفناء ، فهذا هو البقاء ، وإن كان لك هذا القلب المرتجف ، فامض على الصراط مخلفا تلك النار المتقدة . ولا تغتم فالنار من الزيت ، وسيظهر من القنديل سناج أسود كجناح الغراب . وأنى للنار أن تزداد لهيبا إذا أبعد الزيت عنها ؟ فإن تشتعل فبفعل الزيت . إن تسيطر النار المحرقة على الطريق ، فاصنع مدادا من سناجها تسطر به آيات القرآن ، وإن ترغب في الوصول إلى هناك ، فإنك تصل إلى هذه المرتبة العالية ، فتخلص من نفسك أولا ، ثم امتط براقا من العدم ، وارتد كذلك قباء العدم ، واشرب كأسا مليئة بالفناء ، واطرح عنك ذات مرة خرقة ( ما كان ) ، وتعمم بطيلسان ( لم يكن ) وسر في طريق الفناء متخطيا العدم ، وسق حصان العدم بعيدا عن العدم ، واعقد على وسطك الغمد ، وتمنطق على غير وسط بمنطقة من ( لا شيء ) واطمس عينيك ، ثم افتحهما بسرعة ، وبعد ذلك كحل عينيك بكحل العدم ، وليصبك الاضمحلال تدريجيا ، ولتقلل من كل العلائق ، ثم لتفن كلية بعد هذا الاضمحلال ثم امض هكذا في يسر وسهولة ، حتى تصل إلى عالم القلة والعدم ، وإن يتبق لك قدر شعرة من أثر من هذا العالم ، فليس لك قدر شعرة من علم بذلك العالم ، وإن تبق شعرة من وجودك فستمتلىء البحار السبعة بدنسك . "" معشوق الطوسي : اسمه محمد وكان من عقلاء المجانين ، عاش بمدينة طوس وبها دفن عاصر ، الشيخ أبا سعيد ميهنه وحدثت بينهما لقاءات وأحاديث ، قال عنه عميد القضاة الهمداني : كان محمد معشوق الطوسي لا يصلي ، ومع هذا فقد سمعت من محمد حموية وأحمد الغزالي رحمهما اللّه : إن الصديقين يوم القيامة يتمنون أن يكونوا ترابا تطؤه قدما معشوق ذات يوم . (انظر نفحات الأنس . . ص : 309 ) "" المقالة الرابعة والأربعون حكاية 2 الأبيات من 3958 - 3975 اجتمع جمع من الفراشات ذات ليلة ، وكانوا في ضيق يسعون في إثر شمعة ، وقال الجميع يجب على واحدة منا ، أن تأتي بخبر ولو بسيط عن مطلوبنا ، فطارت فراشة حتى وصلت إلى قصر بعيد ، فرأت في ردهات القصر نورا من شمع ، فرجعت وفتحت دفترها ، وبدأت في وصفه على قدر فهمها ، فقال لها ناقد ذو مكانة بين الجمع : إنك لم تحظي بمعرفة الشمع . وطارت فراشة أخرى إلى حيث النور ، وطافت حول الشمع ، وهكذا حلقت حول أشعة المطلوب ، حتى أصبح الشمع هو الغالب وهي المغلوب . ثم عادت وقصت عليهم بعض الأسرار ، وأعادت عليهم شرح ما تم لها من وصال ، فقال لها الناقد ، إن هذا ليس دليلا مقنعا ، أيتها العزيزة ، فقد قدمت أدلة كالتي قدمتها الفراشة السابقة . نهضت ثالثة وأسرعت ثملة نشوانة ، وعلى وهج النار استقرت ولهانة ، فاحترقت كلها في النار ، وأفنت نفسها كلية ، وهي في غاية السرور ، وما أن احتوتها النار ، حتى احمرت أعضاؤها وتلونت بلون النار ، فما أن رآها ناقدهم من بعيد ، ورأى ما فعلته الشمعة بها ، وما تبدل إليه لونها ، حتى قال : لقد أصابت هذه ، وكفى ، والشخص الذي يعرف ؛ هو من لديه الخبر ، وكفى ! ومن أصبح بلا أثر وبلا خبر ، هو الذي يعرف الخبر من بين الجمع . وطالما كنت جاهلا بالجسم والروح ، فكيف تدرك أي خبر عن الأحبة في أي وقت ؟ وكل من أشار إليك إشارة طفيفة ، قد سبب لروحك مئات الآلام ، وليست هذه المنزلة كمحرم للنفس ، وهذا المكان لا يتسع لأحد من الناس . المقالة الرابعة والأربعون حكاية 3 الأبيات من 3976 - 3991 كان أحد الصوفية يمضي في طريقه ، فإذا بجاهل يصفعه صفعة قاسية على قفاه ، فالتفت خلفه ، وقال وهو محزون القلب ، إن من ضربت على قفاه ، قد مات منذ . قرابة ثلاثين عاما ، ومضى ، فقد سلك عالم الوجود إلى نهايته ، ومضى . فقال له الرجل : يا من ينطق بالدعوى دون فعل ، متى كان الميت يتكلم ؟ فليصبك اللّه بالخجل . ما دمت تنطق ، فلست رفيقا ، وما دام لك وجود ، فلست محرما للأسرار . . . . وإن توجد شعرة واحدة فيما بينكما ، تكن كمائة عالم من المسافات فيما بينكما ، وإن تبغ الوصول إلى هذا المنزل ، فكم تتألم لو بقي من وجودك شعرة. ففي كل ما تملك أشعل النار ، حتى رباط القدم أشعل فيه النار ، وعندما لا يبقى أي شيء ، تفكر في الكفن ، وألق نفسك عاريا وسط النار ، وعندما تصبح رمادا ، وكذا متاعك ، فسيصيب النقصان تفكيرك ، فلو كنت كعيسى ، وبقيت عنك ولو إبرة واحدة ، فاعلم أنه ما زال في طريقك مائة لص . ولكن لو كنت كعيسى وقد تخلى عن متاعه ، لخاطت إبرته عدة غرز على القبة . عندما يبدو الحجاب في هذا المكان ، يصبح حجابك المال والملك والسلطان ، فكل ما تملك تخل عنه واحدا واحدا ، ثم ابدأ بالخلوة مع نفسك ، وإذا ما اجتمع قلبك في الوجد فإنك تخرج عن نطاق الحسن والسوء ، وعندما ينعدم الحسن والسي تصبح عائقا ، ثم تصير بفناء العشق لائقا . المقالة الرابعة والأربعون حكاية 4 الأبيات من 3992 - 4097 كان هناك ملك كالقمر ضياء ، وكالشمس عظمة ، وكان له ابن في جمال يوسف ، ولم يكن لشخص قط ابن في حسنه ، كما لم يحط إنسان قط بمثل عزه ومكانته ، فقد أصبح الجميع عاشقي ترابه ، وأصبح السادة كلهم عبيد طلعته ، وإذا ظهر بالليل من بين الحجب ، فكأن شمسا جديدة قد أرسلت أشعتها في البطاح ، ولا مجال لوصف وجهه ، فالنهار لا يرقى إلى مكانة شعرة واحدة من وجهه ، وإذا فعل من طرتيه السوداوين رسنا ، تساقطت مئات الألوف من القلوب في البئر وهذا الشبيه بالشمعة ، قد شغل العالم طويلا بطرته المحرقة لكل ما في العالم ، إذ أن وصف طرة الشبيه بيوسف في الجمال ، لا يستطيع أحد سرده في خمسين عاما ، وعينه الشبيهة بالنرجسة ، إذا حركها أشعل النار في الدنيا بأسرها . وإذا ما تناثر من بسمته السكر ، فقد تفتحت - دون ربيع - مئات . الألوف من الأزهار ، ولا يعلم أحد قط أي خبر عن فمه ، حيث لا يمكن التحدث عن المعدوم . وإذا بدا من خلال الحجب ، أثارت كل شعرة منه آلاف الغصص والمصائب ، فقد كان ذلك الأمير فتنة للروح والدنيا ، حيث كان يفوق كل ما أقوله عنه . وإذا ساق فرسه صوب الميدان ، نزع سيفه وحركه في كل اتجاه ومكان ، وكل من كان ينظر صوب هذا الأمير ، سرعان ما يبعدونه عن الطريق . . وكان يوجد شيخ مسكين وله ، شغف بالأمير حبا حتى أصابه الوهن ، ولم يحظ منه إلا بالعجز والاضطراب ، حتى فقدت روحه القدرة على الكلام ، ولما لم يجد ملاذا يحميه من تلك الآلام ، زرع في قلبه وروحه بذور الغم ، فكان يجلس طوال الليل والنهار في محلته ، وقد أغلق عينيه عن خلق العالم كله ، وظل يبكي دون أن ينطق بحرف واحد عن هذا الغم ، وكان يذبل من عدم الأكل والسهد ، ولم يكن له أي محرم في هذه الدنيا ، لذا كان يجعل همومه طي الكتمان ، وأصبح وجهه آناء الليل والنهار في صفرة الذهب ، تنساب عليه دموع فضية ، وقد جلس منفطر القلب . وهكذا عاش المسكين القلق ، لعل الأمير يمر من بعيد من وقت إلى آخر . . إذا بدا الأمير من بعيد ، امتلأت جميع الأسواق بالصياح والهياج ، وثارت في الدنيا مئات الاضطرابات ، حيث تدافع الخلق وتدفقوا من كل صوب ، فأحاط به الجنود من كل حدب ، وسفكوا دماء مائة شخص كل لحظة ، وعلت الأصوات من الأرض إلى السماء ، واصطف الجنود زهاء فرسخ . . ما أن سمع ذلك المسكين صوت القائد ، حتى تملكه الاضطراب وتعثرت قدماه ، ووقع مغشيا عليه ، وثارت أشجانه ، وخرج عن وجوده وفقد شعوره ، وكم يلزم العين في تلك الآونة مئات الألوف من الدموع ، حتى تبكيه بحرقة وتأوه ، وكان يذرف الدمع غزيرا كالنيل أحيانا ، وتنساب الدموع من عينيه دما أحيانا ، وأحيانا تجمد آهته الدموع في ماقيها ، وأحيانا تحرقه دموعه مما به من حسد ، لقد أصبح نصف مقتول ، نصف ميت ، كما فقد نصف روحه ، ولم يعد يملك نصف رغيف لما حل به من فقر مدقع . وهذا الشخص قد أصابه ما أصابه بسبب هذا الأمير ، ومع أن هذا الجاهل قد أصبح كنصف ذرة من ظل ، إلا أنه أراد أن يضم الشمس إلى صدره ! وذات يوم كان الأمير يسير وسط الجند ، فصاح المسكين بأعلى صوته ، وانطلقت منه الصيحة ، وفقد شعوره ، وقال : لقد احترقت روحي ، كما احترق قلبي من قبل . وكم أردت أن أحرق روحي بسبب ذلك ، إذ لم يعد لي صبر أو طاقة أكثر من ذلك . . قال المسكين هذا الكلام ، وأخذ يدق رأسه بالحجر ، مما به من آلام . قال هذا وفقد عقله ، ثم سالت الدماء من عينه وأنفه . وأخيرا فطن قائد جيش الأمير إلى ذلك ، وعزم على سفك دمه ، واتجه صوب الملك ، وقال : لقد وقع فاسق ولهان ، في عشق ابنك ، أيها السلطان . . دهش الملك مما به من غيرة ، واضطرب عقله مما به من حرقة ، وقال انهض واصلبه على الأعواد ، ثم قيده ونكسه . . وأخيرا سارع الجيش وتحلق حول المسكين ، ودفعوا به نحو الأعواد ، فتملك الحزن جمعا من الخلق لما حل به ، ولكن لم يكن أحد يدرك مقدار آلامه ، كما لم يستطع أحد طلب الشفاعة له . وما أن أحضره الوزير تحت العود ، حتى انطلقت منه زفرة عالية مما به من حسرة ، وقال : باللّه عليك ، أمهلني قليلا ، حتى أسجد سجدة واحدة تحت المقصلة . . أمهله ذلك الوزير الغضوب ، حتى وضع وجهه على التراب . وفي وسط السجدة قال : يا رب ، لم يريد السلطان قتلي دون ذنب ؟ وإن أكن قد فقدت الروح قبل ، فاطلعني ذات يوم على جمال ذلك الغلام . فإن أر ذات مرة وجهه ، أقدم مائة ألف روح فداءه ، إلهي ، إن عبدك المتضرع إليك قد أصبح عاشقا وقتيل أعتابك ، وبروحي أصبحت أسير عشقك ، وطالما كنت عاشقا ، فلست كافرا . إنك تلبي مئات الألوف من الأمنيات ، فيسر لي أمري وحقق لي بغيتي . ما أن طلب ذلك المظلوم بالطريق ما به من حاجة ، حتى أصاب سهمه الهدف والغاية ، فقد سمع الوزير ما كان يخفيه واغتم قلبه لآلام ذلك المسكين ، فذهب إلى السلطان وانتجب ، وشرح له حال ذلك المسلوب القلب ، وتكلم عن تضرعه في المناجاة ، كما قال حاجته وسط الصلاة ، فاغتم السلطان بسببه وترفق به ، وعزم قلبه على العفو ، وفي الحال قال السلطان لابنه الأمير : لا تصد عنك هذا الذي خر صريعا ، بل انهض في التو وسر حتى الأعواد ، سر إلى ذلك المسكين الحسير ، وادع صريعك إليك ، ورد عليه قلبه فقد أصبح عاشقك ، وتلطف معه فقد تحمل قهرك ، واشرب معه العسل فطالما تجرع السم بسببك ، وخذ بيده ، وامض به صوب روضة ، وحينما ترجع فليمثل معك أمامي . . ذهب الأمير الشبيه بيوسف في الجمال ليجالس المسكين ويتم الوصال . ذهب ذو الوجه المتقد كالشمس ، حتى يكون في خلوة مع ذرة . ذهب ذلك البحر الغاص بالجواهر ليكون في وصال قطرة ، ولكم أن تفرحوا في هذا المقام لما تملككم من سعادة ، ولكم أن ترقصوا وتصفقوا لما اعتراكم من مسرة ؛ ففي النهاية سار الأمير صوب الأعواد ، وهنا ثارت الفتن والغوغاء وكأنه يوم الميعاد ، ولكنه وجد أن المسكين قد وهن . وجده وقد نكس رأسه على التراب ، فأصبح التراب طينا من دماء عينيه ، وعمت العالم كله الحسرة عليه ، لقد أصابه الهزال والضعف والوهن ، وأي شي أسوأ من ذلك ؟ . ما أن رأى الأمير ذلك المدرج بالدماء ، حتى فاضت عيناه بالدمع والدماء ، وأراد أن يخفي دموعه عن الجند ، ولكن هيهات أن تنطلق زفرة دون دمع . فانهمرت دموعه كالمطر الغزير ، فأحدث ذلك الكثير من الآلام بين الجمع الغفير . . كل من كان صادقا في عشقه ، تساوى لديه العاشق والمعشوق ، وإن يظهر لك العشق الصادق ، فأنت عاشق ، وسيأتيك معشوقك . . وأخيرا نادى الأمير الشبيه بالشمس ذلك المسكين في رقة وهمس ، ولم يكن المسكين قد سمع من قبل صوت سلطان الجمال ، ولكن كثيرا ما رآه من بعيد ، فما أن رفع المسكين رأسه من تراب ذلك الطريق ؛ حتى رأى في مواجهته وجه سلطانه . إن النار المحرقة لا تقدر على شي مع بحر غاص بالماء ، وقد كان ذلك المسكين الولهان نارا ، فما أجمل أن جاءت سقطته على مقربة من بحر ، وتراقصت روحه على شفتيه ، وقال : أيها السلطان ، كيف تستطيع أن تقتل ضعيفا مثلي أنا الولهان ؟ لا حاجة بك إلى هؤلاء الجنود البواسل . قال هذا ، وما نطق بعدها مطلقا ، بل أطلق صيحة وأسلم الروح ، ومات ، فكان كشمعة تبسمت ثم ماتت ، فعندما أدرك الوصال مع الحبيب فنى فناء مطلقا ، وأصبح عدما . . يدرك السالكون في محيط الألم ، ماذا يصنع فناء العشق مع الرجال ، فيا من اختلط وجودك بالعدم ، واختلطت لذاتك بالألم ، ما لم تقض فترة في ألم واضطراب ، فكيف تدرك أي خبر عن وجودك ؟ لقد قفزت كالبرق فاتحا يدك ، ولكنك توقفت أمام كومة من الثلج . فأي عمل هذا الذي تفعله ؟ تقدم بشجاعة ، وأحرق العقل وتقدم كالمجنون . فإن ترغب في فعل هذا السر ، فتقدم ذات مرة متفحصا ولو للحظة ، لقد أكثرت من التفكير ، فتخل عن نفسك مثلي ، وافقد الشعور بالذات لحظة ، حتى تصل في النهاية إلى الفقر ، وتصل في كمال الذوق إلى الفناء . . من أكون أنا ؟ لا بقاء لي ولا لغيري ، فشرى أعظم من العقل وأعظم كذلك من خيري . لقد فنيت في نفسي دفعة واحدة ، ولا حيلة لي غير الذلة والمسكنة ، وما أن أشرقت أمامي شمس الفقر ، فسرعان ما أدركت أن كلا العالمين عديما القيمة ، وعندما رأيت شعاع هذه الشمس ، أصابني الفناء ، وهكذا عاد الماء إلى مجاريه ، وكل ما حملته وكل ما لعبت به ، ألقيت به كله في الماء الآسن ، لقد فنيت وصرت إلى العدم ، وما بقيت مطلقا ، وأصبحت ظلا ، وما بقيت مني ذرة واحدة حائرة . وكنت قطرة ، ففنيت في بحر الأسرار ، ولا أجد اليوم تلك القطرة مرة أخرى ، ومع أن الفناء ليس في متناول كل إنسان ، فقد فنيت ومثلي كثيرون ، ومن ذا الذي لن يصيبه الفناء من بين ساكني العالم من الأرض إلى السماء ؟ . . فلا بد من الفناء لهم جميعا ، وسواء قصرت حياتهم أو طالت ، لا بد لهم من الفناء . . المقالة الرابعة والأربعون حكاية 5 الأبيات من 4098 - 4103 سأل أحد الصالحين النوري هذا السؤال : كيف يكون الطريق بالنسبة إلينا حتى يتم الوصال ؟ "" النوري : اسمه أحمد بن محمد وقيل محمد بن محمد ، وهذا أصح ويعرف باسم ابن البغوي لأن والده من مدينة بغشور التي كانت تقع بين هراة ومرو ، وكان مولده ومنشأه في بغداد ، وصحب سرى السقطي ومحمد بن علي القصاب وأحمد بن الحواري ، كما رأى ذا النون ، وكان من أقران الجنيد وعندما مات ، قال الجنيد : ذهب نصف هذا العلم بموت النوري . انظر نفحات الأنس ص 78 - 79 ."" قال : إن لنا سبعة بحار من نور ونار ، ولا بد من سلوك طريق طويل طويل ، وعندما تعبر تلك البحار السبعة ، ستجذبك السمكة في لحظة ، وهذه السمكة التي تتنفس من صدرها ، هي التي تجذب الأولين والآخرين إليها ، إنها كحوت لا بداية له ولا نهاية ، وهي مستقرة وسط بحر الاستغناء ، وعندما تجذب الشبيهة بالتمساح هذه كلا العالمين ، فإنها تجذب في لحظة واحدة كل الخلق أجمعين . "" صورة اللّه والسيد المسيح كما عرضها المسيحيون الأولون هي صورة السمكة . انظر ترجمة منطق الطير الفرنسية هامش ص 289 . راجع سفر متى ( اصحاح 20 ) آية 8 وما بعدها نقلا عن : نفس المرجع السابق ونفس الصفحة ."" المقالة الخامسة والأربعون والأخيرة في سلوك الطير الطريق صوب السيمرغ الأبيات من 4104 - 4153 وبعد سماع هذا الكلام كله ، سارعت جميع طيور الوادي ، بتنكيس الرؤوس في دماء الأكباد ، وعلمت جميعها ، أن هذه القوس الصعبة ، لا تقوى عليها سواعد حفنة من العجزة ، ولم تجد أرواحهم الاستقرار بسبب هذا القول ، وما أكثر الذين ماتوا من العجز في ذلك المنزل ، وأما الطيور الأخرى التي اندفعت إلى المسير ، فبفعل ما سيطر عليها من تحير ، قضت سنوات متنقلة بين مرتفع ومنخفض ، وقضوا في طريقهم عمرا مديدا ، وكيف أستطيع شرح وتفسير كل ما وقع لهم في المسير ، فإن تسلك الطريق ذات يوم ، فستلاحظ عقباته واحدة واحدة ، وستعلم ما فعله الطير ، وسيتضح لك كيف تحملت الآلام والهموم . في النهاية استطاع نفر قليل من بين ذلك الحشد قطع الطريق إلى الحضرة ، فقد وصل نفر قليل من كل أولئك الطير ، فهناك يصل واحد من بين كل عدة آلاف . لقد غرق البعض في البحر ، كما أصيب البعض بالفناء ، وأسلم البعض الأرواح عطشى ، وذلك على قمم الجبال من شدة الحرارة والآلام ، وأصيب البعض من وهج الشمس باحتراق الأجنحة وشواء الأرواح ، وأصيب البعض بالذلة والمهانة ، مما بالطريق من أسود ونمور ، ومات البعض من التعب في صحراء صادية الشفة ، وقتل البعض أنفسهم كالفراشة ، من أجل تعلقهم بالحبوب ، وأصاب الألم البعض وكذا الوهن ، مما دهمهم بالتخلف والهجران ، وتوقف البعض أمام عجائب الطريق ، فلزم كل منهم موقعه ، وأسلم البعض أجسادهم للطرب وكفوا بعد ذلك عن الطلب . . وأخيرا لم يتقدم إلى هناك إلا نفر قليل من بين مئات الألوف . وذلك الجمع الغفير من الطير لم يصل منه إلا ثلاثون طائرا . وصل الثلاثون وقد عدموا الأجنحة والريش ، وألم بهم التعب والوهن . وصلوا محطمي القلوب فاقدي الأرواح ، سقيمي الأجساد ؛ فرأوا الحضرة دون وصف أو صفة ، رأوها تسمو على الإدراك والعقل والمعرفة ، وما أن أضاء برق الاستغناء حتى أحرق مائة عالم في لحظة واحدة ، ورأى الجميع عددا وفيرا من الشموس المعتبرة ، ورأوا عددا كبيرا من الأقمار والنجوم الزاهرة ؛ فوقعوا جميعا في حيرة ، وظلوا كذرة مضطربة حائرة ، وقالوا جميعا :إذا كانت الشموس تبدو كذرة فانية بجانب ذلك السلطان الأعظم ، فكيف نبدو نحن في هذه الأعتاب ؟ يا للحسرة على ما تحملناه من آلام بالطريق ! لقد قطعنا الأمل من أنفسنا ، ولكن لم نقطع الأمل من الهدف المنشود ، وإذا كانت مئات العوالم مجرد ذرة من تراب هناك ، فأي خوف إن وجدنا ، أو أصابنا العدم؟ عندما جاءت تلك الطيور منهوكة القوى ، جاءت كطائر نصف ذبيح ، وقد أصابها الفناء والمحو ، وظل يحيط بهم حتى ذلك الوقت . وأخيرا جاء حاجب العزة ، من الأعتاب العلية فجأة ، فرأى أمامه ثلاثين طائرا غاية في العجز ، وقد أصبحت مجرد ريش وأجنحة بلا أرواح ، كما أصاب الهزال أجسامها ، وتملكتها الحيرة من أولها إلى آخرها ، ووقفت خائرة القوى شديدة الوهن ، فقال : أيها القوم ، ثوبوا إلى رشدكم ، ومن أي مدينة أقبلتم ، ومن أجل أي شيء إلى هذه الأعتاب جئتم ؟ وأنتم أيها الجهلة ، ما أسماؤكم ؟ وأين تكمن راحتكم ؟ وبم يصفكم الإنسان في الدنيا ؟ وأي فعل يمكن أن يتأتى من حفنة من العجزة ؟ قال الجميع : إننا حضرنا إلى هذا المكان ، ليكون السيمرغ لنا السلطان ، ونحن جميعا حيارى في هذه الديار ، وقد أصبحنا عاشقين لا يقر لنا قرار ، لقد انقضت مدة مديدة حتى جئنا من هذا الطريق ، ووصلنا إلى الأعتاب ثلاثين بعد أن كنا آلافا ، وقد جئنا من طريق بعيد وكلنا رغبة في أن نحظى بالحضور في هذه الحضرة ، فمتى يرضى السلطان عما كابدناه من تعب ، حتى يرعانا في النهاية بالعطف والحدب ؟ قال حاجب الحضرة : أيها العجزة ، يا من تلوثتم بدماء القلب كالوردة ، إن تكونوا أو لا تكونوا في العالم ، فهو السلطان المطلق الدائم ، ومائة ألف عالم مليئة بالجند والحشم ، ليست إلا نملة على باب هذا السلطان الأعظم ، ولن ينتج عنكم في النهاية إلا الألم والزحير ، فعودوا أدراجكم ، أيها الجمع الحقير . . يئس كل واحد من هذا القول ، وأصبحوا بلا حراك كالموتى ، وقال الجميع : كيف ينعم علينا هذا السلطان المعظم بالذل في نهاية الطريق ؟ فليس لأحد أن يحظى بالذل منه مطلقا ، ولو حدث هذا ، فليس الذل منه سوى عز وسؤدد . المقالة الخامسة والأربعون حكاية 1 الأبيات من 4154 - 4163 قال المجنون : إن يمدحني الجميع على وجه الأرض كل لحظة ، فأنا لا أريد مدح أحد مطلقا ، بل لتجعل يا إلهي مدحي ، هو هجاء ليلى لي فقط ، فقدح واحد منها يفضل مائة مدح ، واسمها كذلك أفضل من كلا العالمين ، ولقد قلت لك مذهبي ، أيها العزيز ، فإن كانت ترغب في إذ لالي ، فلها ما أرادت . . وقال : عندما يظهر برق العزة ، يلحق الدمار بالأرواح كلها ، وأي جدوى من إحراق الروح بكثرة الآلام ؛ وأي جدوى من العزة والذلة في تلك الآونة ؟ ثم قال ذلك الحشد المضطرب : لقد اشتعلت أرواحنا وكذا النار ، فمتى تنفر الفراشة من النار ؟ إنها في حضور على الدوام مع النار . . مع أننا لا نحظى بالوصال مع الحبيب ، فهو يحرقنا ، وما أعظم هذا من صنيع ! وإن لم يتم الوصل إلى أعتاب الحبيب ، فليس من سبيل إلا تقبيل الأرض . . المقالة الخامسة والأربعون حكاية 2 الأبيات من 4164 - 4175 جميع طيور الزمان ، كانت لها قصة مع تلك الفراشة ، حيث قالت جميعها للفراشة : أيتها الضعيفة إلام تخاطرين بروحك الشريفة ؟ ما دمت لا تحققين مع الشمعة أي وصال ، فلا تخاطري بروحك جهلا ، ما دام هذا محالا . ثملت الفراشة بهذا الكلام وانتشت ، وأجابت على الطير بسرعة ، حيث قالت : يكفيني أنا الولهانة على الدوام ، أن أصل إلى المعشوق وأدور حوله على الدوام ، وإذا كان الجميع يصيبهم الموت في عشقه ، فقد أقبلوا وهم غرقى في الآلام ، ومع أن الاستغناء يفوق كل إحصاء ، فإن لطفه كان ذا جدة كذلك ، فقد جاء حاجب اللطف ، وفتح الباب ، وأزاح في كل لحظة مائة حجاب ، فظهرت الدنيا بلا حجاب ، ثم واصلت الظهور في نور النور . ثم أجلس الحاجب الجميع على مسند القربة ، أجلسهم على سرير العزة والهيبة ، ووضع رقعة أمام الجميع ، وقال اقرءوها كلها عن آخرها ! وما أن علم القوم ما بهذه الرقعة ، حتى تملك الاضطراب أحوالهم . . المقالة الخامسة والأربعون حكاية 3 الأبيات من 4176 - 4232 يوسف الذي أحرقت الأنجم البخور من أجله ، قد باعه أخوته العشرة. وعندما اشتراه ملك مصر ، طلب منهم وثيقة ، وأن يشتريه بثمن بخس ، وقد أخذ الوثيقة من هؤلاء القوم ، حتى يكون معه الدليل ضد الأخوة العشرة . . ما أن اشترى عزيز مصر يوسف ، حتى كان الحظ في ركاب يوسف ، وفي النهاية بعد أن أصبح يوسف عزيز مصر ، جاء أخوته العشرة إلى مصر ، ولكن لم يتعرفوا على وجه يوسف ، مع أنهم مثلوا أمامه ، وطلبوا لأنفسهم أسباب الحياة ، ورفعوا نقاب الحياء طلبا للخبز . . فقال يوسف الصديق : أيها الرجال ، إن لدي وثيقة خطت بالعبرية ولم يستطع أحد من حاشيتي قراءتها ، فإن تقرءوها أمنحكم خبزا وفيرا . . وكان الأخوة كلهم يعرفون اللغة العبرية ، فوافقوا بسرور ، وقالوا : أحضر الوثيقة أيها السلطان . أعمى اللّه قلب ذلك الذي هيأ له الغرور ، ألا يسمع قصته وهو دائم الحضور . أعطى يوسف وثيقتهم إليهم ، فارتعدت جميع أوصالهم ، وما استطاعوا قراءة لفظة من الوثيقة ، كما لم يقدروا على النطق بأي كلمة ، وسيطر عليهم الغم وانخرطوا في تقديم الأسف ، وظلوا مهمومين لما ارتكبوه مع يوسف ، لقد خرست ألسنتهم جميعا ، وضاقت الحال بأرواحهم جميعا . . فقال يوسف : لم تملكتكم الدهشة ؟ ولم لزمتم الصمت أثناء قراءة الوثيقة ؟ فقال الجميع له : الموت أفضل من قراءة هذه الوثيقة ، وكذلك ضرب العنق وعندما نظر الثلاثون طائرا الضعاف في خط هذه الرقعة النفيسة ، وجدوا أن كل ما كانوا قد فعلوه ، قد سطر فيها عن آخره . وحين أمعن هؤلاء الأسرى النظر ، وجدوا كل ما ارتكبوه من أخطاء ، فقد كانوا قد مضوا وشقوا طريقهم ، ثم ألقوا بيوسف نفسه في البئر ، وأحرقوا روح يوسف بما ألحقوا بها من ذلة ، ثم باعوه بثمن بخس . "" بعض الطبعات تجعل نهاية الحكاية عند هذا الحد وتضع عنوانا جديدا لبقيتها وهو : ذهاب الطير صوب السيمرغ ، ومثول السيمرغ بتلك الحضرة "" . ألا تعلم ، أيها المسكين عديم المروءة ، أنك تبيع يوسف في كل لحظة ؟ وعندما يصبح يوسفك سلطانا ، فسيصير رائدك في هذه الأعتاب . أما أنت فتصبح في النهاية شحاذا جائعا ، وستمثل أمامه عاريا . وإذا كان أمرك سيشرق بفضله ، فلم حق لك بلا ثمن بيعه ؟ فنت أرواح تلك الطيور فناء محضا ، وذلك من الحياء والخجل ، كما أصبحت أجسادهم زرقاء كالتوتيا ، وما أن تطهرت جميعها من كل الكل ، حتى وجدوا أرواحهم جميعا من نور الحضرة ، فعادوا عبيدا للروح الجديدة ، وتملكتهم حيرة من نوع جديد ، وانمحى من صدورهم كل ما صنعوه وما لم يصنعوه ، وأضاءت من جباههم شمس القربة ، فأضاءت أرواح الجميع من هذا الشعاع ، وفي تلك الآونة رأى الثلاثون طائرا طلعة السيمرغ في مواجهتهم ، وعندما نظر الثلاثون طائرا على عجل ، رأوا أن السيمرغ هو الثلاثون طائرا . فوقعوا جميعا في الحيرة والاضطراب ، ولم يعرفوا هذا من ذاك ، حيث رأوا أنفسهم السيمرغ بالتمام ، ورأوا السيمرغ هو الثلاثون طائرا بالتمام ، فكلما نظروا صوب السيمرغ ، كان هو نفسه الثلاثين طائرا في ذلك المكان ، وكلما نظروا إلى أنفسهم ، كان الثلاثون طائرا هم ذلك الشيء الآخر ، فإذا نظروا إلى كلا الطرفين ، كان كل منهما السيمرغ بلا زيادة ولا نقصان . . فهذا هو ذاك ، وذاك هو هذا ، وما سمع أحد قط في العالم بمثل هذا . وأخيرا غرقوا جميعا في الحيرة ، وانخرطوا في التفكير بلا عقل ولا بصيرة ، ولما لم يدركوا شيئا من هذا الحال ، سألوا صاحب الحضرة بلا حروف سؤالا ، حيث طلبوا كشف هذا السر القوي ، وطلبوا معرفة الأنية والأنتية . جاءهم الخطاب من الحضرة قائلا بلا لفظ ، إن صاحب الحضرة مرآة ساطعة كالشمس ، فكل من يقبل عليه يرى نفسه فيه ، ومن يقبل بالروح والجسد ، ير الجسد والروح فيه ولأنكم وصلتم هنا ثلاثين طائرا ، فقد بدوتم في هذه المرآة ثلاثين طائرا وإذا حضر أربعون أو خمسون طائرا فإنهم يرفعون الحجب عن أنفسهم . وإن تردوا إلى هنا أكثر عددا ، فإنكم ترون أنفسكم ، وها قد رأيتم أنفسكم . ليس لعديم المروءة أن تدركنا عينه ، وكيف تدرك عين النملة نور الثريا ؟ وهل رأيت نملة حملت سندانا ؟ وهل رأيت بعوضة حملت بين فكيها فيلا ؟ كل ما أدركته وما رأيته أنت ليس هو ذلك الشيء ، وما قلته وما سمعته أنت ، ليس هو ذلك الشيء ، وتلك الأودية التي كان كل منكم قد سلكها ، وهذه الرجولة التي كان كل منكم قد أبداها ، قد تمت كلها من أجلنا ، وهكذا كنستم وادي الذات والصفة . ولما أصبحتم ثلاثين طائرا حائرا ، بقيتم بلا قلوب عديمي الصبر ، فاقدي الأرواح . نحن السابقون إلى السيمرغ ، لذا فنحن الجوهر الحقيقي للسيمرغ ، فامحوا أنفسكم فينا بكل عز ودلال ، حتى تجدوا أنفسكم فينا . وهكذا انمحوا فيه على الدوام ، كما ينمحي الظل في الشمس والسلام . . كنت أتكلم ، ما داموا يسلكون ، ولكن ما أن وصلوا ، حتى لم يعد للقول بداية ولا نهاية ، فلا جرم أن نضب معين الكلام هنا ، حيث فنى السالك والمرشد والطريق . . المقالة الخامسة والأربعون حكاية 4 الأبيات من 4233 - 4240 قيل إنه عندما أشعلت النار في الحلاج ، واحترق عن آخره ، أقبل عاشق يحمل عصا في اليد ، وجلس على كومة الرماد ، ثم أخذ يتحدث وقد اضطرب كالنار ، حتى جعل الرماد يموج ويثور ، فكان يقول في تلك الآونة : قولوا الحق ، أين من نطق بقولة ( أنا الحق ) ؟ كل ما قلته وكل ما سمعته ، وكذا كل ما عرفته وكل ما رأيته ، لا يعدو أن يكون كله خرافة ، فامحه كله إذا لم يكن مكانه هذه الخرابة . يجب أن يكون الأصل هو الاستغناء والتطهر، ولا خوف إن وجد الفرع أو انعدم ، فوجود الشمس حقيقة قائمة على الدوام، حيث لا بقاء للذرة أو الظل، والسلام . المقالة الخامسة والأربعون حكاية 5 الأبيات من 4241 - 4262 عندما مضى أكثر من مائة ألف قرن ، كانت قرونا بلا بداية ، ولا نهاية ، ولا زمن ، وبعدها أسلمت الطير أنفسها إلى الفناء الكلي بكل سرور . وما أن غاب الكل عن رشدهم ، حتى ثابوا ثانية إلى رشدهم ، فقد وصلوا إلى البقاء بعد الفناء ، وليس لأحد قط من المحدثين أو القدماء ، أن يتحدث عن ذلك الفناء وذلك البقاء . وهذا الأمر بعيد بالنسبة لك عن مجال النظر ، لأن شرحه بعيد عن الوصف والخبر ، ولكن في طريق مثل طريق أصحابنا هل يمكن شرح البقاء بعد الفناء ؟ وأين يمكن إتمام ذلك ؟ إن هذا يلزمه كتاب جديد ، ولكن من ذا الذي يدرك أسرار البقاء ؟ ومن ذا يكون جديرا بها ؟ وأنت ما دمت موجودا في حيز الوجود والعدم ، فكيف تستطيع التقدم خطوة في هذا المحتدم ؟ وإذا عدم هذا وذاك البقاء في طريقك ، فكيف يطيب النوم أيها الأبله لك ؟ أنظر ماذا تكون البداية والنهاية ، وإن تعرف النهاية، فأي جدوى من تلك النهاية؟ فالبداية كانت نطفة تربت وسط عز ورعاية ، حتى أصبحت هذا العاقل وذلك الموفق ، ثم منحه الوقوف على أسراره وأيده بالتعرف على أموره ، والنهاية أن يصبيه الموت وينمحي كل شيء ، فينحدر من أوج العزة إلى هاوية الذلة ، بعد ذلك يتحول إلى تراب بالطريق ، وهكذا فنى إلى ذرات ، ووسط هذا الفناء قيلت له مئات الأسرار ، قيلت له ولكنها قيلت بدونه ، بعد ذلك منح البقاء كله ، كما نال العزة بدلا من الذلة . . ما ذا تعرف حتى تملك ما يوجد أمامك ؟ فثب إلى رشدك ، وفكر مليا في نهايتك ! وإن لم تصبح روحك في خدمة السلطان ؛ فكيف تكون في هذه الأعتاب مقبولا من السلطان ؟ وإن لم يصبك النقصان في الفناء ، فلن ترى السلامة مطلقا في البقاء . وفي الطريق تدمغ بالذلة في البداية ، ثم ترتقي فجأة بالعزة ، فامض إلى العدم حتى تدرك الحياة في إثر ذلك ، ولكن ما دمت موجودا ، فكيف تصل الحياة إليك ؟ وإن لم يصبك المحو في الذلة والفناء ، فكيف يصلك من العز إثبات البقاء ؟ المقالة الخامسة والأربعون حكاية 6 الأبيات من 4263 - 4423 كان هناك سلطان ، العالم كله ملك له ، والأقاليم السبعة كلها تحت إمرته ، وكان شبيها بالإسكندر في حكمه ، وتمتد من قاف إلى قاف جيوشه ، وكان جاهه للقمر خدين ، كما وضع القمر وجهه على الأرض إكراما لهذا السلطان ، وكان لهذا السلطان وزير عظيم ، حيث كان عالما بدقائق المسائل ، حصيف الرأي . كما كان لهذا الوزير ذي الفضل فتى ، حسن العالم كله وقف على وجهه ، فلم ير إنسان قط في مثل جماله ، ولم ير أحد قط جميلا ذا عزة مثله ، وما استطاع أحد مطلقا النجاة والخلاص من جمال وجهه الجذاب ! إذا بدا هذا البدر ذات يوم ، ثارت في الحال مائة قيامة ، ولن يوجد من بين البشرية من يكون محبوبا أكثر منه إلى الأبد ؛ فلهذا الفتى وجه كالشمس ، ولطرته لون المسك الأزفر وكذا رائحته ، ومظلة شمسه كانت من المسك ، وماء الحياة صادي الشفة بلا شفته ، ووسط وجهه الفتان الشبيه بالشمس ، فم دقيق في دقة الذرة ، وهذا الفم قد فتن الخلق كلهم ، وقد أطبق على ثلاثين نجمة بداخله ، فكيف تظهر نجمة في الدنيا ، وقد اختفت ثلاثون نجمة داخل فمه الدقيق كالذرة ؟ أما الطرة فقد انسدلت على ظهر رفيع القدر ، انسدلت على ظهره في رفعة وتكبر ، وكل طية في طرة ذلك الفضي الصدر ، قتلت في لحظة واحدة مئات الأرواح من بني البشر ، وكثيرا ما انسدلت طرته على وجهه ، فكانت في كل شعرة منها مائة تحفة . وكان له حاجب على شاكلة القوس ، ومن ذا يقدر على استخدام هذا القوس ؟ وله في مجال الحب عين ساحرة ، وقد صنع كل هدب مائة لون من ألوان السحر ، وشفته أصل عين ماء الحياة ، وهي حلوة كالسكر ، وأكثر نضارة من النبات ، ومن ذا الذي لم يصب بالجنون من أسنانه ؟ ومن ذا الذي حظى من اللّه بمثل هذه الجواهر ؟ ومسك خاله نقطة جيم الجمال ، وبسببه يصبح الماضي والمستقبل أسيري الحال ، وإن أوقف عمري كله على جمال هذا الفتى الجذاب ، فأنى لي أن أصل إلى الإحاطة به ؟ وأخيرا ثمل السلطان به ، وأصابه العجز من بلاء عشقه ، ومع أن السلطان كان عالي القدر والمقام إلا أنه أصبح نحيلا كالهلال لما تحمل من هموم مبعثها ذلك البدر ، وهكذا أصبح مستغرقا في حب الفتى ، ولم يعد يدرك شيئا من وجوده ، وإن لم يمثل الغلام لحظة أمامه ؛ أصاب الاضطراب قلبه الوله ، ولم يعد يقر له قرار بدونه لحظة ، ولا صبر له على هذا الجنون لحظة ، وما استراح لحظة بدونه بالنهار أو بالليل ، حيث كان مؤنسه الدائم بالنهار وبالليل ، فكان يجلسه طوال النهار حتى المساء إلى جواره ، ويحكي لهذا القمري الوجه كل أسراره ، وإذا ما نشر الليل الظلام ، لم يكن يقر للسلطان قرار أو ينام ، أما الغلام فكان ينام أمام السلطان ؛ فكان السلطان يرنو إليه بكل إمعان ، وهكذا كان ينام ذلك الفتان طوال الليل على ضوء الشموع في حراسة السلطان . . . أما السلطان فكان يديم النظر إلى ذلك القمري الوجه ، وهو يذرف الدموع دما طوال الليل ، وكان أحيانا ينثر الورد على وجهه ، وأحيانا ينفض الغبار عن شعره ، ومن شدة عشقه ذرف دمعا كمطر منهمر على وجنتيه . . كان السلطان يقيم أحيانا مجالس للطرب مع ذلك البدر ، ويشرب الأقداح ، وهو متطلع إلى وجهه ، كما كان لا يتركه لحظة واحدة يغادر مجلسه ؛ حيث أصبح وجوده ضرورة له ، فكان الغلام يداوم الجلوس خوفا مما للسلطان من بأس ، فإذا غادر جواره لحظة ، فصل السلطان رأسه عن جسده من الغيرة ، وكم كانت أمه وكذلك أبوه يريدان رؤية وجه ابنهما ولو للحظة ، ولكن لم تكن لديهما القدرة خوفا من بطش السلطان . . ظل الحال كذلك حتى وصلت القصة إلى ذروتها حيث كانت تجاور الحاكم فتاة لها وجه الشمس ، وكأنها التمثال فأصبح الغلام عاشقا لطلعتها ، كما أصبح كالنار مضطربا في أمرها . وذات ليلة جلس معها ، فبدا المجلس جذابا كطلعتها ، جلس معها خفية من السلطان ، حيث ثمل في تلك الليلة السلطان . . وفي منتصف الليل عندما أصبح السلطان بين الصحو والسكر ، قفز من مكانه شاهرا الخنجر ، فبحث عن الغلام ولم يجده ، وأخيرا أسرع إلى حيث وجده ، ورأى فتاة تجالس ذلك الفتى ، وقد شغف كل منهما بالآخر عشقا وهياما ، فما أن رأى السلطان ذو الشهرة ذلك الحال ؛ حتى سيطرت عليه نار الغيرة في التو والحال . سيطر الجنون على السلطان العاشق الثمل ، إذ كيف يتواجد معشوقه مع آخر ؟ وحدث السلطان نفسه قائلا : إنني السلطان ؛ فكيف يختار من هو مقرب منّي آخر ؟ إن ما فعلته من أجله لا يمكن أن يفعله من أجله شخص آخر ، فهل يجازيني بهذا العمل ؟ حقا لقد فعل ، كما فعلت شيرين مع محطم الجبل ، لقد كانت مفاتيح الكنوز بيده ، كما كان سادة العالم أدنى مرتبة منه ، وكان لي الصديق والرفيق معا وكان لي الداء والدواء معا ، ثم يجلس في الخفاء مع هذه التافهة ، سأخلص الحياة منهما في هذه الساعة . . "" محطم الجبل كناية عن فرهاد ، وتحكي الأساطير الإيرانية القديمة أن فرهاد هذا أقدم على هدم أحد الجبال أملا في الظفر بقلب شيرين معشوقته ، وبعد أن نجح في تحطيم الجبل ، حنثت شيرين بوعودها وتخلت عن فرهاد ، مما دفعه إلى أن يضرب رأسه بنفس الفأس التي إستخدمها في تحطيم الجبل ، وكانت النتيجة أن أسلم الروح دون أن يحظى بمعشوقته ."" قال هذا ، ثم أمر بإحكام وثاق الفتى ، ومرغ جسده في تراب الطريق ، حتى أصبح في زرقة النيل من ضرب السلطان ، بعد ذلك أمر السلطان بصلبه على الأعواد ، وتعليقه وسط السوق ، وقال : ليسلخ جلده أولا ، ثم يصلب منكسا على الأعواد ثانيا ، لأن من أصبح أهلا للسلطان ، لا يحق له أن ينظر إلى آخر حتى نهاية الزمان . سحبوا الفتى بعنف وذلة ، ليعلقوا رأسه الثمل على المقصلة ، وعلم الوزير بحال ولده ، فوضع التراب على مفرقه ، وقال يا روح الوالد : أي خذلان اعترض طريقك ؟ وأي قضاء جعلك عدو سلطانك ؟ كان عشرة من غلمان السلطان قد توجهوا في تلك الأونة للقضاء عليه ، فأقبل الوزير بقلب مفعم بالألم والحسرة ، وأعطى كل فرد منهم درة براقة ، وقال لهم : إن السلطان الليلة ثمل ، ولم يرتكب هذا الغلام أي ذنب ، فإن يفق السلطان العظيم من سكرته ، فسيندم على فعلته ، ولن يبقي بلا ريب على أي فرد من قتلته . قال الغلمان كلهم في تلك الآونة : إن يقبل السلطان ولا يجد أحدا قط ، فإنه يسفك دماءنا ! وأخيرا أحضر الوزير سفاحا من السجن ، وسلخ جلده كالثوم ، ثم نكسه ورفعه على المقصلة ، وهكذا تحول التراب طينا من دمه ، وأصبح أحمر اللون كالوردة ، وأخفى الوزير فتاه ، حتى يستطيع أن يعيش متخفيا في الدنيا . . وما أن أفاق السلطان في اليوم التالي ، حتى كانت كبده تحترق مما سيطر عليه من غضب ، ثم استدعى السلطان أولئك الغلمان ، وقال لهم : ماذا فعلتم مع هذا الكلب من تعذيب وجفاء ؟ فقال الجميع : لقد عاملناه بكل شدة وقسوة ، ورفعناه على الأعواد وسط السوق ، وسلخنا جلده عنه ، وهو مصلوب الآن على المقصلة . . ما أن سمع السلطان هذه الإجابة ، حتى تملكه السرور مما قاله هؤلاء الغلمان العشرة ، وأنعم على كل واحد منهم بخلعة فاخرة ، وحاز كل منهم منصبا ورفعة ثم قال لهم السلطان : اتركوه هكذا ذليلا ضائعا على المقصلة إلى ما لا نهاية ، حتى يعتبر خلق الزمان من فعلة هذا الوقح الجبان . . عندما سمع أهل المدينة هذه القصة ، عمهم الحزن من أجله ، وحضر جمع كبير من النظارة ليروه ، ولكن لم يتعرف عليه أحد قط ، فقد رأى الجميع لحما غريقا في دمائه ، وقد نكس بعد أن سلخ جلده . ومن رآه على هذه الصورة ، عظيما كان أم حقيرا ؛ ذرف الدموع دما ؛ ولكن في الخفاء ، واستمر مأتم ذلك البدر من الصباح حتى المساء ؛ وقد عمت الأحزان جميع البلاد ، كما زادت الحسرات عليه وكذا الآهات . . ولكن بعد عدة أيام قضاها السلطان بلا معشوقه ، تملكه الحزن والأسف من فعلته ، وضعف غضبه واشتد به العشق ، وأصبح الشبيه بالأسد في ضعف النملة من شدة العشق ، فقد كان يجالسه طوال الليل والنهار ، وكان مع الشبيه بيوسف غاية في السرور ، كما كان ثملا على الدوام من شراب الوصل ، فكيف يعرف الآن الاستقرار في خمار البحر ؟ وهكذا لم يعد يطيق الفراق لحظة ، وتفاقم الأمر ، واحترقت روحه من ألم الفراق ، وأصبح عديم الصبر لا يقر له قرار من الاشتياق ، كما سيطر النوم والأسى عليه ، وامتلأت عيناه بدمع دموي ، ونثر التراب على رأسه ، وأخيرا صنع ثوبا أزرق وارتداه ، وسيطرت الأحزان والهموم على دنياه ، ولم يعد يستسيغ طعاما بعد ذلك أو شرابا ، كما تطاير النوم من عينيه جزعا واضطرابا . . وعندما أقبل الليل خرج السلطان قاصدا المقصلة وقد تخلى عن الكل ، فقد ذهب وحيدا إلى مقصلة الغلام ، فهاجته ذكرى ذلك الغلام ، وما أن هاجته ذكرى حاله معه واحدة واحدة ، حتى أطلقت كل شعرة منه صيحة وآهة ، وقد سيطر على قلبه ألم بلا نهاية ، حتى كان يعقد مأتما جديدا في كل لحظة ، وكم كان يئن ويتوجع على روح الفقيد وكم اكتسى وجهه بالدم من الألم والكمد ، وكان يلقي بنفسه وسط تراب الطريق ، كما كان يعض من الغيظ ظهر كفه ، وإذا قدر وأحصى شخص ما ذرف من دمع ، لكان أكثر غزارة من مائة مطر منهمر ، وظل يقضي ليلة بأكمله وحيدا حتى الصباح ، وكان كالشمعة يعيش بين الدموع والاحتراق . . وكلما هبت نسائم الصباح ، توجه السلطان صوب أسيره ؛ فكان يمضي بين الرماد والأتربة ، وتنهال المصائب عليه في كل لحظة ، وما أن انقضت على هذا الحال أربعون ليلة ويوما ، حتى أصبح السلطان العالي القدر نحيلا كالشعرة ، فقبع على نفسه مشغولا بحاله ، وأصبح عليلا من فرط عنايته بأمر معشوقه ، ولم يؤت أحد القدرة طوال الأربعين نهارا وليلة ، على محادثة السلطان بلفظة ، ولكن بعد انقضاء الأربعين ليلة بلا شراب أو طعام ، رأى السلطان ذلك الفتى ذات لحظة في المنام ، رآه وقد غرق وجهه القمري في الدموع ، كما غرق في الدماء من الرأس إلى القدم ، فقال له السلطان : أيها الرفيق المنعش للقلب ، لماذا غرقت هكذا في بحر الدماء من الرأس إلى القدم ؟ قال : لقد غرقت في الدماء من مودتك ، كما أصابني هذا من عدم وفائك ، لقد سلخت جلدي دون ذنب أو عصيان ، فهل هذا هو الوفاء أيها السلطان ؟ وهل هذا ما يفعله الحبيب في النهاية ؟ كم أكون كافرا إن يقدم كافر على هذه الفعلة ؟ ماذا فعلت حتى تصلبني ؟ وماذا فعلت حتى تقطع رأسي وتنكسني ؟ والآن أشيح بوجهي بعيدا عنك ، وأطلب ديتي حتى يوم القيامة منك ؟ وإذا ما انعقدت المحكمة الإلهية من أجلي ، فسيأخذ اللّه منك حقي . . ما أن سمع السلطان هذا الخطاب من الشبيه بالقمر ، حتى نهض من النوم ، وقلبه مفعم بالهم ، وسيطر الحزن على روحه وقلبه ، وتفاقمت في كل آونة همومه ومشكلته ، وألم به الجنون وفقد زمام نفسه ، وزاد نحوله ، وتضاعف غمه وانخرط في النحيب بكل شدة وحرقة ، وقال : يا روحي ، ويا قلبي ، ها أنذا خالي الوفاض ، لقد دمى قلبي وروحي بسبب ما ألم بك من اضطراب ، ويا من قتلت شرقتلة بسببي ، ومن بقيت في الشدائد بفعلتي ، من ذا حطم نفسه بنفسه مثلي ؟ ومن ذا صنع بيده ما اقترفت من فعل ؟ لم قتلت معشوقي وأصبحت جديرا بالأحزان والهموم ؟ فانظر ما أصابني في النهاية أيها الفتى ، ولا تقطع صلات الود والمحبة ، أيها الفتى ، ولا تفعل السوء ، وذلك لأنني ارتكبت مع نفسي كل هذا السوء . وهكذا تملكتني الحيرة والغم بسببك ، كما وضعت التراب على رأسي بسببك ، فأين أبحث عنك يا حبيبي ؟ لتكن رفيقا بقلبي المضطرب . إن كنت قد رأيت جفوة مني أنا عديم الوفاء ، فكن وفيا معي ، ولا تسلك طريق الجفاء ، وإن كنت قد أرقت دم جسدك بجهالة ، أيها الغلام ، فما أكثر ما تسفك دماء روحي ، أيها الغلام . لقد ثملت ، فبدر مني هذا الخطأ ، فماذا أفعل وقد قدر القضاء عليّ هذا الخطأ ؟ فإن مضيت من أمامي على الدوام ، فكيف أحيا بدونك في هذا العالم ؟ وإن كنت لا أقوى لحظة على فراقك ، فلن أستطيع الحياة أكثر من لحظة أو لحظتين بدونك ، لقد بلغت روح السلطان شفته لفراقك ، وذلك لكي ينثر روحه دية لدمائك ، وأنا لا أخشى الموت والتخلي عن جسدك ، ولكن ما أخشاه هو جفوتك . حتى ولو ظلت روحي خالدة تطلب المعذرة ، فلن تستطيع إيجاد العذر لتلك الجريرة ، فيا ليت حلقي قطع بالسيف ، لتقلّ هذه الآلام والأسى من قلبي . أيها الخالق ، لقد احترقت روحي في هذه الحيرة ، كما احترق جسدي كله من الحسرة ، لا طاقة لي ولا قدرة على هذا الفراق ، وما أكثر ما احترقت روحي من الاشتياق ، فلتنعم عليّ يا إلهي العادل ، بقبض روحي حيث فقدت الطاقة للتحمل . قال هذا ، ثم لزم الصمت ، وفقد العقل في هذا الصمت ، وأخيرا أدركه رسول العناية ، فأخذ يلهج بالشكر بعد الشكاية ، فما أن فاقت آلام السلطان كل حد ، حتى أسرع الوزير بالاختفاء في تلك الآونة ، وأظهر ذلك الغلام خفية ، ثم أرسله أمام سلطان الدنيا ، فخرج من خلف الحجاب كما يخرج القمر من بين السحاب ، ومثل أمام السلطان يحمل كفنا وسيفا ، وسقط على الأرض أمام السلطان وبكى بكاء مرا ، وتساقطت دموعه كالمطر . عندما رأى سلطان الدنيا ذلك البدر ، لا أعلم ماذا أقول في هذا الزمان ، فقد وقع السلطان على الأرض ، كما تدرج الغلام في الدم ، ولا يعلم أحد قط ، كيف وقعت هذه العجائب . فكل ما أقوله بعد ذلك لا يصح قوله ، فإذا كان الدر في القاع ، لا يمكن ثقبه ، وما أن أدرك السلطان من فراقه الخلاص ، حتى ذهبا سويا إلى الإيوان الخاص ، وبعد هذا لم يقف أحد قط على الأسرار ، لأن ذلك المكان ليس موضعا للأغيار ؛ فأنّي للأعمى أن يرى وللأصم أن يسمع ما كان ينطق به أحدهما ، وما ينصت إليه الآخر ؟ ومن أكون أنا حتى أستطيع شرح ما حدث ، وإن أشرح ذلك ، أسبب الآلام لروحي ، إذ كيف أشرح ما لم أقف عليه ؟ لذا يلزمني الصمت ، حيث أصابني العجز في ذلك ، وإن يسمح لي سادتي بشرحه فليأمروني بسرعة شرحه ، ولقد أتممت في هذا الوقت الكلام ، والآن جاء وقت العمل ، لأنني كثيرا ما أتكلم ، والسلام . خاتمة الكتاب الأبيات من 4424 - 4474 لقد نثرت يا عطار نافجة المسك المليئة بالأسرار ، على هذا العالم في كل آونة ، فامتلأت آفاق الدنيا بعطرك ، كما زاد اضطراب عشاق الدنيا بسببك ، فتكلم دائما في العشق ، وردد دواما أغاني العشاق ، فشعرك يمد العشاق بذخيرة على الدوام ، كما يتخذه العشاق حلية على مر الأيام ، وختم عليك منطق الطير ومقامات الطيور ، كما ختم على الشمس بالنور ، وهذه المقامات طريق أي حائر ، كما أنها ديوان أي مضطرب ، فتخل عن اضطرابك وحيرتك وتقدم إلهذا الميدان ، وفي هذه الحالة لا تظهر الروح في ذلك الميدان ، بل لا يظهر الميدان نفسه ، وإن تتقاعس عن التقدم إليه مما بك من اضطراب ، فلن تظهر لك منه ذرة من تراب وإذا انطلقت مطية آلامك ، فتقدم . وإن تخط فيه ، فحقق أملك . . . وطالما لا يصبح اليأس قوتك ، فكيف يستطيع قلبك المبهوت العيش ، وتحمل الآلام فدواؤك هو داؤك ، وداؤك في كلا العالمين هو دواء روحك . أيها السالك ، لا تنظر إلى كتابي على أنه شعر أو أنه يتسم بالتقدير ، ولكن انظر في دفتري من باب الآلام والاضطراب ، فلعلك تصدق ألما واحدا من آلامي العديدة ، ويحمل كرة الحظ على الأعتاب من ينظر إلى العمل من زاوية الألم والاضطراب ، فتخل عن الزهد والسذاجة ، إذ لابد من التردي في الألم . إلهي ، لتحرم كل من شغل بالآلام من كل دواء ، ولتحرم كل راغب في الدواء من الروح ، ولتجعل الإنسان على الدوام ظمآن ، جائعا ، ساهدا ، ولا توصله إلى الماء أبدا ، فكل من يتنسم قولا من هذا الديوان دون أن يدرك شعرة من طريق العشاق ، ليس خليقا بأفعال الرجال . أما من اطلع عليه فقد أصبح خليقا بالأعمال ، ومن أدركه تحققت سعادته . أهل الصورة غرقى بحار كلامي ، وأهل المعنى رجال أسراري ، وهذا الكتاب حلية الأيام ، وفيه نصيب للخاص والعام ، ومن يشبه الثلج ويطلع على هذا الكتاب ، يخرج كالنار متقدا من خلف الحجاب . ونظمي يتسم بميزة عجيبة ، إذ يولد في كل آونة معاني جديدة ، فإذا تيسرت لك مطالعته أكثر من مرة ، فسيزداد ، بلا ريب ، حسنا لديك في كل مرة ، ولا يمكن أن ترتفع الحجب عن هذه العروس المدللة ، إلا بالتدرج . وإلى يوم القيامة لن يكتب إنسان قط كلاما مثل كلامي أنا الولهان ، فقد نثرت الدر من بحر الحقيقة ، كما ختم الكلام علي ، وهذه هي الوثيقة . . وإن أثن كثيرا على نفسي ، فمتى يستعذب شخص ذلك الثناء مني ؟ ولكن المنصف نفسه يعرف قدري ، لذا فلن يختفي نور بدري ، ولقد أخفيت حالي ، ولم أقل إلا القليل ، حيث سينصفني ، بلا ريب ، كل عالم بفنون القول . وإن لا أبق حتى يوم القيامة ، فقد بقيت بذلك الذي نثرته على مفرق البرية ، لذا سأذكر على لسان القوم حتى يوم القيامة ، وكفاني هذه التذكرة ، وإن تلاشت من الوجود هذه الأفلاك التسعة ، فلن تضيع من هذه التذكرة أي نقطة ، وإن يوضح هذا الكتاب الطريق لأي شخص ، فإنه يرفع بعد ذلك الحجب من أمامه ، ومن يصل إلى الطمأنينة من هذه التذكرة ؛ فليدع : ليحفظ اللّه قائلها . . لقد نثرت الورد من هذا البستان ، فتذكروني بالخير ، أيها الأصدقاء ، ولكل إنسان ما يوافقه في هذا الكتاب ، وقد تجلى لحظة ، وولى مسرعا ، ولا جرم أنني كالسالكين ، جلوت طائر الروح على النائمين . وإن كنت قد قضيت عمرا مديدا في سبات ، فلعل قلبك يتنبه إلى الأسرار بهذا الكلام ذات لحظة ، واعلم بلا ريب أن عملي سيحرز التوفيق ، ويتلاشى غمي وتتبدد أحزاني . . وما أكثر ما أحرقت نفسي كمصباح ، حتى أضأت الدنيا وكأنني شمع ، وأصبحت رأسي كالمشكاة من الدخان ، فإلام يشعل شمع خلدي المصباح ؟ لقد ولى نهار طعامي ، وانقضى ليل نومي ، ونضب ماء كبدي من نار قلبي ، وقلت لقلبي : أيها الثرثار ، لقد تكلمت كثيرا ، فصه ، وابحث عن الأسرار ! فقال : إنني غريق ناري ، فلا تلمني . إن أكف عن الكلام ، أحترق ، لقد ماجت مئات الاضطرابات في بحر روحي ، فكيف أكف عن الكلام ساعة ؟ لست أفاخر أحدا بهذا ، وانما أشغل نفسي بهذا ، وما أكثر ما أقول مع أن القلب لا يخلو من آلام هذا ، إذ كيف لا أكون رجل هذا ؟ إن هذا كله خرافة باطلة ، لأن عمل الرجال متحرر من الأنية ، وأي قلب يشغل بهذه الخرافة ، ماذا يصدر عنه ، إذا كان الحديث قد أصابه البلى ؟ ولكن يجب ترك الروح لتتحدث مئات المرات لتطلب المغفرة عن المفاسد كلها ، وكم يلزم أن يظل بحر الروح في هياج وغليان ، كما يجب نثر الروح ، والتذرع بالصمت . . . خاتمة الكتاب حكاية 1 الأبيات من 4488 - 4492 أشرف أحد العلماء على النزع الأخير ، فقال : ليتني كنت أعلم من قبل أن السماع له الشرف على القول ، وقد أتلفت عمري في الثرثرة والقول . وإذا كان الكلام كالذهب في حسنه ، فإن الكلام الذي لم يقل أفضل منه ، لقد أصبح العمل من نصيب الرجال ، ومحور ألمي ، أن نصيبنا كان في الأقوال ، فإن أصابتك كالرجال الآلام من أجل الدين ، فسيكون ما أقوله لك من باب اليقين ، أما إذا كان قلبك بعيدا عن المعرفة ، فكل ما أقوله يكون بالنسبة لك كالخرافة ، فارقد في النعيم مثل العصاة ، حتى أقول لك خرافة جميلة ، وقد أجاد لك العطار ، حتى ولو كان حديثه خرافة ، والنوم أفضل لك ، فارقد في غبطة . . ما أكثر ما سكبنا الدهن على الرمال ! وما أكثر ما علقنا الجواهر حول أعناق الخنازير ! وما أكثر ما زينا هذا الخوان ! ولكن ما أكثر ما نهضنا جائعين من على هذا الخوان ! وما أكثر ما قلت ، ولكن النفس لم تطع ! وما أكثر ما صنعت للنفس من دواء ، ولكنه لم ينجع ! . وما دمت لا أستطيع القيام بأي عمل، فقد نفضت يدي من نفسي ،وانتحيت جانبا. لابد من همة تطلب من السباقين ، لأن ما بيدي لن يستقيم مطلقا ، وإذا كانت النفس تزداد سمنة في كل آونة ، فليس هذا سببا يعلي مما لها من مكانة ، إنها لم تسمع شيئا ، لذا زادت سمنة ، بل لقد سمعت كل شيء ، ومع ذلك لم يتحسن حالها . وحتى لو أموت متألما متأوها ، فلن تمتثل للنصح فالأمان . . يا رب ، الأمان . . خاتمة الكتاب حكاية 2 الأبيات من 4493 - 4515 عندما مات الإسكندر في طريق الدين ، قال له ارسطا طاليس : يا سلطان الدين لقد كنت تنصح الناس في حياتك ، أما وقد مت فقد اكتملت اليوم هذه النصائح للخلق ! . أيها القلب ، لتمتثل للنصح ، فأنت دوامة البلاء ، ولتكن حي القلب ، فإن الموت في إثرك ؛ لقد قلت لك لغة الطير وكلامها كله ، فافهم أيها الجاهل الأبله ، وبين الطيور تنفق بعض الطيور ، لذا فهي تطير من أقفاسها قبل أن يدهمها الأجل ، ولهذا كلّه شرح وبيان آخر ، وذلك لأن للطير لغة ولسانا آخر ، وذلك الشخص قد صنع إكسيرا أمام السيمرغ ؛ وذلك لأنه عرف لغة الطير كلها . . أنّى لك أن تعرف عالم الروحانيين من بين حكمة اليونانيين ؟ وإن لم تستطع التخلي عن هذه الحكمة ؛ فكيف تستطيع أن تكون رجلا لما في الدين من حكمة ، وكل من يتمثلها في طريق العشق ، فهو في مجال الدين ليس خبيرا بالعشق . وبحق المعرفة إنني أفضل في هذا المجال كاف الكفر على فاء الفلسفة ، وذلك إن تتكشف الحجب عن الكفر ؛ فإنك تستطيع أن تحترز من الكفر ، ولكن إذا قطع علم الجدل الطريق فما أكثر ما يقطع على العارفين الطريق . وإذا قدر وأضاء قلب من تلك الحكمة فلم أحرقها الفاروق عمر كلها ؟ فمنذ أن أحرق شمع الدين حكمة اليونان ، ما استطاع شمع الدين الاشتعال من هذا العلم . فيا رجل الدين حسبك حكمة يثرب ، ثم انثر التراب على اليونان من طريق الدين . . يا عطار ، إلام تتكلم ، وأنت لست رجل هذا العمل العظيم ؟ لتتطهر من وجودك ، ولتكن ترابا من العدم منثورا على وجه الأرض . وما دمت ذليلا لكل حقير ؛ فلن تكون تاجا لمفرق أي شخص . ولتفن نفسك حتى تفسح جميع الطيور لك طريقا للبقاء حتى الإيوان . إن قولي مرشد لكل شخص ، فليكن هذا القول مرشد طريقك وكفى ! ولو أنني لست شيئا يذكر بالنسبة لطيور الطريق ، فيكفيني أنني قد ذكرتها . وأخيرا هل يصيبني الدوار من هذه القافلة ؟ وهل يكون نصيبي الألم من هؤلاء السالكين ؟ خاتمة الكتاب حكاية 3 الأبيات من 4516 - 4550 قال شيخ مسن لرجل صوفي : إلام تتحدث عن رجال الحق ؟ قال : إنه يطيب للساني على الدوام كل ما يقال عن هؤلاء الأقوام ، وإن لم أكن منهم ، فكفاني أن أتحدث عنهم . ويسعدني أن أقول هذا بوحي من روحي ، فحينما لا يكون لي نصيب من السكر غير الاسم ؛ فهذا أفضل بكثير من أن يكون في السم . . ديواني كله ضرب من جنون ، والعقل جد غريب عنه ، ولا أعلم إلام أتكلم ويا للعجب ! وإلام أبحث عن شيء لم يضع ويا للعجب ! من الحماقة أنني قلت بترك الحظ وقلت درس المتعطلين الغافلين ، وإن يقولوا لي : يا من ضللت الطريق اطلب لنفسك المعذرة من الذنوب . فلا أعلم متى يستقيم هذا الأمر ، وهل أستطيع طلب المعذرة عن هذا العمر المديد؟ فإذا كان لي مقام في طريقه ، فإن شين شعري قد أصبحت شين شرى على الدوام ، ولو شغلت بالسير في طريقه ؛ فكيف استغرق هكذا في الشعر ؟ وقول الشعر حجة الإخفاق ، ورؤية النفس دليل الجهل . ولقد أكثرت من قول الشعر ؛ ما دمت لم أر في الدنيا إنسانا محرما . . إن كنت من أهل الأسرار فداوم البحث ، وابذل الروح واسفك الدماء وابحث عن السر ، وها أنا قد نثرت الدم مع الدمع ، وتحدثت بحديث دام ، فإن تتنسم بحري العميق ، فإنك تتنسم رائحة الدم من كلامي . وكل من أضير بسموم البدعة ، كانت هذه الكلمات العظيمة الترياق له . ومع أنني عطار وصانع ترياق ، فلي كبد محترق كأي محزون . . الخلق كلهم بلا وفاء ، وغاية في الجهل ، لذا فقد تحملت الآلام وحدي ، وإذا أقمت مائدة من خبز جاف . أبلله بدموع عيني ، ثم أطهو طعامي على نار قلبي ، وأحيانا أدعو جبريل ليكون ضيفي ، وإذا كان روح القدس نديمي ، فكيف أستطيع قضم خبز أي خطّاء ؟ وأنا لا أرغب في خبز كل ذي طبع سئ ، ويكفيني ما عندي من خبز وإدام . . لقد أصبح غنى القلب هو سعادتي ، وأصبحت الحقيقة كنزي الذي لا يفنى ، وكل غني يكون مثل هذا الكنز في حوزته ، كيف يذل نفسه لمنة من السفلة ، فشكرا للّه أني لم ألجأ إلى قصر ، ولم أكن ذليلا لأي حقير ولم أربط قلبي بأي شخص ، ولم أجعل أي حقير سيدا ، ولم أطعم من خوان أي ظالم ، ولم أهد أي كتاب لأي شخص ؛ فممدوحي هو الهمة العالية فقط ، وقوة جسدي هي قوة روحي فقط . وقد استدعاني الأخيار إلى صفهم ، فلم يكون اهتمامي بمن يعجبون بأنفسهم ؟ . ما أن تخلصت من أمور الخلق ، حتى عمني السرور ولو أحاطت بي مئات المصائب . لقد تخلصت من جميع الأشرار والأطهار ، سواء كنت ممدوحا لديهم أو مذموما . وهكذا شغلت بآلامي ، ونفضت يدي من جميع الأقوام . فإذا سمعت آلامي وأحزاني ، فستكون أكثر حيرة مني ، والآن هزل الجسم ونضبت الروح ، وما عاد لي نصيب من الروح والجسم سوى الحسرة والألم . . خاتمة الكتاب حكاية 4 الأبيات من 4551 - 4569 قال أحد السالكين وقت حلول الأجل : إنني لا أملك زاد الطريق ، لقد عجنت قبضة من طين بللتها بعرق خجلي ، وصنعت منها آجرة ، وفي حوزتي زجاجة مليئة بالدمع ، وجمعت كل ممزق من أجل الكفن ، فغسلوني بالدموع أولا ، ثم ضعوا الأجرة تحت رأسي ثانية ، وقد لوثت هذا الكفن بالدمع ؛ فوا أسفاه على كل ما كتبت . وعندما تلبسوا جسدي هذا الكفن الطاهر ؛ فسارعوا بمواراته التراب وإذا فعلتم هذا فلن يسقط من الغمام على قبري غير الندم حتى يوم الحشر . وهل تعلم من أين يتولد هذا الندم ؟ إن البعوضة لا تستطيع الحياة مع الرياح ، كما أن الظل يبحث دائما عن الوصال مع الشمس ، وما حظي به مطلقا ؛ فما أعظم عشق المحال ! ومع أن هذا يبدو غاية في المحال ، فلا عمل له إلا التفكير في المحال . وكل من يفكر في ذلك ؛ فأي شي أفضل منه يستحق التفكير فيه ؟ . . إن مشكلتي تزداد تعقيدا في كل لحظة ، فكيف يتخلص قلبي من هذه المشكلة ؟ فمن ذا ظل وحيدا فريدا مثلي ؟ ومن ظل صادي الشفة وهو غريق في البحر ؟ فلا صديق لي قط ولا رفيق ، ولا قرين لي في الآلام ، ولا محرم. وليس لي همة في الجنوح إلى ممدوح ، وليس لي من الظلمة خلوة مع الروح ، ولست متعلقا بقلب أحد ، ولا بقلبي كذلك ، ولا أهتم بحسن أو بقبح كذلك ، ولا أميل إلى لقمة أو إحسان من سلطان ، ولا إلى صفعة على القفا من حاجب سلطان ! ولا أستطيع الصبر على الوحدة لحظة واحدة ، ولا أستطيع البعد عن الخلق بالقلب لحظة واحدة ، وهذه حالي في سموها وخستها ، وبمثل هذا حدثني الشيخ عن نفسه . . خاتمة الكتاب حكاية 5 الأبيات من 4570 - 4581 قال أحد الأطهار : لقد قضيت ثلاثين عاما ، وأنا في حالة وله دواما ، وقد كنت كإسماعيل في غم خفي ، عندما هم أبوه بذبحه ، فهل يوجد شخص يقضي عمرا مديدا كتلك اللحظة التي قضاها إسماعيل ؟ وهل يعلم أي شخص كيف أقضي في هذا الحبس والألم ليلي ونهاري ؟ إنني أحترق أحيانا كالشمعة من الانتظار ، وأبكي أحيانا كسحب الربيع . فأنت ترى ضياء الشمعة ، ولكنك لا ترى النار تشتعل في رأسها ، فمن ينظر إلى خارجي ، كيف يجد الطريق إلى داخلي ؟ إنني ككرة مضطربة في رأس صولجان ، فلا أعلم قدمي من رأسي ، ولا رأسي من قدمي . . إنني لا أرى نفعا من وجودي ، لأن ما قلته ، وما فعلته ، ضاع وتبدد ، وا أسفاه ليست لي بأحد صداقة ، وضاع عمري في بطالة ، وعندما كنت قادرا ، كنت جاهلا ، فما الفائدة ، وعندما أدركت ، فقدت المقدرة . وفي هذا الزمان حيث العجز والمسكنة ، لا أعرف لي حيلة سوى الذلة والغم ! خاتمة الكتاب حكاية 6 الأبيات من 4582 - 4599 ما أن رحل الشبلي عن هذه الدار الخراب ، حتى رآه بعد ذلك في منامه شاب ، فقال له : ماذا فعل الحق معك أيها الموفق ؟ قال : حينما اشتد معي في الحساب ، ورآني عدو نفسي ، كما رأى عجزي وضعفي ويأسي ، تنزلت رحمته علي أنا المسكين ، وصفح عني مرة واحدة بعظيم كرمه . يا خالقي ، إنني ذليل في الطريق بسببك ، وكالنملة العرجاء في قاع البئر بسببك ، ولست أعرف من أي صنف أكون ؟ وإلى أين أسير ؟ ومن أكون ؟ إنني ضعيف واهن مغموم ، كما أنني حزين لا أعرف الاستقرار وكلي هموم ، وفي الأحزان قضيت كل عمري ، ولم أنل نصيبا من هذا العمر ، فكل ما فعلته كان ذنوبا وخطايا ، وها قد تراقصت روحي على شفتي ، ووصل عمري إلى النهاية ! لقد ولى الدين من يدي ، كما ضاعت متع الدنيا مني ، ولم تبق الصورة لدي ، كما ضاع المعنى مني . لم أعد مسلما ، ولا كافرا ، فقد تملكتني الحيرة بين كلا الأمرين ، وحيث أني لست مسلما ولا كافرا ، فماذا أفعل ؟ لقد تملكتني الحيرة والاضطراب ، فماذا أفعل ؟ إنني أصبحت أسير طريق الضيق ، وظل وجهي في الحائط وراودني ظن عميق ، فافتح أمامي أنا المسكين هذا الباب ، وأجل الطريق مما راودني فيه ، وإذا لم يملك العبد زاد الطريق مطلقا ، فلن يستريح من الدموع والآهات مطلقا . وأنت تستطيع إحراق الخطايا بآهاتي ، وتستطيع أن تغسل هذا الديوان المسطر بدموعي ، فلتقل لكل من ذرف الدمع كالبحار ، أقبل ، فهو جدير بهذه الديار ، وقل لمن لم يصب بالهموم والأحزان ، امض ، فهو غير جدير بالأعمال . . خاتمة الكتاب حكاية 7 الأبيات من 4600 - 4611 كان أحد المرشدين يسير في طريق ، فرأى جمعا من الملائكة ، وكان المال رائجا بينهم ، وقد تخاطفه الملائكة فيما بينهم ، فسأل الشيخ هؤلاء القوم سؤالا : ألا تقولون لي ما هذا المال ؟ فقال طائر روحهم : يا شيخ الطريق ، لقد مر مكلوم من هنا ، وزفر زفرة من قلبه الطاهر ومضى ، وأسقط دمعة ساخنة على التراب ، ومضى ، ونحن الآن نحمل تلك الدمعة الساخنة ، والآهة الباردة ، ونتناقلها بيننا في طريق الألم والغصة . . إلهي ، لقد تعددت دموعنا وآهاتنا ، أفلا نجد مثل هذا الاهتمام مطلقا ؟ وإذا كانت الدموع والآهات مقبولة هناك ، فعبدك يملك الكثير من هذا المتاع هناك ، فلتطهر روحي بالآهة ، ولتغسل لوحي بالدمعة . لقد ظللت مقيدا في الحبس والسجن ؛ فمن ذا يأخذ بيدي غيرك في مثل هذا السجن ؟ لقد تلوث جسدي في السجن كما بلي قلبي بالكثير من المحن ، فإذا كنت قد أقبلت ملوثا هكذا في الطريق فاعف عنّي ، حيث أقبلت من الحبس والسجن . . خاتمة الكتاب حكاية 8 الأبيات من 4612 - 4619 قال العزيز : إن يبادرني ذو الجلال ، في الغداة ببيداء الحشر بهذا السؤال : ماذا أحضرت من الطريق أيها الواهن ؟ أبادر بالقول أي شي جدير بالإحضار من هذا السجن ؟ لقد جئت من السجن غريق إدباري ، جئت حائرا فاقدا رأسي وقدمي ، وليس في يدي غير قبض الريح ، ولست إلا تراب محلتك ، ولست إلا عبدا سجينا في محبسك ، وكم آمل ألا تبيعني ، وأن تخلع عليّ خلعة من فضلك ، وأن تطهرني من كل هذا الدنس ، وأن تواريني التراب على الإسلام ، وأن تصفح عن كل ما فعلته من خير وشر ، وعندما يختفي جسدي بين التراب والآجر ، فكيف يكون خلقي قد تم عبثا ؟ ولكن ما أجمل أن تغفر لي عبثي ! . خاتمة الكتاب حكاية 9 الأبيات من 4620 - 4628 عندما أصبح نظام الملك في النزع الأخير ، قال : إلهي ، هكذا أرحل ، وما في كفي سوى قبض الريح ! . إلهي ، وخالقي ، كل ما قلته ، وما رأيته كان من أقوالك . لقد اخترته من بين كل شيء ، وصاحبته ولازمته . وتعلمت منك فن الشراء ، لذا فلن أبيعك يوما بآخر مطلقا ، وما أكثر ما اشتريتك ، ولم أبعك مطلقا ، كما يفعل كل شخص ، ففي النهاية اشترني يا إلهي ؛ فأنت خليل من لا خليل له ، فأعني يا إلهي ، وساعدني يا رب لحظة في تلك الآونة ، إذ لا حاجة بي لأي شخص غيرك في هذه اللحظة . وعندما ينفض أصدقائي المشيعون الأطهار أيديهم من ترابي ، مد إلي يدك في تلك الساعة ، حتى أسارع بالتعلق بأذيال فضلك . "" نظام الملك : أعظم وزير في الدولة السلجوقية وما قبلها وزير لألب أرسلان وملك شاه من الفترة من 455 إلى 485 هـ . وكان نظام الملك ذا فضل عظيم على الثقافة الإسلامية بإنشائه المدارس النظامية ، كما ألف كتابا في سياسة الحكم هو ( سياست ‌نامه ) . ومات قتيلا على أيدي الإسماعيلية في عام 485 هـ . راجع ابن الأثير ، حوادث عام 451 - 485 هـ. "" خاتمة الكتاب حكاية 10 الأبيات من 4629 - 4637 على الرغم من عظمة سليمان ، فقد وجه هذا السؤال إلى نملة عرجاء بكل مسكنة ، فقال : تكلمي يا من أكثر غما مني ! أي طينة قد عجنت بالهموم والأحزان أكثر من الكل ؟ قالت : إنها الأجرة الأخيرة في المقبرة الضيقة ، حيث أن الأجرة الأخيرة التي تلتصق بالأرض تقطع الصلة بكل أمل . . من يقبع تحت التراب مثلي ، يا طاهر الذات ، يقطع الأمل من كل الكائنات . وأخير تخفي الأجرة وجهي ، فلا تبعد وجه الفضل عن وجهي ، فحينما ينهال علي التراب ، أكون في اضطراب ، فلا توجه نحو وجهي أي شي من أي صوب . وكم أتمنى ألا تواجهني بأي شيء من خطاياي العديدة يا إلهي ، أنت كريم مطلق ، فاصفح عن كل ما انقضى وولى يا إلهي ! . خاتمة الكتاب حكاية 11 الأبيات من 4638 - 4647 كان أبو سعيد ميهنه في حمام ، وكان القائم بالخدمة غير ذي تجربة ، ففرك الأوساخ عن جسد الشيخ ، وجمعها كلها أمام الشيخ . ثم قال :خبرني يا طاهر الروح ، كيف تكون المروءة في الدنيا ؟ فقال الشيخ : يجب إخفاء الدنس ، وعدم إظهاره أمام أعين الناس . كان الجواب في محله ، فخر القائم بالعمل ساجدا أمام قدمه ، وعندما أقر بجهله ، استحسن الشيخ ذلك منه ، وطلب المغفرة له . يا خالقي المنعم ، ويا سلطاني المبدع المكرم ، إن مروءة خلق العالم ما هي إلا قطرات من بحر فضلك . أنت قائم مطلق ، ولكن بالذات ، ومن المروءة أنك لا تأتي في الصفات ، فاصفح عن وقاحتنا وجسارتنا ، ولا تورد دنسنا أمام أعيننا ! . . * تم بحمد الله رب العالمين عبدالله المسافر بالله . فهرس كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري 01 - مقدمة المحقق والتمهيد لكتاب منظومة منطق الطير 02 - خطبة العطار لمنظومة منطق الطير الأبيات من 001 - 592 03 - المقالة الأولى : في اجتماع الطير الأبيات من 593 - 657 04 - المقالة الثانية : حديث الهدهد مع الطير في طلب السيمرغ الأبيات من 658 - 724 05 - المقالة الثالثة : عذر البلبل الأبيات من 725 - 777 06 - المقالة الرابعة : عذر الببغاء الأبيات من 778 - 794 07 - المقالة الخامسة : عذر الطاووس الأبيات من 795 - 822 08 - المقالة السادسة : عذر البطة الأبيات من 823 - 845 09 - المقالة السابعة : عذر الحجلة الأبيات من 846 - 886 10 - المقالة الثامنة : عذر الهما الأبيات من 887 – 914 11 - المقالة التاسعة : عذر الصقر الأبيات من 915 – 949 12 - المقالة العاشرة : عذر مالك الحزين الأبيات من 950 – 978 13 - المقالة الحادية عشرة : عذر البومة الأبيات من 979 – 1000 14 - المقالة الثانية عشرة : عذر الصعوة الأبيات من 1001 – 1029 15 - المقالة الثالثة عشرة : ذكر الطير جميعا الأبيات من 1030 – 1132 16 - المقالة الرابعة عشرة : سؤال الطير للهدهد في قطع الطريق الأبيات من 1133 – 1564 * وحكاية الشيخ صنعان وعقده الزنار لعشقه الفتاة المسيحية الأبيات من 1159 – 1564 17 - المقالة الخامسة عشرة : اتفاق الطير على السير إلى السيمرغ الأبيات من 1565 – 1600 18 - المقالة السادسة عشرة : في قطع الطير للطريق الأبيات من 1601 – 1628 19 - المقالة السابعة عشرة : اعتذار طائر الأبيات من 1629 – 1707 20 - المقالة الثامنة عشرة : عذر طائر آخر الأبيات من 1708 – 1793 21 - المقالة التاسعة عشرة : عذر طائر آخر الأبيات من 1794 – 1884 22 - المقالة العشرون : عذر طائر آخر الأبيات من 1885 – 1939 23 - المقالة الحادية والعشرون : عذر طائر آخر الأبيات من 1940 – 1998 24 - المقالة الثانية والعشرون : عذر طائر آخر الأبيات من 1999 – 2050 25 - المقالة الثالثة والعشرون : عذر طائر آخر الأبيات من 2051 – 2119 26 - المقالة الرابعة والعشرون : عذر طائر آخر الأبيات من 2120 – 2293 27 - المقالة الخامسة والعشرون : عذر طائر آخر الأبيات من 2194 – 2279 28 - المقالة السادسة والعشرون : عذر طائر آخر الأبيات من 2280 – 2364 29 - المقالة السابعة والعشرون : عذر طائر آخر الأبيات من 2365 – 2376 30 - المقالة الثامنة والعشرون : عذر طائر آخر الأبيات من 2446 – 2515 31 - المقالة التاسعة والعشرون : عذر طائر آخر الأبيات من 2516 – 2574 32 - المقالة الثلاثون : سؤال طائر آخر الأبيات من 2575 – 2634 33 - المقالة الحادية والثلاثون : سؤال طائر آخر الأبيات من 2627 - 2716 34 - المقالة الثانية والثلاثون : سؤال طائر آخر الأبيات من 2717 - 2792 35 - المقالة الثالثة والثلاثون : سؤال طائر آخر الأبيات من 2793 - 2862 36 - المقالة الرابعة والثلاثون : سؤال طائر آخر الأبيات من 2872 - 2973 37 - المقالة الخامسة والثلاثون : سؤال طائر آخر الأبيات من 2966 - 3020 38 - المقالة السادسة والثلاثون : سؤال طائر آخر الأبيات من 3024 - 3117 39 - المقالة السابعة والثلاثون : سؤال طائر آخر الأبيات من 3139 - 3201 40 - المقالة الثامنة والثلاثون : سؤال طائر آخر الأبيات من 3202 - 3312 * وبيان الوادي الأول وادي الطلب 41 - المقالة التاسعة والثلاثون : في وصف وادي العشق الأبيات من 3313 - 3455 42 - المقالة الأربعون : بيان وادي المعرفة الأبيات من 3456 - 3557 43 - المقالة الحادية والأربعون : في وصف وادي الاستغناء الأبيات من 3558 - 3672 44 - المقالة الثانية الأربعون : في وصف وادي التوحيد الأبيات من 3673 - 3778 45 - المقالة الثالثة والأربعون : في وصف وادي الحيرة الأبيات من 3779 - 3919 46 - المقالة الرابعة والأربعون : في صفة وادي الفقر والفناء الأبيات من 3920 - 4103 47 - المقالة الخامسة والأربعون : في سلوك الطير صوب السيمرغ الأبيات من 4104 - 4423 48 - خاتمة الكتاب الأبيات من 4424 - 4647 . 2